23 ديسمبر، 2024 1:46 م

التجديد الديني عند الشيعة الامامية .. منهجية فاعلة

التجديد الديني عند الشيعة الامامية .. منهجية فاعلة

ينطلق الشيعة في تبنيهم لمفهوم التجديد الديني على مجموعة من الاسس العقائدية التاريخية  التي شكلت عنصرا رئيسيا في تميز المذهب الجعفري  والذي يمثل مدرسة فقه وفكر الاسلام الاصيل المتمثل بالنبي الاكرم واله الاطهار(صلوات الله عليهم أجمعين)  عن باقي المدارس الاسلامية ومذاهبها الاخرى ، وتتجلى اوضح المصاديق لذلك في فتح باب الاجتهاد لفقهاء المذهب للتعامل مع النصوص الفقهية الواردة في كتب مصادر أصول الحديث الاربعة المعتمدة لديهم .

 ويعبر محمد اقبال اللاهوري عن هذه الخصوصية التي يتميز بها الشيعة عن غيرهم عبر تقييمه الدقيق لما يمثله الاجتهاد من عنصر اساسي في ديمومة الاسلام وقدرته على التعامل مع ضرورات ومتطلبات الزمان والمكان بقوله ( أن مبدأ الاجتهاد هو القوة المحركة للإسلام) وهو وصف يلخص ما يعبر عنه الاجتهاد من قدرة على اثبات ان المشروع الالهي هو مشروع متكامل قادر على العطاء والمواجهة لما يمتلكه من مقومات تجعل منه منهاجا ودستوراً لا يعتريه الجمود او العجز .

والتجديد في حقيقته اصطلاح يعبر في نفسه عن الاجتهاد الذي يمثل الركيزة الاساسية للتجديد ، كما ان الاجتهاد اساسا يختص في فروع الدين المتغيرة ومناطق الفراغ التي تنتج عن المستحدثات من المسائل والقضايا التي تتطلب تشريعا قد لا يوجد نص واضح او مطابق لها او بتعبير أخر فأن للفقيه المجتهد امكانية الاستنباط من الادلة الشرعية لسد الثغرات التي تنتجها تطورات العصر من المسائل المستجدة او المستحدثة ، أما معايير الاصالة في عملية التجديد فتتمثل في الاستقامة على الثوابت والمصادر المستخلصة منها ، ثم التزام النتائج بها ، لاقتران التجديد بالأصالة وكونه محكوما بالثوابت (1).

ولذلك فان فكرة الاجتهاد مثلت منعطفا ايجابيا في مسيرة الاسلام لأنها حافظت على ديمومة الدين وساهمت في ضمان التفاعل بين الشريعة والمجتمع ، فالحضور المستمر للشريعة في واقع الحياة ما كان له ان يضمن الاستمرارية فيما لو تجمد الفكر على الاسلامي في استنباط احكامه توقيفا على فقهاء القرن الهجري الثاني والثالث ولتعرضت الشريعة الى التخلف عن اللحاق بركب التطور الانساني مما يسبب في ضمورها وانطفاء شعلتها المتوهجة وبالتالي استسلام المجتمع الاسلامي للأيدلوجيات المادية المستحدثة او تشويه معالم الشريعة الالهية من خلال تحويل الدين الى عدد من المفاهيم الدخيلة عليه والتي تهدد وجوده من جهة وتنفر المجتمعات الانسانية منه من جهة أخرى ، ومن نماذج ذلك التجميد والتوقيف على السلف هو التيارات السلفية الارهابية المتعددة والتي انتجتها المدرسة الوهابية في غضون العقود الاخيرة من خلال توظيف الفقه الميت وعائدات الثروة النفطية لصنع مجاميع متطرفة فكريا وعقائديا وإنسانيا نشرت ثقافة الموت والدمار والذبح والتفخيخ كشعار ومنهج لنشر رسالة الاسلام وثقافة الاسلام دين الرحمة والشريعة السمحاء.

ان مبدأ الاجتهاد المتجدد في المذهب الجعفري كان من اهم معالم التشيع وابرز خصوصياته لمواكبته للحياة وانفتاحه الايجابي مع تطوراتها ، وهذا ما ابرز خصوصية المذهب على الصعيد الاسلامي والإنساني والتي اصبحت مثار اشادة واحترام الديانات الاخرى التي وجدت في الفقه والفكر والعقائد الشيعية المعبر الحقيقي عن روح الاسلام وعن رسالته وشريعته ، أن حركة الاجتهاد المستمرة والحضور الدائم للمجتهدين والفقهاء والذين يلاحقون المستجدات ليقولوا كلمتهم فيها ، أدى ويؤدي الى بقاء شعلة الاسلام قوية في نفوس الامة ، وبقاء الامة متفاعلة مع الدين ، عندما ترى ان الفقهاء حاضرون في المعترك الفكري الحضاري (2) .

وبالنسبة الى شخص المجتهد فأن وظيفته لا تقتصر فقط بالقدرة على استنباط الاحكام الشرعية من مصادرها المقررة للاحاطة بالمسائل الفقهية وبيان حكمها الشرعي وإنما يجب ان يتوفر فيه عدد من الشرائط ليكون ذلك المجتهد قادرا على التجديد والإبداع من جهة والتعامل مع مستجدات الامور والحوادث الواقعة من جهة أخرى ، ولذلك فأن فقهاء الامامية وضعوا عدد من الضوابط التي ينبغي للمجتهد المجدد ان يحيط بها علما ومنها أن يتوفر له الوعي الديني المستنير المنفتح والوعي الزماني لمجرى الاحداث وحقائق الحياة من حوله وان يتخلى عن الوهم أن الاسلام قادر على مقاومة كل تهديد لمجرد ما فيه من مزايا وخصائص ، وأن يكون ذا فكر مبدع وخلاق وان يتحرر من القيود والتقاليد التي لا يفرضها عقل ولا دين لكي يستطيع أن يوائم بين النصوص ومقتضيات العصر. (3)

وحتى بالنسبة لعملية الاستنباط للإحكام الشرعية من المصادر الرئيسية الاربعة عند الشيعة فأن المجتهد يجب ان يتحلى ايضا بالنظرة الموضوعية والقدرة التحقيقية لمعاينة النص واستعراض تجلياته على صعيد الزمان والمكان قبل ان يتم استنباط الحكم الشرعي منه ، ويشير بعض الفقهاء الى انه لا بد من ملاحظة مضمون النص وطبيعة موضوعه والمخاطب به ولسانه او لغته التعبيرية ، فقد يستكشف من ذلك كون النص مرحليا او محدودا من حيث الزمان والمكان.(4)

ولعل هذه النظرة الموضوعية للظروف على صعيد الزمان والمكان بالنسبة لنصوص الاحكام الشرعية ساهمت في ظهور اتجاه اجتهادي أوسع من مفهوم الاجتهاد الاساسي وهو ما أصطلح عليه ( تحول الاجتهاد) وهو اتجاه اجتهادي اصلح عليه بعض الفقهاء ويقوم على أساس تغيّر الزمان والمكان والظروف في شتى مجالات الحياة ، والذي يستتبع حدوث موضوعات جديدة ، أو تغير أصل الموضوعات أو خواصها وبالنتيجة تغير أدلتها الشرعية أو تغيّر فهم الفقيه للموضوعات السابقة .(5)

ويشير فقهاء المدرسة الامامية أيضاً الى ان السمة الاساسية للإسلام هي ان في فقهه المتحرك ، وان الزمان والمكان عنصران أساسيان في الاجتهاد ، وأن الفقيه المجتهد يجب ان يكون محيطا بأمور زمانه (6) ، وهو مصداق لحديث الامام جعفر الصادق (عليه السلام) في قوله : ( العالم العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس).

وهكذا نرى ان الاجتهاد كان السمة البارزة في الفقه الجعفري باعتباره مجالا للإبداع والتجديد من قبل الفقهاء للحفاظ على ديمومة الدين من خلال انفتاحه المتواصل وعطاءه الدائم في معالجة الموضوعات المتجددة في الحياة ، ولذلك كان المناخ السائد في الحوزة العلمية التي تعتبر المدرسة الدينية للشيعة هو تجديد الخطاب الديني وتعدد اليات العمل الاسلامي بحسب ما يقتضيه الزمان والمكان وهو ما ابرز تفوق مدرسة اتباع اهل البيت (عليهم السلام) على المدارس الاخرى التي بقيت تراوح في دائرة الفقهاء الاربعة وكتبهم ومذاهبهم التي أكل الدهر عليها وشرب بعد انقطاع علماء مدارس تلك المذاهب الاربعة عن التواصل والتجدد مع المتغيرات ومسايرة الشيعة في اطلاق الاجتهاد لمعالجة مكامن الخلل والشلل على صعيد الفكر والفقه .

، ويختصر فقهاء الشيعة اهمية التجديد في مفهومهم بأنه ضرورة من سنن الحياة فلا بد أن تجري ، ومن لا يتجدد تخلفه الحياة ويصبح ميتاً أو جزء من الماضي ، كالماء الراكد فإنه يفسد ولكنه يحى ويتجدد بالجريان . (7)

ويرى فقهاء الشيعة كذلك ان الدين يحتاج الى التنقية من الشوائب والتطهير من التلوث الذي قد يلحق به نتيجة التعرض الى الدس والتشويه في موضوعاته او التفسير الخاطئ لإحكامه ولوصف الدقيق لهذه الحالة بمكن القول أن الدين يصاب بأعراض كأي حقيقة من الحقائق ، وهو كالماء الذي ينبع من العين الصافية ، بيد أنه يتلوث بمجرد جريانه في الانهار ، بحيث يجب تطهيره ، وتعقيمه من الملوثات . (8)

ولذلك فأن دواع التجديد تتأتى من كون الانسان أبن واقعه بزمانه ومكانه وظروفه ، او بعبارة أخرى ان الانسان يجب ان يكون متجددا مع ما يقتضيه الزمان فطنا لتقلبات الاحداث ومستجداتها ليأمن من الشبهات والفتن واختلاط الامور وحينئذ تكون هذه الرؤية واضحة وتتوفر القدرة على اتخاذ سلوك الموقف الصحيح وخصوصا العلماء الذين يحملون رسالة الهداية والصلاح الى الناس جميعاً بكل تنوعاتهم ، فهم أحوج من غيرهم الى هذا التجدد .(9)

التجديد كموضوع على صعيد الفكر والشريعة عند علماء المدرسة الامامية هو ضرورة تفرضها مسيرة الحياة لمواكبة تطوراتها ومتغيراتها ولذلك فأن الجمود والركود علامة على الموت ودلالة على العجز الذي لا يتناسب وواقع الدين الاسلامي والشريعة الالهية المعطاء بشهادة النص الالهي القرآني

{ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ } (10)

، اما الايمان بالدين فهو من خلال الاعتقاد بأن الدين قادر على حل جميع المعضلات والمشاكل التي تعج بها الحياة وهذا هو احد اسرار خلود القرآن الكريم ، أن في تشريع الإسلام وأحكامه ما يتكفل بحلّ جميع مشاكل الحياة ، ويضمن أساليب الإصلاح ومناهجه .(11)

وللتجديد عند الامامية معايير وضوابط تستند الى ان الشريعة وأصولها غير قابلة للتمييع او التلاعب ، وأن معايير الاصالة في عملية التجديد تتمثل في الاستقامة على الثوابت والمصادر المستخلصة منها ، ثم التزام النتائج بها ، لاقتران التجديد بالأصالة وكونه محكوما بالثوابت .(12)

وبعبارة أوضح فأن التجديد والإصلاح لا يعبر عن التنازل عن الثوابت وتكييف الدين لصالح المتغيرات وإنما هو عملية اعادة صياغة وبلورة الفكر الاسلامي والأحكام الشرعية بصيغة تراعي متطلبات الواقع ، ولذلك فأن نظرة الشيعة الى الاصلاح والتجديد في الاسلام لا تعني اعادة النظر بالدين ، بل اعادة النظر في رؤيتنا وفهمنا الديني والعودة الى الاسلام الحقيقي والوقوف على الروح الحقيقية للاسلام. (13)

ولذلك فأن علماء الامامية ترفض تسخير الدين وتحجيم ثوابته ومحاولة تشويهه ليتناسب مع الزمان والمكان لأن الاسلام شريعة وفكرا قادر على التعامل مع الظروف والمستجدات لما يملكه من خزين لا حدود له للانفتاح والامتداد دون ان تتأثر ثوابته او تتعرض للتمييع ، ولذلك فأن من الخطأ الف مرة أن نقول بأن الاسلام يتكيف وفق الزمان ، الاسلام فوق الزمان والمكان ، لأنه من وضع الواضع الذي خلق الزمان والمكان ، فقد قدّر لهذه الرسالة القدرة على الامتداد مهما أمتد المكان والزمان (14)

وكذلك فأن رؤيتهم للإسلام أنه فوق التجدد وفوق التغيير وانه الحاكم لعوامل التغيير وليس محكوم عليه من قبل عوامل التجدد ، وبعبارة أخرى فأن الصيغة النظرية للإسلام صيغة ثابتة فوق التجدد ، فوق التغيير ، لا بدّ لها هي أن تحكم كل عوامل التغيير وكل عوامل التجدد.(15)

ان هذه الاستعراض لمفهوم التجديد عن الشيعة الامامية وعلاقة الاجتهاد بالتجديد هو مراجعة سريعة لإلقاء الضوء على مفهوم التجديد في الفكر الشيعي ومدى فاعلية الاجتهاد في عملية التجديد على صعيد الفكر والشريعة في المدرسة الامامية ، ولذلك لن نغمط دور اهم حركات الاصلاح والمصلحين في التاريخ الشيعي وخصوصا في القرن العشرين والواحد والعشرين في النهوض بالخطاب الديني للمؤسسة الشيعية وإيجاد آليات العمل الرسالي التي استطاعت استيعاب حاجات الامة ومستلزمات المواجهة الحضارية والثقافية لها مع الايدولوجيات الاخرى على مستوى الدين والطائفة ، وسنسلط الضوء في القريب العاجل على اهم الرموز والشخصيات العلمائية المجددة والإصلاحية في الحوزة الدينية بالعراق وإيران.

1- علي المؤمن – الاسلام والتجديد – ص 18

2- الشيخ حسين الخشن – الشريعة تواكب الحياة – ص 153

3- الشيخ محمد جواد مغنية – الاسلام نظرة عصرية – ص103

4-  الشيخ حسين الخشن الشريعة تواكب الحياة– ص 128

5- علي المؤمن – الاسلام والتجديد – ص 95

6- السيد روح الله الخميني – بيان الى المراجع والعلماء والحوزات العلمية – 1989

7- الشيخ محمد اليعقوبي – نشرة الصادقين- العدد 136

8- مرتضى مطهري – اشكاليات التجديد – ص 104

9- الشيخ محمد اليعقوبي – نشرة الصادقين- العدد 136

10- سورة الانعام – الاية 38

11- محمد باقر الصدر – ومضات – ص 284

12- علي المؤمن – الاسلام والتجديد – ص 29

13- علي شريعتي – الامة والإمامة – ص9

14- الشهيد محمد باقر الصدر – ومضات – ص 453

15- الشهيد محمد باقر الصدر – ومضات – ص 453

[email protected]