أن الديمقراطية وبنائها ليست عمل سهل ومناط فقط بما يجب أن تقوم به الحكومات القادمة التي ولن تأتي جرعة واحدة, فذلك مجافاة لظروف المجتمعات التي تعتبر ببعض من وجوهها معوقا للديمقراطية ونشأتها بسلاسة, فهناك منظومة القيم التقليدية الموروثة, من ثقافة تقليدية وأنماط سلوكية مانعة بطبيعتها للديمقراطية, والتطرف السياسي والديني والإيديولوجي الشمولي, والفتن الطائفية والمذهبية والعرقية, ثقل الكتلة البشرية الذي يسببه الانفجار السكاني الذي تسببه ارتفاع نسبة الولادات المستمر حيث تبلغ نسبته أكثر من 3% سنويا والتي تلقي بآثارها السلبية على عمليات التنمية القادمة لتحسين ظروف الحياة المعيشية, الموقف المتخلف من المرأة ومشاركتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, تفشي الأمية الأبجدية والحضارية وآثارها السلبية في تقبل التغير الايجابي, وغياب منظمات المجتمع المدني الفعلية, إلى جانب ضعف تقاليد العمل السياسي الضامن لبناء الديمقراطية, وغيرها من العوامل التي يصعب حصرها !!!.
لقد غابت السياسة المؤسساتية في بلداننا للعقود وغاب التأثير المستقل للسلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية وتفككت عرى المجتمع المتماسك فتحول إلى حاضنة في الظل للقوى الظلامية والمتطرفة الدينية وغير الدينية مرافقا لحالة الانحطاط الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والفكري, وأصبح الاحتماء بالدين والمذهب والطائفة والتواجد الجغرافي احد وسائلنا الممكنة للهروب من الاستبداد الرسمي في السلطة والثروة والإعلام والمرجعية الاجتماعية, وأصبح التقاطع والتداخل سهلا مع السلطة الرسمية لان الأخيرة تحمل بعض من عناصره وتستطيع إيجاد وطأة قدم معه, فالجميع يدين بالإسلام , وتلك هي على سبيل المثال اختلاط عناصر النظام العراقي السابق مع “داعش ” الإرهابية وغير ” داعش” من الحركات الإسلامية والأيديولوجية المتطرفة, وحتى الاختراقات والتواجد الحشدي لأنصار النظام السابق في السياسة الرسمية الحالية وأحزابها الإسلامية القيادية !!!.
وما إن سقطت بعض النظم الدكتاتورية والفاشية في المنطقة وحلت معها موجات من الإسلام السياسي لتتصدر المشهد السياسي, حتى تحولت ”جماهير ” مليونية لتشكل قاعدة للإسلام السياسي بكل صنوفه ومذاهبه. ومع انهيار الدولة البوليسية الشمولية كانت الطائفية والمذهبية والدينية والمناطقية جاهزة, في ظل غياب البدائل الديمقراطية, ومختمرة لاحتواء حالة الانهيار والتمرد الشعبي, حتى تحول المجتمع في زمن قياسي إلى فتات من مجتمعات مصغرة ذات صبغة طائفية ومذهبية ودينية واثنيه ومناطقية, وأضمحل مفهوم المجتمع السياسي المؤسساتي الذي يجمع كل المكونات والتنوعات الدينية والمذهبية والقومية في وحدة دينامية حية, والذي يفترض أن يكون بديلا مرتقبا بعد التغير !!!.
في ضوء تجربة العراق ومصر وتونس وغيرها تراوح الإسلام السياسي في مسحته العامة بين رافض علني للديمقراطية باعتبارها بدعة من الغرب وكل بدعة ضلال, وبين داخل في اللعبة الديمقراطية لاعتبارات تكتيكية تحت ضغط الظروف الدولية المعاصرة وظروف المد الجماهيري صوب تبني الديمقراطية نهجا وممارسة. وفي الوقت الذي استطاعت فيه الكثير من القوى السياسية العالمية والإقليمية والوطنية ذات الطابع العلماني واليساري أن تتكيف لظروف العصر وتتبنى وتقتنع في الديمقراطية كوسيلة للحكم والمساهمة في التأسيس لمجتمعات العدالة والحرية الاجتماعية, كما هو في تجارب اليسار والشيوعية في بلدان أوربا الاشتراكية سابقا, والكف عن المطالبة بحكومات ذات صبغة واحدة في بقاع أخرى من العالم, ظل الإسلام السياسي عنيدا في مطاوعته لظروف التغيرات الجارية في العالم, ويثير مزيدا من الشبهات والتساؤلات عن مدى تقبله للديمقراطية !!!.
قد تثير لدى القارئ الكثير من الاعتراضات بالقول بأن النموذج الإسلامي التركي في الحكم هو نموذج موعود وبالإمكان تعميمه في مناطق عديدة عربية وإقليمية, وتكمن إجابتنا البديهية لهذا الاعتراض بأن الإسلام السياسي الحاكم في تركيا يعمل ويحكم ويسبح في فضاء بلد استقرت فيه تقاليد العمل الديمقراطي ومؤسساته الدستورية, وفي بلد يمتلك أجهزة ومؤسسات دفاعية, من جيش وشرطة ومخابرات وأمن تتمتع بقدر كبير من الحيادية المعهودة لها في المنعطفات الهامة التي تهدد الديمقراطية. أما في المجتمعات العربية فيدخل الإسلام السياسي كجزء من المشكلة وليست الحل, فهو يسعى في مرحلة التأسيس للنظام الديمقراطي جاهدا لبناء مؤسسات الدولة وخاصة الدفاعية منها والأمنية والمخابراتية على أسس مذهبية ودينية وطائفية متحيزة, أو من خلال التأسيس لدستور فيه من الغموض ما يكفي لان يكون مصدرا من مصادر عدم الاستقرار والصراعات الدينية والمذهبية في البلد, من خلال إضفاء صبغة أحادية الجانب غير جامعة للنسيج الاجتماعي بكل مكوناته الثقافية والعرقية والدينية والمذهبية !!!!!
إضافة إلى ذلك يدخل الإسلام السياسي التركي اليوم والذي يقود الجمهورية التركية العضو في الناتو والطامحة للعضوية في الاتحاد الأوربي في صراع مع العالم حول موقفها من دعم الإرهاب والوقوف إلى جانب داعش وتوفير كافة وسائل الدعم العسكري واللوجستي للفصائل الإسلامية المتطرفة, وفرض اشتراطات وسقف محدد لمحاربة داعش, وقد وصل الأمر إلى حد الإدانة من حلفائه الأمريكان وغيرهم من الأوربيين. فهل من إسلام سياسي ديمقراطي بعد ذلك ؟؟؟.
المعضلة الكبرى تكمن اليوم ليست بمحاربتنا للدين فتلك ليست مهمتنا أصلا وليست من حقنا ذلك ولا تستطيع أي سلطة مهما بلغت من القدرات للقضاء عليه فهو جزء من المنظومة الثقافية والتاريخية الموروثة والمتأصلة في اللاوعي ويستحضر بقوة كلما سنحت الفرصة لذلك, والمهم في كل ذلك هو حياديته وفصله عن السياسة وإنقاذه من المتأسلمين والمنافقين باسم الدين !!!.