18 ديسمبر، 2024 6:04 م

التجسيد المحاصصي لمفهوم ” العقد الاجتماعي”

التجسيد المحاصصي لمفهوم ” العقد الاجتماعي”

عندما حاول رئيس الوزراء المخلوع عادل عبد المهدي التعريض بانتفاضة تشرين َالشعبية وشبابها, أشار إلى مفهوم ” الدولة واللادولة ” للإشارة الى ما شكلته ( فوضى ) الانتفاضة من تهديد لكيان التحاصص النهبوي. في الوقت الذي كانت فيه الميليشيات تصول وتجول وتسرح وتمرح تحت غطاء رسمي او تعامي متعمد عن جرائمها, حيث كانت تغتال من تريد بالكاتم تحت سمع وبصر حكومته وتخطف الناشطين, براحتها, وتغيبهم, وتغير على ساحات التظاهر لترتكب مذابح مروعة بحق شباب مسالم.

ولتبرير تغاضي الدولة واجهزتها الامنية عن مرتكبي الجرائم, المعروفين لديها ولدى المواطنين, لتبرئة نفسها والقتلة, فبركت الحكومة واحزابها كذبة وجود ” طرف ثالث ” شبحي هلامي كلي القدرة هو الذي ارتكب المذابح بحق مواطنيها, وتناسى الجميع بمن فيهم رئيس الحكومة حينها عادل عبد المهدي فذلكته عن مفهوم ” اللادولة ” وكأن وجود طرف ثالث يلبس طاقية اخفاء, وله امتياز تصفية من لايعجبه, لا يدخل ضمن مفهوم ” نقيض الدولة ” وليس فوضى يهدد كيان الدولة وهيبتها, وبالتالي يدين تهربها من أداء مسؤولياتها في ضمان الأمن والأمان المجتمعي الذي يكفله الدستور باعتباره وثيقة عقد اجتماعي بين من يحكم ومواطني البلاد.

” العقد الاجتماعي ” بين الدولة والشعب بأبسط تفسيراته هو – تضمن الدولة الأمن والأمان مع توفير أبسط مقومات الحياة واستمرارها مقابل ان يحترم الشعب القوانين والأنظمة التي تسنها الدولة, الملزمة للجميع.

نظام المحاصصة الطائفية – العرقية الذي وضع أسسه الاحتلال الامريكي, لم يكن عقداً اجتماعياً عادلاً وهو لا يتناسب حتى مع المعايير الامريكية للديمقراطية. لكن أحزاب السلطة تلقفته لتجعله نهجاً ثابتاً, عملت عليه الحكومات المتعاقبة. هو, في حقيقته, اتفاق توزيع مغانم فيما بين أحزاب أعطت كياناتها امتياز احتكار تمثيل المكونات من الشيعة والسنة والأكراد, وتمسكت به كعرف ورفعته إلى مستوى أعلى من بنود الدستور الذي لا يشير إلى هذا التوزيع الفئوي الفج وإلى إضفاء القدسية عليه بعد ان استطعمت ثمراته.

ان اعتبار نهج المحاصصة النهبوي كرديف ل ” عقد اجتماعي ” او تجسيد له أثبتت الحياة خطله. لأن الدولة ممثلة بمؤسساتها وحكوماتها واحزابها المتحاصصة لم تؤد التزاماتها في هذا ” العقد ” يوماً. ولم تخدم سوى طرفاً متنفذاً يمتلك سلاحاً شرعياً وغير شرعي من أطراف العقد, لتأمين مصالحه فحسب, بينما تجاهل معاناة الملايين من غياب الأمان. والقتل على الهوية وفوضى السلاح وشيوع الفساد وتكاثر الميليشيات وعصابات الجريمة المنظمة ومهربي المخدرات…. اضافة الى غياب الخدمات وتفشي البطالة والفقر الاجتماعي…

لقد تحولت الدولة الى نقيضها – ” لا دولة “, بالمعنى الحرفي, بعدما ابتلعتها احزابها المتنفذة من خلال تحاصص الوزارات والمؤسسات الرسمية وتحكم مكاتب الأحزاب الاقتصادية في النشاطات المالية والاقتصادية والاستحواذ على العقارات وفروع الاقتصاد عامة.

أكدت الأحداث بان فترة انتفاضة تشرين/ أكتوبر ٢٠١٩ وفي إطار المساحات التي كانت فاعلة فيها جسدت مفهوم ” الدولة ” الحقيقي, وحضور مباديء ” العقد الاجتماعي ” بين جنباتها, قبل تسلل أفراد الأحزاب الفاسدة المدفوعين لتخريبها من الداخل. فهي وفرت الأمان وأجواء السلام والتعاون والتآلف والوحدة الوطنية والمسؤولية الشخصية والإيثار الوطني بإنبراء شابات وشباب بتقديم خدمات ليست من جنس اختصاصاتهم ومستوياتهم الاجتماعية.. حيث حولوا ساحات الاحتجاج الى كرنفالات فرح وثقافة, وجمّلتها باللوحات والشعارات المتفائلة المفعمة بحب الوطن ووحدته ورفعة شعبه… فقد أنجزوا خلال أسابيع ما عجزت عن القيام به حكومات متتالية طوال سنوات… فقد حولوا بناية المطعم التركي الكئيبة التي تتوسط مركز العاصمة إلى مزار ومكان طافح بالالوان والمحتفي بشعارات المنتفضين وصور شهدائهم وأوصلوا إليه النور بعد عقود من الظلام.

لقد أرسلوا حينها رسالة واضحة للمواطن العراقي بأن بناء وطن آخر بدون عصابات الفساد أكثر من ممكن, وفي فترة قصيرة, لو حسنت نوايا المتصدين للأمر وتمتعوا بالوطنية الحقة وحب الوطن.

وكانت رسالتهم الثانية إلى شاغلي المنطقة الخضراء المحصنة والمقابلة لبناية ( المطعم التركي ) بحلته الجديدة… بأن تغيير ما عملوا عليه من إهمال مصالح البلاد ومواطنيها, قادم لا محالة. وان بديلهم من شابات وشباب الانتفاضة جاهزون للنهوض بالواقع المزري الذي كرسوه.

هذه التغييرات السريعة في فضاء ساحة التحرير في بغداد وساحات التحرير في محافظات البلاد الأخرى, فقأت أعينهم وفتت أكبادهم وأثبتت لهم كم هم صغار امام عزم التغيير الذي ينشده الشباب الثائر. لهذا بذلوا جهودهم الغادرة في إرهاب المنتفضين بالقتل والاختطاف وتسريب أعوانها لتخريب الانتفاضة من الداخل, بارتكاب ممارسات إجرامية وعنفية هي بعيدة عن سلوكيات المحتجين السلميين وحاولوا توسيخ سمعتهم, وبث روح الفرقة بين أوساطهم, ونجحوا من ثم في فض تجمعاتها لكنهم عجزوا عن إطفاء جذوة الانتفاضة في قلوب العراقيين. وأصبحت الانتفاضة انصع وأكبر حدث تاريخي يعتّز به العراقيين لما أنجزته من إسقاط الفكر التقسيمي الطائفي العرقي و مرغت بالتراب الهيبة المسلحة لعصابات القتل بعد التضحيات البطولية لشباب الانتفاضة في مواجهتها, ونهضت بالوعي الاجتماعي في رفض طغمة الفساد وضرورة التغيير.