23 ديسمبر، 2024 8:43 ص

التاسع من نيسان، دولة بين الإنهدام والولادة

التاسع من نيسان، دولة بين الإنهدام والولادة

انهدام كلي
التاسع من نيسان 2003م مثّل انهداماً كلياً لنموذج الدولة العراقية التي سادت ثمانية عقود. فهو انهدام لنموذج دولة على مستوى هويتها ونظامها السياسي وأمتها الوطنية وجميع ما يتصل ببنيتها من اقتصاد وثقافة وسيادة وموقع أممي، فكما هو انهدم عمودي على مستوى السلطة القابضة على مقاليد الحكم والثروة، هو ايضاً انهدام أفقي على مستوى الأمة السياسية المشكلة للدولة،.. انه انهدام نظام وأمّة وما يتصل ببنيتيهما داخلياً ودولياً وما زال تداعي الإنهدام ومآلات الولادة تتفاعل.

سَِر تداعيات 2003م

ما يفسر كل هذه التداعيات الأمنية والسياسية والإجتماعية والجيوسياسية للتاسع من نيسان 2003م هو نتائج انهدام الدولة العراقية العتيدة ومخاضات ولادتها الجديدة على مستوى الهوية وتمركزات السلطة والثروة وفضاءات تماهيها الإقليمي والدولي،.. فالتاسع من نيسان 2003م أخل بتركيبات جيوسياسية وجيومجتمعية وجيوأمنية وجيوهوياتية اعتادت على نمط محدد من التوازنات والمعادلات الضابطة لإيقاع مجتمعات ودول الشرق الأوسط، والتاسع من نيسان ضربها بالصميم بانهدام الدولة العراقية وما أتبعه من تداعيات داخلية واقليمية لم تستقر الى يومنا هذا.

مسمّى دولة

لم يكن يحدث الذي حدث عراقياً لو كان لدينا دولة حقيقية،.. لقد كان لدينا مسمّى دولة، فعهود الدولة العراقية –وبالذات خلال عقود البعث الصدامي- كانت عهود حكم استبدادي تمييزي ابتلعت للدولة وغامرت بها، إذ لم تستند الى فهم ووظيفة الدولة في إدارة مقوماتها من إقليم جغرافي وأمّة

سياسية وأنظمة وقوانين وسلطات وسياسات راشدة، ولم تنتج جوهرها المدني المؤسسي القائم على وفق أسس المواطنة والديمقراطية والتعايش والتنمية، ولم تنجز شروط تكاملها السيادي على وفق الخصوصية الوطنية والسلم الإقليمي،.. لذا يمكن القول أن للدولة العراقية زمناً وليس تأريخاً، زمناً مستنسخاً من تجارب حكم تتمحور حول السلطة المطلقة المبتلعة للدولة، وليس تأريخ دولة متراكم من تجارب وطنية متكاملة وبناء مؤسسي تصاعدي وموقعية أممية راسخة.

عدم إنجاز الدولة على وفق شروطها الطبيعية واشتراطاتها البنيوية أدى الى تحوّلها إلى مشروع سلطة مجردة متمردة ومحتالة على بنى ووظائف الدولة، وأدى إلى انتاج دولة اللامجتمع، ومجتمع اللادولة،.. مجتمع ودولة العصبيات والعصبويات والعصابات المدمرة للمجتمع والمدنسة للدولة والخاطفة للوطن، فكان بقاؤها أزمة، وانهدامها أزمة، وإعادة تشكليها أزمة، وقد كشف التاسع من نيسان 2003م أنّ طبيعة الأزمة العراقية أزمة دولة منذ تأسيسها وليست أزمة تغيير نظام سياسي بآخر، وجميع الأزمات المتوالية منذ التاسع من نيسان في مظهرها الأمني والسياسي والمجتمعي والإقتصادي وفي طبيعة تداخلاتها الإقليمية والدولية.. تؤكد حقيقة أنّ الأزمة أزمة دولة، تعيش مأزق الهوية والبنية والمعايير والإدارة والسياسات، فكان بقاؤها مأزقاً وانهدامها مأزقاً وإعادة تشكيلها مأزقا.

مأزق ما بعد 2003

بغض النظر عن النتائج التي ترتبت على طريقة اسقاط الدكتاتورية الصدامية على يد الفاعل الدولي الذي لم يتعاطى مع التغيير على وفق شروط انهدام الدولة، وبغض النظر عن طبيعة الممانعات والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية الهائلة المتأتية من القوى المتضررة من التغيير، وبغض النظر عما أفرزته طريقة الإدارة لملفات الإنهيار من إرهاب وجريمة وفوضى وتركة صدامية كارثية ألقت بظلالها على البديل المراد انتاجه.. بغض النظر عن كل ذلك، فإنَّ ما تم إنتاجه بنيوياً بعد التغيير كان تأسيسا لحزمة مآزق مستحدثة زادت أزمات الدولة تأزماً،.. فطبيعة المنظومة المركّبة على العملية السياسية كرؤى وسياسات وأجندة وطريقة إدارة كشفت عن حجم الأخطاء والخطايا التي أوقعت التجربة في دوامة الأزمات المستنسخة والمتناسلة حتى غدى كل شيء أزمة: هوية الدولة أزمة، شكل نظامها السياسي أزمة، الإنتماء والولاء والتعايش والتماسك الوطني أزمات، السلطة وتوظيف الثروة والأمن أزمات وأزمات، الدستور والقوانين والثقافة أزمات وأزمات وأزمات،.. وقد جذرت هذه الأزمات خطر الإنهدام الكلي لبنية المجتمع والدولة.

الرؤية والإدارة القاصرة

الوعي والرؤية والتخطيط والإدارة المشوهة واللحظوية لطبيعة حدث التاسع من نيسان كانهدام وولادة رهن البلاد لإحتمالات الإنهدام والمجهول أكثر فأكثر، فلم تدرك القوى التي أسقطت الدكتاتورية الصدامية -أجنبية كانت أم وطنية- حجم التأثيرات السلبية العميقة التي تركت آثارها على بنية المجتمع والدولة طيلة عهود الدولة العراقية في القيم والثقافة والهوية، لم تتستوعب ما معنى الإنتقال من بنية حكم استبدادي مطلق الى ديمقراطي تعددي مفترض، ومعنى الإنتقال من المركزية السياسية والإقتصادية المفرطة الى اللامركزية أو الفدرالية أو الكونفدرالية، ومعنى التحول من نمط الدولة الإيديولوجية والبطرياكية والأبوية الى الدولة المدنية، ومعنى تغيير الفضاء الجيوسياسي للدولة وتأثيراته الإقليمية والدولية،.. لقد ترجمت العملية السياسية -كمرتكزات وسياسات- قصور الرؤية هذه

وتواضع الفكر والتخطيط الاستراتيجي المعني بإنتاج الدولة الجديدة. نعم، ورثنا في 2003م فشل مشروع الدولة سياسياً واجتماعياًً وتنموياً وانهدام بنيتها بفعل الإستبداد والشخصنة والحروب والمغامرات،.. ولكن قصور الرؤية وسوء التخطيط وتخلف الإدارة وفشل القيادة أعاد إنتاج أزماتها المزمنة وأدخلها في نفق أزمات جديدة أجهضت البديل على يد العملية السياسية ذاتها. لقد أفرزت العملية السياسية تضخم الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية، وغلبة نهج السلطة على حساب نهج الدولة، وشرّعت لإنقسام السلطات بدل تقاسمها جراء المحاصصات الطائفية والعرقية الحزبية، وأفرزت تضارب رؤى وإرادات ومشاريع إعادة إنتاج المجتمع والدولة بفعل اختلاف أجندة الفرقاء السياسيين، وأدت الى ابتلاع الأحزاب للسلطة والدولة، وانكفأت عن تقوية الحواضن الأساس لإعادة إنتاج المجتمع والدولة من بنى اقتصادية وخدمات وأمن، ورسخت تعطيل التقدم السياسي بفعل توازن (الفيتو) بين القوى السياسية المنتجة للقرار السياسي على مستوى الدولة، وأدلجة التنوع الإجتماعي الطبيعي لتقوده الى انشقاقات طائفية وعرقية ومناطقية كبرى،.. وأدّت بسبب سوء إدارتها الى تمركز الإرهاب في العراق كقوة تخريب ودموية قل نظريها، وأدخلت العراق في صلب ملفات الإقليم الشرق الأوسطي المضطرب ليغدو العراق مشاعاً للتدخل في شأنه ومصيره.

العملية السياسية التوافقية

على ضوء خصائص الواقع العراقي المنهدم، كانت تتطلب مهام إعادة بناء المجتمع والدولة سيناريوات أعمق وعياً وأكثر حزماً لضبط تداعيات التغيير والتحكم بمسيرته التحوّلية، من قبيل تشكيل حكومة مؤقتة مختصرة وكفوءة وحازمة لتنظم مناسيب التحول التدريجي نحو الدولة الجديدة بما يضمن ضبط إيقاع الفوضى وامتصاص ردات التغيير واحتواء تداعيات الإنهيار. وعوضاً عن اعتماد أي سيناريو ضبط وتحكم يأخذ بنظر الإعتبار جميع الإنهدامات والتشويهات التي نخرت كيان المجتمع والدولة،.. تم اعتماد سيناريو العملية السياسية التي اعتمدت معادلة: المكوّن العرقطائفي/سلطة المكوّن/ الحزب المتمتع بسلطة المكوّن، بدل معادلة: الأمّة/الدولة/المؤسسة،.. لقد أنتجت هذه المعادلة دولة المكونات المتصارعة على السلطة والثروة والسيادة، وأنتجت تشتت فعل الدولة وتعدد مراكز قراراتها بتعدد مكوناتها، وأنتجت محميات حزبية ابتعلت الدولة، وأنتجت تماهياً اقليمياً واستباحة سيادية، وأنتجت فساداً وترهلاً وانحلالاً ببنية الدولة ووظائفها.

كان يمكن لسيناريو العملية السياسية الحالية أن ينجح في بناء دولة وتشكيل سلطة لو اختلف الواقع العراقي في خصائص الإنهدام النوعي الذي طال كل شيء،.. إلاّ أنه فشل في مهمته الأساس ألا وهي إنتاج دولة متماسكة. طبعاً لا يمكن عزل الفعل النوعي المضاد للقوى المتضررة من التغيير –داخلياً وخارجياً- والذي صعّب عملية التحول وأدخلها مسارات جديدة،.. لا يمكن عزله عن التأثير الكارثي في اجهاض التحول عندما توسل بكافة الطرق التخريبية والدموية لإفشال العملية السياسية من خلال اعتماده لمثلث الإعلام المضاد والإرهاب المنظّم والمقاطعة النوعية،.. نعم، لا يمكن عزل وتحييد العديد من عوامل التخريب والتشويه التي عطلت التحولات النوعية المطلوبة في مسار التحول العراقي من عهد لعهد،.. إلاّ أن السبب الأساس في فشل سيناريو العملية السياسية يبقى في طبيعة الأسس المعتمدة لإنتاج التحوّل، وفي طليعتها المحاصصات الطائفية والعرقية، وتغوّل الأحزاب، وفشل الإدارة، والأهم التوافقات الفيتوية بين مجتمعيات وقوى الدولة، ودمج المسارات التمثيلية والتنفيذية، من خلال اعتماد الديمقراطية التوافقية العرقطائفية بدعوى قدرتها على احتواء التناقضات الإجتماعية الوطنية،

وكحل لمشكلة التنوع الإثني والطائفي والعرقي، وترجمتها على شكل توازن سلطة إرضائي مدعوم بفيتوات متقابلة تتسلح بها المكونات والطوائف الرئيسة.

مستويات الأزمة

بعد مرور أكثر من عقد من عمر العملية السياسية الجارية في العراق، أثبت الواقع أنَّ أزمة العراق أزمة بنيوية بامتياز لا يفيد معها اجراء تغييرات وظيفية أو سطحية هنا أو هناك، ولا ينفع معها اعتماد نظرية البطل الصانع للتأريخ، ولا تنجو باعتماد سيناريوات التغيير الشكلي،.. وواقعياً وليس افتراضياً لا صيغة جاهزة وسهلة وبسيطة لحل أزمة بناء الدولة العراقية وما تعانيه حالياً من تصدعات وانهدمات ومآلات مفتوحة على جميع الإحتمالات إلاّ بمشروع سياسي متكامل يلحظ كافة مستويات الأزمة البنيوية الحالية والتي تتصل بستة مستويات بنيوية، هي: * تراث انهدام المجتمع والدولة بفعل فشل مشروع الدولة تاريخيا * قصور العملية السياسية الحالية بفعل معادلة المكوّن/السلطة/الحزب عوض معادلة الأمّة/الدولة/المؤسسة *تواضعٍ حواضن التحول الديمقراطي المدني من بنى اقتصادية وأمنية وثقافية * الخلل البنيوي للقوى السياسية المسؤولة عن فعل الدولة * تداخل الملفات العراقية مع الإقليم الشرق الأوسطي *صراع المصالح الدولية.

أزمة بنيوية تتطلب كتلة تاريخية

تتطلب أزمة الدولة البنيوية كتلة عراقية وطنية تاريخية قادرة على فعل الدولة ومؤثرة في صياغة الحل باشتراطاتها الموضوعية، تتفق هذه الكتلة على رؤية وتتوحد بإرادة مشتركة لصياغة حل نهائي لمأزق الدولة، حلاً يلحظ جميع مستويات الأزمة العراقية في تنوعاتها الحالية والمستقبلية، ويستدعي ذلك الإتفاق على تسويات تاريخية كبرى تفضي الى اعتماد مرحليات مدروسة لخيارات شكل الدولة وطبيعة نظامها وسلطاتها وثرواتها وهويتها، ويؤدي الى حسم التضاد العراقي العراقي على ملفات الدولة المختلف عليها ومآلات مستقبلها ككيان وطني.
[email protected]