التبعيض في الفتوى يعني أن يقلد المكلف المسلم فقيهين أو أكثر بشرط ان تكون لهم مؤهلات الإفتاء من الفقاهة والعدالة وسائر المؤهلات التي ذكرت في متون الكتب الفقهية ، يقلدهم في المسائل الشرعية الخاصة أو تلك المسائل العامة التي تخص المجتمع الإسلامي ككل .
والتبعيض في الفتوى ثابت المشروعية عند الكثير من فقهاء الأمامية بشرط عدم إتباع هوى النفس ، ومن المعاصرين القائلين بمشروعيته السيد عبد الأعلى السبزواري والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد أمين زين الدين والسيد المدرسي والشيخ الشهيد مرتضى مطهري والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ جواد الخالصي وآخرون ، وحتى بقية الفقهاء الذين لا يجيزون التبعيض يجيزونه في عدة حالات منها :
1. في حالة تساوى مجموعة من الفقهاء في العلم والكفاءة والورع .
2. في حالة الاحتياطات في الفتاوى.
3. في حالة عدم وجود فتوى للمرجع الذي أقلده.
والعقل السليم يقر هذا المبدأ ( التبعيض في التقليد ) وهو ارقي أنواع التقليد لأسباب عده نذكر منها:
· لا يمكن للشخص الفقيه مهما أوتي من العلم والفهم والقدرة ان يحيط بكل مهام المرجعية المكلف بأدائها دون التقصير في أداء هذه المسؤوليات الجسام من إصدار الفتاوى الصائبة والتدريس وما يتطلب من القراءة والمراجعة والإعداد وإتباع الأساليب والطرق الحديثة في التدريس وكذلك التأليف و التبليغ وإدارة شؤون المبلغين والخطباء وطلبة العلوم الدينية وإدارة الشؤون المالية من قبض للحقوق الشرعية وتوزيعها على مستحقيها بالشكل العادل ومتابعة شؤون المجتمع المسلم والتصدي للبدع والانحرافات التي تنتشر بين أبناء المجتمع ونشر الفضيلة وقضاء حوائج المحتاجين وحل مشاكل الناس وممارسة القضاء والحضور الميداني في مناسبات الأمة العامة كما كان يفعل النبي الأكرم (ص) والتصدي للغزو الفكري او العسكري الذي يهدد امن وسلامة المجتمع المسلم ومواجهة السياسيين المنحرفين والنصح للمسؤولين ومن هم على هرم القيادة السياسية للبلاد…. فلا بد من التخصص في تلك الامور ولا تنفع الثقافة العامة في تلك الجوانب نعم قد تكون هنالك حلول أخرى مثل ما اقترحه بعض علمائنا الابرار امثال الشهيد الصدر الاول في أطروحته لإدارة شؤون المرجعية المسماة بـ ( المرجعية الصالحة ) او أطروحة العلامة فضل الله التي اسماها ( المرجعية المؤسساتية ) والحقيقة ان هذه الاطاريح او الاقتراحات المهمة مستحيلة التطبيق في واقع المؤسسة الدينية المعتمدة على اللانظام في إدارة شؤونها والتدخل الدولي والاقليمي في تعيين المرجع . لذا يكون التبعيض في التقليد وسيلة واقعية جيدة لأخذ الفتوى من الفقهاء ما داموا علماء عدول ، وكلا حسب ما ابدع فيه من مجالات الدين وما هو اعلم به من غيرة.
فالفقيه الذي اختبرناه بالتجربة يقرأ الواقع السياسي قراءة صحيحة وآراءه سديدة دائما يمكن ان نتعبد بآرائه السياسية، والفقيه المتكلم والمختص في مجال العقيدة نتعبد بما وصل إليه من أبحاث عقائدية ( باستثناء أصول الدين والضروريات التي لا يجوز فيها التقليد ) والفقيه البارع في التدريس يختص بتربية طلبة العلم ويتجنب التدخل في الامور العامة الاجتماعية والسياسية وهلم جرا ….
· لا أتصور ان فقيها واحدا يمكنه ادارة كل تلك المهام على احسن وجه وان وجد مثل هذا الفقيه الخارق والقادر على ادارة كل تلك الامور فهو فرض نادر ولا تسمح له الارادات الخارجية بتطبيق مشروعة الاسلامي والقيام بشؤون المسلمين على اتم وجه لان السماح بذلك يعني السماح بايجاد (خميني) او (صدر) جديد في الساحة الإسلامية .
· ان المتتبع لما هم عليه الفقهاء المتصدين للمرجعية الدينية مع قوتهم في بعض الجوانب الفقهية و الاصولية او بعض العلوم الدينية الاخرى الا ان فيهم ضعفا في كثير من الجوانب التي هي من صميم عمل مرجع الدين فعلى سبيل المثال يفتقد كثير من المراجع للطريقة الصحيحة في الإدارة الامور ، والتوزيع الصحيح للحقوق الشرعية، قال المجدد الشيرازي (ره) صاحب فتوى التنباك بهذا الشأن : (ان الفقية 90% منه إدارة و10% علم وتفقه و… ) ، او معرفة القضايا السياسية وإيجاد الحلول للكثير من المشاكل والازمات السياسية التي تعصف بأمن المواطن وأرواح الأبرياء لان الكثير من الفقهاء المتصدين ليس لهم باع في هذه الجوانب ومن الواضح ان السياسة تحتاج الى ممارسات عملية لا يمكن ان تكتسب من الكتب التي تدرس في المؤسسات الدينية يقول الشهيد الصدر الاول بهذا الصدد ( مجرد الاطلاع والاستيعاب للمطالب الاصولية او الفقهية الدقيقة والتبحر في هذه العلوم تبحرا كاملا ، هذا لا يغير من وضع الاسلام شيئاً ولا يقدم من وضع الاسلام خطوة ، لايحل من مشاكل المسلمين مشكلة ، ولا يقلل من آلام الامة الماً) وكذلك القضايا الاجتماعية فكثير من الفقهاء ليس لدية الأدوات الصحيحة في التعامل مع الناس ويفتقدون الى اساليب الاقناع والتحاور لذلك لا يمكنهم ان يؤثروا إيجابا على الناس إطلاقا ، ولا يمكنهم ان يدعوا الى دين الله وهداية الناس الى المفاهيم الاسلامية الحقه لانهم فاقدين للاساليب الدعوية الصحيحة وفاقد الشئ لا يعطيه.
· كما ان الرجوع الى اكثر من فقيه يطابق قوله تعالى (َبَشِّرْ عِبَادِ.الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{18الزمر}. فالمكلفين يستمعوا الى الاراء الاجتهادية في بعض المسائل ويختارون احسنها ليكونوا مصداقا لاولي الالباب الَّذِينَ يستحقون الهَدَاية .
· كما ان التبعيض في الفتوى يزيد من حرص الانسان المؤمن على دينه و يقلل من حجم النزاعات والجدال العقيم السائد بين ابناءنا ويعالج ظاهرة الصنمية والتقديس والتقوقع على مرجع معين واتباعه اتباع مطلق وان أخطأ وان انحرف وان جار بحكمة ، بينما نحن مأمورون ان نعمل بالحق وليس إتباع الرجال مهما كان شأنهم جاء في الاثر : ( لا تأخذ الباطل من أهل الحق ) و( كونوا نقاد الكلام ) .
· إن التبعيض في الفتوى يقضي على حالة التفرد في المرجعية والأنانية التي يقول عنها الشهيد الصدر الثاني ( هي الصفة الغالبة في المرجعية ) كما لمسناه في العصر الحاضر.
وأخيراً أقول إن التبعيض في الفتوى يعطي دور لبقية الفقهاء ليدلوا بدلوهم في خدمة الشريعة والجماعة الصالحة والمجتمع المسلم عموما ، ويربط الإنسان المسلم بدينه أكثر من ارتباطه بمرجعه .
نكتفي بهذا المقدار والله الموفق للهداية والصواب.
[email protected]