مدخل
إكمالاً للدراسات والمقالات السابقة التي تناولنا فيها حركة التاريخ وفلسفته وسننه، نطرح في هذه الدراسة مفهوم التاريخ وموضوعه، وتدوينه ودراسته وتحليله وتفسيره، وحركته وفلسفته وسننه، وأهم مناهج المؤرخين وعلماء التاريخ. وسنستخدم أحيانًا المنهج المقارن في تعريف التاريخ، سواءً بين مدارسه القديمة والوسيطة وبين مفاهيمه الحديثة، أو بين رواد تدوينه وعلمائه في غرب آسيا وشرقها وبين أوروبا، وكذلك بين حقائق الماضي وحوادثه الثابتة وبين الرواية الدينية والأساطير والمثيولوجيا، وأيضًا بين التاريخ كصور ماضوية وبين التأريخ كعمل لتدوين هذه الصور ونقل وقائعها، ثم بين حركة التاريخ وفلسفته وسننه.
والهدف من هذه الدراسة هو تقديم مادة شاملة ومختصرة عن علم التاريخ والمفاهيم والمناهج ذات العلاقة به، يستعيض بها المثقف وصاحب الاهتمام عن الكتب التخصصية الكبيرة، بالإضافة إلى توضيح مساحات الاشتراك والافتراق بين المصطلحات والمفاهيم ذات العلاقة بالتاريخ، لتجنب الخلط في هذا المجال؛ فهناك التاريخ الذي هو الماضي، وهناك تدوين التاريخ، وهو تسجيل أحداث الماضي، وعملية التأريخ (الهمزة على الألف)، وهناك علم التاريخ، وهو ضوابط وقواعد ومناهج تدوين التاريخ ومصادره ودراسته وتحليله، وهناك حركة التاريخ التي تعبر عن مساراته ودوراته وسننه، وكذلك فلسفة التاريخ التي هي منهج دراسة حركة التاريخ وسننها واكتشاف أسرارها وعللها ومآلاتها.
ماهية التاريخ
قد يبدو تعريف التاريخ ومفهومه وموضوعه سهلاً للوهلة الأولى، بوصفه سجل البشرية في ماضيها، لكنه ــ في الحقيقة ـ يعدّ مجالًا معقدًا وعميقًا ومتشعبًا. وقد تطورت معانيه وتعريفاته عبر العصور، وكان لكل حقبة تاريخية أو مدرسة تاريخية فهمها وتعريفاتها، التي تعددت من كونه سجلًا زمنيًا متسلسلًا من الأحداث والوقائع التي حدثت في الزمن الماضي، وشكّلت المسارات التي سارت فيها البشرية تنازليًا، وشكلت تجاربها وثقافاتها التراكمية. ويشمل التاريخ جميع جوانب الحياة، بما في ذلك السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية والحضارية، إضافة إلى الأحداث اليومية العادية، إلى كونه الذاكرة الجماعية للبشرية، وإلى كونه حركة دورانية سننية وفلسفية.
تختلف المعاني والمفاهيم ذات العلاقة بالتاريخ باختلاف نظرة المؤرخين وعلماء التاريخ ومدارسهم، وأهداف كل منهم في عملية تدوين التاريخ ودراسته؛ فقد بدأ تسجيل التاريخ وسرده كعملية تدوين مجردة لمساراته الزمنية وأحداثها، وفق تسلسلها أو بشكل موضوعي، وهو التأريخ (بالهمزة فوق الألف) أو عملية تسجيل هذه الأحداث الواقعة في الماضي، ويمكن أن يكون موضوعيًا أو ذاتيًا، حيث يروي المؤرخون قصص الأفراد والجماعات والأمم. وهذا التسجيل أو السرد أو التوثيق يمثل وصف التاريخ باعتباره حكايات الماضين، لكنه انطوى بمرور الزمن على أهداف عميقة تتجاوز عملية التدوين والسرد والرواية المجردة، تتمثل في دراسة أحداث التاريخ المدوّنة دراسةً منهجيةً، وتحليلها واكتشاف معادلاتها ودوراتها وعلاقاتها ببعض وتأثيراتها على المجتمعات البشرية في حاضرها ومستقبلها، وأسباب نشوء المدنيات والحضارات وانهيارها.
كما تتباين تعريفات التاريخ بين الثقافات المختلفة، حيث يعكس كل تعريف السياق الثقافي والفكري للمجتمع الذي نشأ فيه. ومن خلال ذلك تظهر الفروق بين تعريفات المؤرخين القدماء من العراقيين والمصريين والفرس والصينيين والهنود واليونانيين والرومان والأوروبيين، فضلاً عن أتباع الديانات كالهندوس والبوذيين والزرادشتيين واليهود والمسيحيين والمسلمين؛ إذ يعمل كل مؤرخ على أن يعكس ثقافة وتاريخ بيئته الإنسانية أو القومية أو الدينية الخاصة وتجربتها، ويضيف إليها نوعًا من الفرادة والعظمة. ولعل فهم هذه الاختلافات يساعد في إدراك التنوع في التجارب البشرية وكيفية تشكيلها لمفاهيمنا عن الماضي.
موضوع التاريخ
يتنوع موضوع التاريخ بتنوع اهتماماته وأغراضه، وهو – بشكل عام – يتناول الأحداث والتغيرات الزمنية التي شكلت مسار البشرية. وهو ينطوي على مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك التاريخ التسلسلي التراكمي المتمثل بنشأة البشرية وتاريخ مدنياتها وحضاراتها، والتاريخ القديم والتاريخ الحديث، وكذلك التاريخ الموضوعي المتمثل بالتاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والعسكري وتاريخ العلوم والحروب والثورات. كما يربط التاريخ بين الأحداث والمتغيرات وآثارها على المجتمعات وتطورها وتقدمها أو تراجعها وأفول فاعليتها. كما يتناول التاريخ الأسباب والعوامل التي أدت إلى الأحداث وعلل نشوئها ونتائجها.
ويمكن تقسيم هذا التنوع إلى ثماني مجالات:
أهمية كتابة التاريخ ودراسته
سواء نظرنا إلى التاريخ بوصفه ذاكرةً جماعية أو أدباً أو علماً أو فناً، فإن دوره في تشكيل الوعي الإنساني لا يمكن إنكاره. تنطوي كتابة التاريخ ودراسته على أهمية كبرى، ليس فقط على مستوى حفظ تاريخ الشعوب والمجتمعات والدول وصيانة ذاكرتها الجماعية وهويتها الجامعة، وفهم أسباب ما حدث، وإنما أيضاً على مستوى فهم الحاضر والمستقبل، واتجاهاتهما وعناصر بنائهما.
صحيح أن التاريخ يُعتبر ذاكرة جماعية للأمم والشعوب، ويحفظ حكاياتها وتجاربها عبر الأجيال، ويساعد في تعزيز فهم الذات الجماعية وهوية الفرد والجماعة وانتمائهما، ويُراكم المعرفة عبر نقلها من جيل إلى آخر؛ فهو كذلك يؤدي إلى استنتاجات مختلفة بناءً على وجهات النظر المتعددة في كيفية تقديم الأحداث، والتي تكشف عن حياد المؤرخ أو انحيازه أو انتقائيته أو تدليسه أو موضوعيته. كما يساعد في فهم تطور المجتمعات عبر الزمن وتأثير الأحداث المحلية والعالمية على بعضها البعض، وفهم الديناميكيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تؤثر في حياة البشر، وتقديم تفسيرات موضوعية لها، كما يعزز التفكير النقدي ويساعد على تطوير مهارات البحث والتحليل.
أما على مستوى بناء الحاضر والمستقبل، فإن التاريخ يُعتبر أداة أساسية لفهم الماضي وتأثيره على الحاضر والمستقبل، والاعتبار بأحداث الماضي لوعي الأخطاء والنجاحات، لتجنب الأخطاء والاستلهام من النجاحات، وتعزيز القدرة العميقة على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل بوعي وإدراك أعمق. ومن خلال معرفة الجذور التاريخية والتراكمية لقضايا الحاضر ومشاكله وإشكالياته الدينية والمذهبية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكيفية تأثير هذه الجذور في أوضاع الحاضر، ثم انتقالها إلى المستقبل. ومن خلال فهم كل هذه التحولات، يمكن وعي اتجاهات الحاضر بعمق، من أجل استشراف المستقبل وتشوّف خياراته واحتمالاته ومشاهده وسيناريوهاته، وصولاً إلى التخطيط للمستقبل القصير والمتوسط والبعيد.
اهتمام الشعوب بكتابة تاريخها
ظل مفهوم التاريخ في العصور القديمة يتلخص بشكل أساسي في سرد الأحداث المهمة وروايتها وتوثيقها، إلى جانب التركيز على الشخصيات البارزة والأبطال، والأعمال الكبرى التي قاموا بها، وإعطاء بعد أسطوري غالب إلى هذه الأعمال، لذلك، تداخلت الأساطير مع الحقائق التاريخية في السرد التاريخي القديم. ومن أهم الشعوب التي شكّل التاريخ وكتابته جزءاً أساساً من ثقافتها وحضارتها:
1- السومريون (العراقيون القدماء):
لعل العراقيين القدماء، أي أصحاب حضارة وادي الرافدين، هم أول من سجّلوا تاريخهم وأساطيرهم ووثقوا أعمالهم، إذ اخترع السومريون الكتابة المسمارية في حوالي 3500 ق.م، وكانت تُستخدم لتدوين الأحداث والمعاملات التجارية والنصوص الأدبية. تُعتبر الألواح الطينية من أهم المصادر التي توثق ذلك. وكانت سجلات الملكية التي تُكتب على الألواح الطينية تُستخدم لتوثيق إنجازات الملوك والمعارك والانتصارات، مثل السجلات المتعلقة بالملك “سرگون الأكدي” (2300-2048 ق.م)، فضلاً عن السجلات الإدارية والدينية والقانونية. ويُعد المؤرخ العراقي “شموشيد” رائد هذه السجلات؛ إذ كتب عن تاريخ العراق القديم بأسلوب سردي ومن منظور الملوك الذين عاشوا تحت رعايتهم. بينما تُعدّ «ملحمة گلگامش» (حوالي 2100 ق. م) السومرية نموذجاً للسرد الأدبي الذي يجمع بين الأسطورة والمنظور الديني والحضور التاريخي شبه الحقيقي.
2- المصريون:
بدأ المصريون القدماء الكتابة والنقوش التاريخية بالهيروغليفية على المعابد والأهرامات لتوثيق الأحداث المهمة، وهو شكل مبكر من التوثيق التاريخي. كان من أقدم مؤرخيهم البارزين الكاهن “مانيتون” (القرن الثالث ق.م)، الذي كتب «تاريخ مصر» باللغة اليونانية، وهو من أقدم الكتابات التاريخية؛ إذ قسّم فيه التاريخ المصري إلى أسر وملوك وأحداث سياسية وعسكرية. لذلك، ساعدت الاكتشافات الأثرية بشكل أساسي في معرفة تاريخ مصر القديم والحياة اليومية والدينية والسياسية للمصريين القدماء ودراستها.
3- الفرس:
اهتم الفرس اهتماماً كبيراً بتسجيل تاريخهم ووثوقه ودراسته بطرق متنوعة؛ إذ تعود كتاباتهم الأولى إلى ما يقرب من (1500) سنة قبل الميلاد، وتُعد النصوص الدينية أيضاً من الكتابات القديمة للتاريخ الفارسي، وأهمها “أفستا” الذي كتبه زرداشت (حوالي 1000 ق. م)، وهو الكتاب المقدس للزرادشتيين (المجوس). ونشطت الكتابات في عصر الإمبراطور “كوروش” (600-530 ق. م)، مؤسس الدولة الفارسية الأخمينية. كما ظهر خلال العصر الإسلامي مؤرخون فرس كبار، أبرزهم محمد بن جرير الطبري (838-923 م)، الذين وثقوا التاريخ الفارسي باللغة العربية ضمن سياق التاريخ الإسلامي. كما برز أبو القاسم فردوسى (932-1020 م) صاحب «ملحمة الشاهنامه»، الذي دون تاريخ الفرس والقوميات المحيطة بهم باللغة الفارسية المتجددة، وجمع فيها بين الأسطورة والحقائق التاريخية.
4- الإغريق (اليونانيون):
يُعد المؤرخ والحكيم اليوناني “هيرودوتس” (484-425 ق. م) مؤسس فن كتابة التاريخ، ويُعرف بـ “أب التاريخ” عند الإغريق، حيث قدم في كتابه «التاريخ» سرداً للأحداث والمعارك التي وقعت بين الإغريق والفرس، وقام بأسطرة كثير من أعمال ملوك الإغريق وشخصياتهم. جاء بعده “ثيوسيديدس” (460-400 ق. م)، الذي كان أكثر دقة في مقارباته، حيث اعتبر في كتابه «تاريخ الحرب البيلوبونيسية» أن التاريخ يجب أن يعتمد على الحقائق والشهادات والنقد، ولذلك كان كتابه خالياً من الأساطير تقريباً. كما كتب “كسنوفون” (430-354 ق. م) كتابين «أناباسيس» و«تاريخ هيرميادس»، ثم “ديودور الصقلي” (القرن الأول ق.م) الذي كتب «المكتبة التاريخية»، حيث جمع معلومات عن التاريخ اليوناني والعالمي من مصادر متنوعة، مما جعله مصدراً تاريخياً مهماً.
5- الرومان (الإيطاليون):
بدأت الكتابة التاريخية في روما في القرن الثالث قبل الميلاد، مع تركيزها على الأحداث السياسية والعسكرية، بهدف فهم الاستراتيجيات العسكرية والسياسية التي شكلت الإمبراطورية الرومانية. اعتبر المؤرخون الرومانيون الحروب والمعارك أحداثاً محورية في تشكيل التاريخ الروماني، وكان أبرزهم “بوليبيوس” (200-118 ق.م) في كتابه «التاريخ العام»، الذي تناول فيه صعود الإمبراطورية الرومانية وتأثيرها على العالم المتوسطي بأسلوب نقدي وتحليلي، مع التركيز على الأسباب والنتائج. وكانت الكتابات التاريخية تُستخدم أيضاً كوسيلة لتعليم القيم والمبادئ الرومانية. تطور المنهج النقدي في كتابة التاريخ بشكل ملحوظ في ظل الدولة الرومانية، حيث بدأ المؤرخون في تحليل المصادر وتقييم موثوقيتها. كان “تيتوس ليفيوس” (59 ق.م – 17م) أحد أبرز المؤرخين الرومان؛ إذ وثق «تاريخ روما» بأسلوب أدبي رفيع. استخدم “سويتونيوس” (69-140 م) و”كاسيوس ديو” (163-229 م) أسلوباً نقدياً لتوثيق الأحداث، مما ساعد في تقديم رؤية موضوعية للتاريخ الروماني.
6- الصينيون:
ظل التاريخ في الصين جزءاً أساساً من الثقافة والفلسفة، وخاصة ما يرتبط بتاريخ الإمبراطوريات الصينية وأُسر حكامها. يُطلق الصينيون على مؤرخهم “سيما تشيان” (145-86 ق.م) لقب (أب التاريخ الصيني)، وهو صاحب كتاب «سجلات المؤرخ الكبير»، الذي يُعدّ أول كتابة تاريخية شاملة لتاريخ الصين منذ العصور القديمة حتى عصره. وقد قرن فيه بين الأخلاق والسياسة؛ إذ ينظر الصينيون إلى التاريخ كوسيلة لتعلم الدروس الأخلاقية، وفق عقيدة الحكيم “كونفوشيوس” (551-479 ق.م)، كجزء من دورة اجتماعية وأخلاقية.
7- اليهود:
يُعدّ كتاب «التناخ» باللغة العبرية، الذي كتبه كهنة اليهود طيلة أكثر من (800) عام، أي منذ العام 750 ق.م حتى منتصف القرن الأول الميلادي، هو النص الأساس المقدس لدى اليهود، والذي يسرد تاريخهم وعلاقتهم بإلههم، كما يوثق لحياة النبي موسى. ويضم «التوراة» ونصوصاً أخرى، ويعتمد عليه مؤرخي اليهود كمصدر صحيح ونهائي لخلق العالم ولتاريخهم وتاريخ علاقتهم بالله. وقد ظهرت دراسات آثارية نقدية حديثة في أوروبا تتعارض مع ما جاء في «التناخ»، وهي دراسات تستند إلى الأدلة المادية مثل الآثار والكتابات القديمة، بعيداً عن الروايات الدينية اليهودية التي قد تتضمن عناصر أسطورية أو مبالغ فيها. وقد ظهر مؤرخون يهود، أهمهم “يوسفيوس” (37-100 م)، الذي كتب «تاريخ اليهود»، ووثق الأحداث منذ بداية التاريخ اليهودي حتى فترة حكم الرومان، وعزّز فيه الروايات الدينية اليهودية. كما برز في العصر الإسلامي مؤرخون يهود كثر، أهمهم مناحيم بن سليمان ويعقوب بن يوسف، الذين تناولوا تاريخ اليهود في ظل الحكم الإسلامي والمسيحي، وكانت كتاباتهم تركز على التفاعل بين اليهود والمجتمعات الأخرى.
8- المسيحيون:
تتضمن الكتابات المسيحية الأولى مجموعة من النصوص الدينية التاريخية التي جمعت في «الإنجيل» أو «العهد الجديد»، وصولاً إلى الكتابات التاريخية اللاحقة. تُعتبر الأناجيل الأربعة (متى، مرقس، لوقا، يوحنا) من أبرز النصوص التي توثق حياة النبي عيسى بن مريم وتعاليمه. تُعد كتابات الرهبان المسيحيين الذين ظهروا في أوروبا، مثل “أوغسطينوس” (354-430 م) في كتابه «مدينة الله»، الذي يتناول التاريخ من منظور لاهوتي، مصادر مهمة لفهم تطور الفكر المسيحي، حيث اعتبروا أن الأحداث التاريخية هي تجسيد لمشيئة الله. أما الراهب الإنجليزي بيدا (672-735 م) فيُعتبر من أبرز المؤرخين المسيحيين في العصور الوسطى الأوروبية، حيث كتب «تاريخ الشعب الإنجليزي»، ووثق لوجود المسيحية في إنجلترا. وفضلاً عن المؤرخين، فإن المجامع الكنيسية العالمية المركزية تعدّ جزءاً مهماً من تاريخ المسيحية، وخاصةً مجمع نيقية (325 م) ومجمع أفسس (431 م).
9- العرب والمسلمون:
شهد العصر الإسلامي، خاصةً خلال الحكم العباسي، قفزةً كميةً ونوعيةً في النظرة إلى التاريخ والاهتمام به ودراسته، وتوسع مفهومه ليشمل الجوانب الدينية والأخلاقية والفلسفية. وقد اعتبر المؤرخون المسلمون، كغيرهم من أتباع الأديان الإلهية، أن التاريخ هو مخطط إلهي وجزء من شبكة الأحداث الكونية المتلازمة. وكانت كتابة التاريخ عند المؤرخين المسلمين تعتمد ابتداءً على منهج التسلسل الزمني، ثم تطورت إلى الكتابات التاريخية وفق الموضوعات، كالأنساب والتراجم والأحداث. وقد تعززت خبرة المسلمين في كتابة التاريخ بعد نشوء حركة الترجمة في بغداد وتطورها.
وبدأت كتابة التاريخ عند المسلمين بتدوين سيرة النبي محمد، وكانت تجمع بين الرواية وسرد السيرة النبوية. وكان أبرز روادها محمد بن إسحاق المدني (704-767 م)، الذي نقلها عنه عبد الملك بن هشام (ت 833 م) في كتابه «السيرة النبوية». أما على مستوى كتابة التاريخ الإسلامي، فلعل أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي (728-787 م) هو أقدم المؤرخين العرب والمسلمين، وقد ألّف عدداً من الكتب، أهمها: «أخبار الردة» و«الجمل» و«صفين». وكان محمد بن عمر الواقدي (747-823 م) معاصراً لأبي مخنف، وينافسه في الشهرة، ومن أهم كتبه «التاريخ والمغازي». ويعد هؤلاء الثلاثة أقدم المؤرخين المسلمين، وأهمهم في القرن الثامن الميلادي.
وشهد القرن التاسع الميلادي ظهور عدد من المؤرخين المسلمين، أبرزهم أحمد الماروزي الملقب بابن طيفور (819-893 م)، وهو أول من ألّف في «تاريخ بغداد». وقد شهد هذا القرن ظهور أهم مؤرخين موسوعيين، هما أحمد بن إسحاق اليعقوبي (ت 897 م)، صاحب كتاب «تاريخ ابن واضح» أو «تاريخ اليعقوبي»، الذي يؤرخ لتاريخ الشعوب ما قبل الإسلام وتاريخ الإسلام حتى العام 872 م، ومحمد بن جرير الطبري (838-923 م)، صاحب كتاب «تاريخ الأمم والملوك»، الذي يُعتبر من أهم المصادر التاريخية الإسلامية.
وكان علي بن الحسين المسعودي (896-957 م) أهم مؤرخ مسلم ظهر في القرن العاشر الميلادي، والذي يصفه بعض الباحثين بـ “هيرودوت العرب”، بالنظر لأهميته. و”هيرودوت” ـ كما ذكرنا سابقاً ـ يعد “أب التاريخ” عند الإغريق ومؤسس فن كتابة التاريخ. ومن أشهر كتب المسعودي «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، وهو موسوعة تاريخية جغرافية اجتماعية وسيرة ذاتية. وقد تأثر به كثير من المؤرخين والمفكرين الاجتماعيين المسلمين وغير المسلمين، أهمهم عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406 م)، الذي أدخل فهماً علمياً فكرياً اجتماعياً جديداً للتاريخ، وخاصة في كتابه «المقدمة»، وهو الجزء الأول من موسوعته التاريخية؛ إذ قدّم فيه تحليلاً اجتماعياً وتاريخياً للأمم والدول، ودرس العلل والأسباب التي تؤدي إلى صعود وانهيار الحضارات.
10- الأوروبيون:
مع بداية العصر الحديث، شهد مفهوم التاريخ تحولاً كبيراً نحو المنهج العلمي والتحليل النقدي، وأصبح يُفهم كعلم اجتماعي أكاديمي، وبات المؤرخون يركزون على استخدام الأدلة والبحث المنهجي، من أجل فهم الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية. كما بات يتشدد في تمحيص المصادر ودراستها وفهم سياقاتها المختلفة. وخلالها، تحوّل التاريخ إلى أحد أهم العلوم الاجتماعية، كما أظهر هذا التحول تنوعاً في مناهج التاريخ وكتابته وتحليله وتفسيره، تبعاً للموضوع التاريخي أو تبعاً لأهداف الدراسة التاريخية.
ويعد الأوروبيون مؤسسي علم التاريخ الحديث وفكره ومناهجه؛ وأبرز من ساهم في عملية التأسيس هذه المفكر الأسكتلندي “ديفيد هيوم” (1711-1776) في كتابه «تاريخ إنجلترا»، والمؤرخ الإنجليزي “إدوارد غيبون” (1737-1794) في كتابه «اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»، والمؤرخ الفرنسي “لوسيان فيفر” (1878-1956)، الذي كان له تأثير كبير في تطوير التاريخ الاجتماعي، حيث اعتبر أن التاريخ يجب أن يستند إلى دراسة المجتمعات وتفاعلاتها، ومن أشهر أعماله في هذا المجال «معارك من أجل التاريخ»، والمؤرخ الفرنسي “فرنان بروديل” (1902-1985)، وهو من أبرز زملاء “فيفر” في مدرسة مجلة الحوليات الفرنسية. ولعل المؤرخ البريطاني “إريك هوبسباوم” (1917-2012) يعد آخر علماء التاريخ المعاصر في أوروبا، وقد تناول في مؤلفاته موضوع التاريخ من منظور اقتصادي واجتماعي، ومن أشهر مؤلفاته «عصر الثورة» و«عصر رأس المال» و«عصر الإمبراطورية».
علم التاريخ
علم التاريخ هو أحد العلوم الإنسانية التي تهتم بشكل أساسي بالماضي وأحداثه وشخصياته وعوامل صناعة الوقائع وتطورها. أي أنه الأداة المنهجية أو العملية الأكاديمية التي تهدف إلى فهم أحداث الماضي ووقائعه وشخصياته بدقة وعناية، ودراستها وتحليلها وتفسيرها بمنهجية علمية تنطوي على قواعد ومعايير ثابتة؛ لتحقيق رؤية شاملة للتاريخ البشري، وتحديد الجذور التاريخية لهوية الإنسان والمجتمعات والأقوام، الدينية والثقافية والاجتماعية والقومية والسياسية والاقتصادية وتطورها. كما يدرس تأثير أحداث الماضي على حاضر المجتمعات البشرية ومستقبلها، ويربطها ببعضها زمنياً.
وعلى مستوى المصادر والأدلة، فإن علم التاريخ يسعى إلى الوصول إلى استنتاجات موضوعية قائمة على المعلومات والأدلة والمصادر والبراهين، كالروايات والوثائق والبيانات والشهادات الشفوية والمدونات والكتب والبحوث، دون انحياز. ويعمل على وضع معايير لتقويم هذه الأدلة والمصادر وتدقيقها وتحليلها، وهو ما يتطلب استخدام تقنيات وأساليب بحثية علمية دقيقة لضمان دقة المعلومات والأدلة وموثوقيتها وموضوعيتها. لأن كثيراً من الروايات والشهادات قد تكون غير دقيقة أو متعارضة. وكذلك فهم كيفية تعامل المؤرخين مع هذه المصادر ومستويات مصداقيتها وتعارضاتها، والمقارنة بينها وتحليلها ونقدها، وكيفية تشكيل تفسيراتهم للأحداث والخروج بالاستنتاجات حيالها، وتأثير انتماءاتهم وهوياتهم وميولهم على تعاملهم مع الأحداث ورواياتها، وهو ما يعرف بمناهج المؤرخين في التدوين والتوثيق والتحليل والتفسير. وبناءً على ذلك، من الطبيعي أن تكون هناك تصويرات مختلفة ومتنوعة للواقعة الواحدة ولشخصية واحدة، وقد تكون هذه الروايات متحيزة أو غير دقيقة، مما يجعل التاريخ عرضة للتفسيرات المختلفة.
وهناك من يرى في التأريخ فناً إلى جانب كونه علماً، أو أكثر من كونه علماً؛ لأنه يحتاج من المؤرخ أن يتمتع بموهبة ذاتية ومهارة تراكمية في اختيار الأحداث وفهم عناصرها وعوامل تشكيلها ووعي حقيقة أدلتها، وربطها ضمن سياق منطقي. وهناك من يرى التأريخ قريباً من الأدب في بعض الأحيان؛ لأنه يعتمد أسلوب السرد والوصف. والحقيقة أن التأريخ بدأ فناً في مهاراته العقلية وأدواته التنفيذية، من خلال تسجيل الأحداث كرسوم ونقوش ورموز وحروف بدائية على الألواح الطينية والرخام والصخور. ثم دخل ميدان الأدب، بعد أن أصبح الأدباء والشعراء يصيغون روايتهم للتاريخ في قصائدهم ونصوصهم النثرية. ثم دخل ميدان الحكمة والفلسفة، حتى بات علماً كبيراً معقداً ومتشعباً. وبالتالي، يمكن القول إن التاريخ يجمع بين مواصفات العلم والفن والأدب والحكمة؛ لأن نكهة هذه المجالات الأربعة لا تزال راسخة في الأعمال التاريخية الناجحة.
ويشير هذا العرض إلى مفهوم علم التاريخ إلى الفرق اللغوي والاصطلاحي الواضح بين (التاريخ) و(التأريخ)؛ فالتاريخ يشير إلى مجموعة الأحداث والوقائع التي حدثت في الماضي، بينما يُعنى الثاني بالتعبير عن عملية حيوية لتدوين هذه الأحداث وتوثيقها وتحليلها، والطرق أو المناهج التي تتم بها هذه العملية، وكيفية حفظها ونقلها إلى الأجيال التي لم تعش هذه الأحداث؛ ليتمكنوا من تصورها. وكلما كان المؤرخ بارعاً وماهراً وعالماً، كلما نجح بشكل أكبر في تصوير الأحداث وتحليلها تصويراً يجعل من لم يعشها كأنه يعيشها وهو يقرأ نص المؤرخ، وهذا دليل آخر على أن جزءاً من التأريخ هو فن وأدب.
مناهج كتابة التاريخ
الأدوات والأساليب والطرق والقواعد، مصطلحات تكاد تكون متقاربة في معانيها ومفاهيمها، وهي ترادف بمجموعها معنى مناهج كتابة التاريخ، وهي التي يعتمدها المؤرخ في كتابة التاريخ وتحليله وتفسيره، وفي التعامل مع مصادره ورواياته. وقد وُضعت هذه المناهج في وقت متأخر زمنياً عن البدء بالاهتمام بالتاريخ وتسجيله وتدوينه، وقد استنتجها علماء التاريخ غالباً من خلال دراستهم للأعمال التاريخية للمؤرخين؛ فبات لكل مؤرخ أو لكل مدرسة تاريخية منهجها وفق ما استنتجه هؤلاء العلماء، وهي التي تعبر عن تجربة كل مؤرخ أو تجربة مدرسته التاريخية ورؤيتهما للتاريخ. وهناك مناهج أيضاً وضعها المؤرخون وعلماء التاريخ ليعبروا من خلالها عن رؤيتهم لعملية كتابة التاريخ وما ينبغي أن تلتزم به من أدوات وقواعد وأساليب.
وتعتبر مناهج تدوين التاريخ وتحليله وفهمه من العناصر الأساسية التي تساهم في بناء المعرفة التاريخية، وهي تساعد المؤرخين والباحثين في استكشاف الأحداث والوقائع وشخوصها، وتنظيم المعلومات ذات العلاقة بها، وتقديمها بشكل علمي وموثوق، من خلال استخدام الأدوات والأساليب والطرق والقوالب الواضحة. ولا يمكن للباحث التاريخي أو المؤرخ أن يقوم بعمله العلمي والمهني على الوجه الصحيح والدقيق، دون معرفة هذه المناهج واتباعها وفق المدرسة التي ينتمي إليها.
وتتعدد المناهج التي استخدمها المؤرخون عبر العصور، ومن أبرزها:
1- المنهج الحولي: لعله أقدم المناهج المستخدمة في كتابة التاريخ، حيث يتم فيه عرض الأحداث وفق تسلسل زمني سنوي، لتسهيل تتبع تسلسل الأحداث عبر الزمن.
2- منهج الطبقات: يُستخدم بشكل خاص في كتب تراجم الشخصيات التاريخية وسيرها، وهو يعتمد على تقسيم الشخصيات والأحداث إلى طبقات حسب القرن الذي عاشت فيه أو حسب أهميتها أو اختصاصها.
3- المنهج الموضوعي :يقتطع موضوعات معينة من مشاهد التاريخ، كدول أو حروب معينة، ويقوم بكتابة تاريخها.
4- المنهج الشامل: يتناول التاريخ من منظور واسع يشمل جميع جوانب الحياة الإنسانية، بما في ذلك الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بهدف تقديم صورة متكاملة عن حياة الحضارات أو المجتمعات أو الدول وتطورها.
5- المنهج السردي أو الوصفي: يعتمد سرد الأحداث والوقائع ووصفها كما هي، بشكل متسلسل، دون أن تكون لشخصية المؤرخ حضور في النص. وتعد الكتابات وفق هذا المنهج مادةً أولية (خام) أساسية وجاهزة يستخدمها الباحثون والمحللون التاريخيون.
6- المنهج التوثيقي :يشبه المنهج السردي في عرضه للأحداث، لكنه يدقق في المصادر ورواياتها ومعلوماتها، ويحلل هذه المصادر ويقومها وينتقدها، للوصول إلى معلومات تاريخية نقية وصافية.
7- المنهج التحليلي: يعرض الأحداث ويدرس الأسباب والنتائج التي تقف وراءها، ويحللها بهدف فهم العوامل التي أدت إليها.
8- المنهج المقارن: يُستخدم هذا المنهج للمقارنة بين أحداث أو فترات زمنية أو شخصيات، لفهم الاختلافات والتشابهات، لتقديم معرفة أفضل للحدث والشخصية، بناءً على قاعدة الأشياء تعرف بأضدادها أو شبيهاتها.
9- المنهج الكمي: يعتمد على البيانات الكمية والإحصائيات لدراسة الأحداث التاريخية، ويُستخدم غالباً في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية.
حركة التاريخ
حركة التاريخ هي المسار العام للأحداث والتغيرات الاجتماعية المستمرة المتسلسلة عبر الزمن، والتي تقع نتيجة عوامل متداخلة ومتفاعلة ومعقدة، كالدين والاقتصاد والسياسة والحروب والثقافة، والتي تؤثر على مسار المجتمعات والشعوب. تستوعب حركة التاريخ الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وهي أزمنة مشدودة ببعضها، ليس على مستوى تسلسل الأحداث وتراتبيتها واستمرارها، وإنما على مستوى العوامل المتفاعلة التي تصنعها. فحركة التاريخ ممتدة عبر الأزمنة الثلاثة، وكل منها يؤثر في الآخر ويتفاعل معه ويتكئ عليه.
ومهما اختلفت الرؤى بشأن التاريخ؛ فإنه كائن حي يؤثر ويتأثر، وحياته تشتمل على أجزائه الثلاثة. وإذا كان الماضي والحاضر هما جزآن منظوران محسوسان من خلال النقل أو المعايشة، فإنّ المستقبل هو الجزء غير المرئي، ولكنه موجود وحيّ بكل المعايير. التقدير الإلهي هو الإطار الذي يستوعب في داخله كل حركة التاريخ بأدق تفاصيلها. وإن كان مجالها المستقبلي مغيباً عن عين الإنسان، لكنه يستطيع أن يتحسسها ويستشعر آثارها. من خلال هذا التحسس والاستشعار يتدخل الإنسان بإرادته للتأثير في حركة المستقبل، بالمقدار المتروك له من الحرية، والتي تتسع لكل قابليات الإنسان وقدراته، وتدور حول التقدير والوعود والسنن الإلهية.
من هنا، فإنّ المستقبل يُصنع أيضاً ويُحرَّك، والإنسان محور هذه الحركة، كما هو محور كل حركة التاريخ. بيد أنّ الإنسان ليس الفاعل الأول والوحيد في حركة التاريخ، أي أنه ليس العلة التامة فيها، فهناك عناصر أخرى – أرضية – تشارك في تحريك التاريخ وصناعته. وهناك العديد من المدارس الدينية والفكرية والفلسفية التي أجابت عن سؤال: من يصنع التاريخ ويحركه ويتحكم به ويبنيه؟ وفق مبادئها وأصولها النظرية وتجربتها التاريخية. دخلت هذه الأجوبة ضمن حقول معرفية متنوعة، أبرزها: المسألة الحضارية، وقضايا النهضة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، وفلسفة التاريخ والسنن الإلهية، والفكر السياسي والدراسات المستقبلية. شغل هذا الموضوع – طويلاً – علماء الحضارة والاجتماع وفلاسفة التاريخ وعلماء الدين والمؤرخين والباحثين المستقبليين والمفكرين السياسيين، ولا يزال يشغلهم. وفي تطور آخر، اختلفت معايير تقسيم هذه المدارس، بالنظر لتشعبها وتداخلها، ولاختلاف زوايا النظر إليها.
هناك مدارس ترى أن الفرد (البطل) هو الذي يحرك التاريخ، من خلال نماذج الأنبياء والأوصياء والقادة والمبدعين، بينما تذهب مدارس أخرى إلى أنّ النخب المتميزة سياسياً أو نسبياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً هي المحرك للتاريخ. وهناك ثالثة تعتقد أن المجتمع بكل عناصره هو المسؤول، ورابعة تعتقد أن القوانين الاجتماعية التاريخية هي المسؤولة، وخامسة تعتقد أن الأفكار هي المحرك. تكشف هذه المدارس والمناهج المعنية بالإطار النظري عن وجود تعارضات أو مشتركات، ولا شك أنّ لكل اتجاه ومنهج زاويته الخاصة في النظر لحركة التاريخ، ومدخله العلمي الخاص في دراسة عناصر تحريك التاريخ. تكشف النتائج التي يفرزها الواقع عن تقاطع آخر بين هذه الاتجاهات وبين الواقع، مما يشير إلى وجود ثغرات في الأساس الفكري أو المنحى الآيديولوجي أو المنهج البحثي أو أساليب الاستدلال.
وأرى أن المدرسة التكاملية يمكنها الإجابة عن كل التساؤلات وتجاوز كل الثغرات، وهي المدرسة التي تفرزها معطيات العقيدة الإسلامية، واستوعبت النصوص الإسلامية في مجال تفسير التاريخ وأزمنته، كما استوعبت دروس التاريخ ومعادلاته، فضلاً عن المناهج التي بحثت في حركته وفي عناصره الفاعلة، والمناهج النظرية الحديثة التي تعالج موضوع المستقبل وإمكانيات التحكم بحركته.
ولا شك في أن البطل وحده لا يستطيع دائماً أن يصنع التاريخ، وكذا النخبة، والمجتمع، والفكر، والقوانين الاجتماعية التاريخية. كما أن التاريخ ليس صيرورة حتمية تتفاعل ذاتياً لتنتج نتائج قسرية وجبرية. تعطي (المدرسة التكاملية) لهذه العناصر وغيرها حجمها الطبيعي، وتتجنب الأحادية المتمثلة في المثل الأعلى الأرضي أو الأخروي أو السماوي. أي أن البطل (القائد) والنخبة (الصفوة) والمجتمع (الأمة) والفكرة (العقيدة) والقوانين التاريخية الاجتماعية (السنن الإلهية) والحتميات التاريخية (الوعود الإلهية) كلها عناصر فاعلة تكمل بعضها بعضاً، وتساهم معاً بنسب معينة في تحريك التاريخ، وهذه العناصر هي في الواقع مصاديق للسنن الإلهية على مختلف أنواعها.
وتنظر المدرسة التكاملية (الإسلامية) إلى موضوع القيادة التاريخية الحضارية، من زاوية دور استخلاف الإنسان في الأرض ومتطلبات هذا الدور، وتمثيل القائد لإرادة المثل الأعلى السماوي، وتحوله إلى مثل أعلى أرضي (نسبي)، في إطار امتدادات الاستخلاف على الأرض، ومواصفات الإنسان المستخلف، وعلاقاته مع الآخر (إنساناً أو طبيعة)، ونوعية النظم التي تحكم هذه العلاقات، وأهداف الاستخلاف وغاياته الدنيوية والأخروية. ظل دور القائد (البطل) مرتبطاً في الإسلام بأداء التكليف والوظيفة الشرعية. وإذا استثنينا سيرة النبي محمد وأوصيائه، فإن التاريخ الإسلامي كان يركز على البعد الحضاري في مسيرته أو إنجاز الأمة الحضاري أكثر من تأكيده على دور القائد الفرد.
أما الصفوة فهم الرواد والمبدعون في شتى حقول العمل والمعرفة، وتفرزها الكفاءة والإنجاز ونوعية أداء التكليف، وليس العرق أو النسب أو الولاءات البشرية. وجود هذه الصفوة (كماً ونوعاً) هو الذي يميز إنجازات الأمة الحضارية عن غيرها من الأمم. بينما تعد الأمة ميداناً لتطبيق الأهداف الحضارية لحركة التاريخ، وهي الرحم الذي أنجب القادة والصفوة، عدا الأنبياء والأوصياء الذين تنتمي الأمة إليهم، لا العكس. يأتي الدين والأفكار التي تستند إليه ليكونا منطلق حركة التاريخ وقاعدتها ووقودها. والدين، فضلاً عن كونه تشريعاً إلهياً، فهو سنة من سنن التاريخ وقانون يدخل في صميم فطرة الإنسان كما يقول السيد محمد باقر الصدر.
وقد اعتمد السيد محمد باقر الصدر تقسيمين للسنن التاريخية:
الأول: تقسيمها إلى مشروطة ومنجزة.
الثاني: تقسيمها إلى سنن تقبل التحدي وسنن لا تقبل التحدي.
والسنن المشروطة هي التي تربط الجزاء بشرط الفعل، والمنجزة هي السنن الحتمية، كحدوث مرحلة العدل ووراثة المستضعفين الأرض في المستقبل الإنساني. وهي المرحلة التي تمثل السقف الزماني والمكاني للمساحة التي يتحرك فيها الإنسان بحريته وإرادته للتمهيد لعصر العدل.
وبالتالي، ترى المدرسة التكاملية أن عملية استنهاض الأمة هي جزء من حركة التاريخ؛ إذ إن حركة التاريخ هي حركة غائية لا سببية فقط، وليست مشدودة إلى سببها وإلى ماضيها، بل إلى الغاية، لأنها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة إلى المستقبل. فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية، وإن كان عدماً في الزمن الحاضر، إلا أنه يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يجسد جانباً فكرياً يضم تصورات الهدف، وجانباً عملياً يمثل الطاقة أو الإرادة التي تحفز الإنسان نحو الهدف. وبالامتزاج بين الفكر والإرادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية.
وبناءً على هذه المعادلة، فإن هدف حركة التاريخ هو إعمار الأرض وتحقيق مسؤولية الاستخلاف، وغايتها الله (تبارك وتعالى)، والدين قاعدتها وشرعتها، والأمة ميدانها، والإنسان محورها، والقيادة الشرعية في الإسلام هي التي تمسك بمقودها.
فلسفة التاريخ
هي مجال بحثي يجمع بين التاريخ والفلسفة، لكنه يصنّف علمياً كأحد فروع الفلسفة وموضوعاتها. تهتم فلسفة التاريخ بدراسة الأسس النظرية للتاريخ وتفسير وقائعه من منظور فلسفي، بهدف فهم حقيقة حركة التاريخ ودلالاتها. من خلال ذلك، تستنتج القوانين الاجتماعية التي تحرك التاريخ، والتي اكتشفها فلاسفة التاريخ من خلال استقراء الأحداث التي مرت بها البشرية، ومن خلال التوقف عند الدروس التي تركتها، حتى أمكنهم من خلال تلك القوانين التعرف على أسباب تشكل الحضارات والمجتمعات المنظمة وصعودها أو توقفها عن التقدم أو أفولها وسقوطها. هذه القوانين ليست جامدة كما هي عليه قوانين المادية التاريخية، بل إنّها تتمتع بالمرونة التي تجعلها خاضعة لإرادة الإنسان (الفرد أو المجتمع) وحريته في التحكم بمسيرة حياتهم، لا سيما تلك القوانين المشروطة التي ترتبط فيها النتائج بطبيعة فعل الإنسان. وقد أشارت النصوص الإسلامية المقدسة (القرآن والسنة) إلى هذه القوانين وأطلقت عليها صفة (السنن)، أي أن التفسير السنني للتاريخ يدخل ضمن منهجية فلسفة التاريخ، ولكنه يختلف عنها باستخدامه النصوص القرآنية ونصوص السنة الشريفة في اكتشاف طبيعة حركة التاريخ وقوانينها.
ولعل جماعة (إخوان الصفا)، التي عاشت في العصر العباسي، هي أول من بلور هذا الاتجاه في معادلات وقواعد تفصيلية بالاعتماد على النصوص الإسلامية والرؤى الفلسفية اليونانية والرؤى الخاصة بالجماعة، ثم استفاد منهم ابن خلدون في مقدمته، وصولاً إلى العصر الحديث، حيث نظّر بعض المفكرين والعلماء المسلمين المعاصرين إلى التفسير الإسلامي للتاريخ، وأبرزهم مالك بن نبي والسيد محمد باقر الصدر وعماد الدين خليل والشيخ مرتضى مطهري وغيرهم.
أما في الغرب، فقد تبلورت مدرسة فلسفة التاريخ على يد عدد من الفلاسفة وعلماء التاريخ خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين الميلادي، لا سيما “أوزوالد شبنغلر” و”أرنولد توينبي”، حيث قرنوا فلسفة التاريخ بعلم اجتماع الحضارات. بينما يفرّق بعض المفكرين – كالشيخ محمد تقي مصباح اليزدي – بين فلسفة التاريخ وعلم اجتماع الحضارات، في حين يعدهما آخرون حقلاً واحداً يسمّونه التفسير الحضاري للتاريخ (Historismetry) الذي وضعه المؤرخ “فردريك وودز”، وإن اختلفت منهجية كل فيلسوف أو مفكر أو مؤرخ في الاكتشاف والاستدلال والاستنتاج.
ويعدّ منهج القياس التاريخي قريباً من حقل فلسفة التاريخ ومنافساً له، ولكنه يختلف عنه في عدة أوجه. فمنهج القياس التاريخي يُخضع حقائق التاريخ للمعالجة الإحصائية وفقاً لبعض أساليب القياس الموضوعية، وبكلمة أخرى، فهو منهج يختص باختبار القوانين التاريخية أو السنن العامة التي تتعلق بالسلوك الإنساني، من خلال تطبيق التحليلات الكمية على معطيات مستخلصة من عينات تاريخية، كما يقول عالم النفس الأمريكي “دين كيث سايمنتن”. وبذلك يربط منهج القياس التاريخي بين فلسفة التاريخ وعلم النفس الاجتماعي، إذ إنه يكتشف القوانين السلوكية العامة التي تصنع الأحداث. وهناك أيضاً منهج آخر قريب من منهج فلسفة التاريخ والقياس التاريخي، هو منهج الإحصاءات التاريخية(clionometrics) الذي يهتم أيضاً بفهم حركة التاريخ، ولكنه يركز على الأرقام والإحصاءات الكمية، والمقارنة بينها، ودور زيادة أو نقصان هذه الأرقام في تحديد مسار التاريخ.
وبعيداً عن المناهج التاريخية المحضة، فإنّ اتجاهاً مغايراً يرى أن الأفكار والمعتقدات هي التي توجه حركة التاريخ، ويمثله المفكر والفيلسوف الإنجليزي “جون ستيوارت ميل” وآخرون؛ إذ يقولون: إن الأفكار هي العامل الأساس في صنع الأحداث وفي تقدم وتراجع الحضارات والمجتمعات، وإن كل تقدم حضاري فعلي – كما يتبنى ذلك أيضاً الباحث المصري حسين مؤنس – لا بد أن يسير منذ البداية على خط فكري واضح ومدروس. وهناك باحثون ومؤرخون يرون أن المسار التاريخي للبشرية يجري في إطار مخططات خفية، ترسمها وتنفذها قوى سرية مركزية عليا تقود العالم وتحرك أحداثه، وأن هذه القوى هي التي تمتلك وحدها مستقبل العالم، وأن القادة والشعوب والأفكار ما هي إلا عناصر وبيادق تحركها هذه القوى، وهي موجودة دائماً وتتغير من حقبة زمنية إلى أخرى. وهذا الرأي هو خلاصة لنظرية المؤامرة في التحليل التاريخي.
ولعل قراءة متأنية لما ورد في كتابي «أحجار على رقعة الشطرنج» للمؤرخ البريطاني “وليام غاي كار”، و«حكومة العالم الخفية» للباحث “سبيروفيش”، تكشف عن المفاصل الرئيسة لنظرية المؤامرة. يعتقد الأول أن النورانيين (الكنيس الشيطاني) هم القوة الخفية التي تحكم العالم، أما “سبيروفيش” فيعتقد أن اليهود والماسونيين هم الذين يقفون وراء حركة الأحداث في الماضي والحاضر والمستقبل. والحال، أن إعطاء هذا الدور لليهودية والماسونية فيه الكثير من الوهم والمبالغة، فمعظم أحداث العالم لا يمكن أن ترسمها سياسة أرضية موحدة، ولا يمكن أن تخضع لمخطط أرضي واحد، كما أن الماسونية أو اليهودية أو أصحاب الشركات الاحتكارية أو أصحاب رؤوس الأموال العالمية يظل دورهم محكوماً بالأحداث نفسها، ولا يمكن أن يكونوا قادرين على الإمساك بمؤامرة دولية تحدد حركة العالم برمتها.
حتم التاريخ
تقوم فلسفة الحتمية التاريخية على قاعدة وجود قوانين تاريخية اجتماعية صارمة تحرك المجتمع في إطار معادلاتها ونتائجها الحتمية. وقد أسس لها في التاريخ الحديث بعض الفلاسفة الألمان الذين قالوا بوجود معادلات تاريخية تحرك المجتمع، إلا أنهم، من “هيجل” في مثاليته التاريخية و”فيورباخ” في تفسيره الأنثروبولوجي والنفسي وحتى “سانت سيمون”، لم يعطوا هذه المعادلات درجة الحتمية ولم يصفوها بالصرامة. وقد تبلور هذا الاتجاه فيما بعد فيما عُرف بـ (فلسفة التاريخ).
ثم بلور “كارل ماركس” و”فردريك أنجلز” و”بليخانوف” هذه المدرسة، وحولوها إلى نظرية اجتماعية أسموها (المادية التاريخية)، وهي خاضعة أيضاً لقانون الديالكتيك والعامل الاقتصادي. ثم نظر لهذه المدرسة فيما بعد “لينين” و”كوفالسون” و”ستالين” وغيرهم. وقد حاول “ماركس” إضفاء الطابع العلمي على نظريته الفلسفية، أي أنه عدّ قوانينه التاريخية قوانين علمية ثابتة. وحدد من خلالها خمس مراحل مرت بها البشرية أو لا بد أن تمر بها، وتبدأ بالمرحلة المشاعية البدائية، ثم الإقطاع والرأسمالية والاشتراكية، وأخيراً الشيوعية النهائية. وحين تقف البشرية عند مرحلة الرأسمالية، فإن الصراع الطبقي الحتمي في المجتمع الرأسمالي سينتهي بانتصار الطبقة العاملة التي تقوم بإنشاء مجتمع اشتراكي لا طبقي ـ أولاً ـ تمهيداً لقيام المجتمع الشيوعي الذي تنهار فيه كل القيم والأعراف والتمايزات الاجتماعية والنوازع الشخصية، وهو خيار البشرية النهائي.
وفضلاً عن الإشكالات النظرية على فلسفة المادية التاريخية ومراحلها، فإن الواقع الموضوعي أثبت عدم صحتها أيضاً، وأن قوانينها ليست علمية، بل هي مجرد رؤى فلسفية؛ إذ إن التاريخ الإنساني مليء بالأحداث التي صنعتها إرادة المجتمع ولم يتحكم فيها قانون قسري معلوم النتائج، أو صنعتها إرادة فرد بذاته أو تفاعل مجموعة من العناصر.
ولعل البيئتين الألمانية والروسية هما أفضل نموذجين أثبتا خطأ نظرية “ماركس” التاريخية، فالمجتمع الألماني ـ وفقاً لهذه النظرية ـ كان هو المرشح للصراع الطبقي، لوجود طبقة عاملة كبيرة فيه في ذلك الوقت، وكونه مجتمعاً صناعياً، وقد بلغت الرأسمالية في ألمانيا بعد عصر النهضة ذروة مجدها، ولكن هذا الصراع لم يحدث ولم تتحقق الشيوعية النهائية. بينما كان المجتمع الروسي إقطاعياً، وحدثت فيه الثورة الشيوعية. كما أن الثورة الشيوعية نفسها في روسيا لم تكن نتيجة لحتمية تاريخية، بل كانت عبارة عن تفاعل عدة عوامل، أبرزها: القائد (لينين)، والنخبة (البلشفيك)، والطبقة (العمال والفلاحون)، والشعب (الروسي)، والفكر (الماركسي). وكانت الثورة سياسية أكثر منها عقائدية أو آيديولوجية. وهكذا، فلا يمكن أن يكون خيار البشرية المستقبلي هو المشاعية النهائية؛ لأن التاريخ يسير منذ عصر “ماركس” وحتى الآن باتجاه آخر تماماً.
التأريخ بين النص الديني والأسطورة
ينزع علم التاريخ الحديث إلى المساواة في القيمة المصدرية بين النص الديني التاريخي والأسطورة من جهة، والتفريق بين النص الديني التاريخي والحقائق التاريخية من جهة أخرى؛ فهو لا يعد الروايات التاريخية في النص الديني مصدراً تاريخياً ولا حقيقة تاريخية، ويساوي بينها وبين الأساطير. ويذهب إلى أن دراسة التاريخ تتطلب تمييزًا دقيقًا بين الواقع والخيال، أو بين الحقائق التاريخية، والروايات الدينية والأساطير؛ لأن الحقائق التاريخية تعمل على تقديم سرد موضوعي للأحداث التي وقعت في الماضي، بينما تتناول الروايات الدينية والأساطير موضوعات ذات طابع روحي وأخلاقي وتثقيفي. وإذا كانت الحقائق التاريخية تستند إلى الوثائق والشهادات والأدلة الأثرية والمحسوسة، فإن الروايات الدينية تستند إلى نصوص غيبية، تعبر عنها الأديان بـ (الوحي)، وهدفها تقديم تفسير غيبي للوقائع، دون دليل محسوس أو شاهد. وبالتالي، فإن الروايات الدينية التاريخية عبارة عن قصص غير ثابتة تاريخياً، وغالباً ما تكون غير قابلة للتحقق.
وهذه الإشكالية الكبيرة التي يطرحها علم التاريخ الحديث تكشف عن خلط أساس بين التاريخ الذي تسرده الرواية الدينية والأسطورة؛ لأن النص الديني مصدره الله، بينما الأسطورة مصدرها بشري. وهذا الخلط هو من نتاجات ما عُرف بعصر النهضة الأوروبية ثم عصر التنوير في الغرب، وهما عصران كرّسا النزعة العلمانية العميقة التي تفصل بين العلم والدين، وتعبر عن الأول بالحقيقة والعقل والحس والتجربة، وعن الثاني بالغيب والمثال والخيال والأسطورة. حتى أن أغلب مؤرخي عصر التنوير يعدون الأسطورة والرواية الدينية مفهوماً واحداً؛ فالروايات الدينية التاريخية هي قصص أسطورية أيضاً؛ فكلاهما لا يمثلان حقائق تاريخية.
ويعبر هذا الرأي عن تجربة المؤرخين وعلماء التاريخ الأوروبيين مع بيئتهم الدينية التي شكّلتها النصوص الدينية اليهودية والمسيحية، أي أنها تجربة محلية لا يمكن تعميمها على البيئات الأخرى. وإذا كانت نتاج هذه التجربة ينطبق على أجزاء مهمة من النصوص المسيحية واليهودية، فإنها لا تنسجم مع النص الإسلامي؛ لأن النصوص اليهودية والمسيحية هي نصوص بشرية غالباً، في حين أن النص القرآني هو نص إلهي. وهذا لا يعني التسليم بجميع الروايات التاريخية التي تستند إلى الحديث النبوي أو أحاديث الأئمة؛ إذ إن كثيراً منها يعاني من مشاكل في السند أو المتن، وأنه يتعارض أحياناً حتى مع المفاهيم القرآنية. ولكن وجود الحديث الضعيف أو غير الصحيح أو المدسوس، ليس مسوغاً علمياً لإلغاء الأحداث والشخصيات التاريخية التي ذكرها النص القرآني والصحيح من الحديث برمتها.
المصدر الديني للتاريخ
يستند المؤرخ في تدوين الوقائع وتحليلها والتثبت منها على مشاهداته أو مسموعاته الموثقة أو الحفريات والمدونات الآثارية والتاريخية، بل يتسامح بعض مدارس التاريخ على الانتقاء من الأساطير والمثيولوجيا. وفي الوقت نفسه، تستبعد غالبية المدارس الأكاديمية النص الديني كمصدر تاريخي، وتذهب إلى أن النص التوراتي والإنجيلي والقرآني وغيرها لا تنطبق عليه معايير المصدرية المادية. والحال أن هناك وقائع تاريخية كثيرة مدونة في الكتب السماوية أو المنسوبة إلى السماء، تتعلق بسير الأنبياء والصالحين والملوك والطغاة وماضي الأمم ومسارات كثير من الأحداث، لكن المؤرخين لا يستندون إليها بوصفها مصادر مادية، ويسوغون ذلك بأن النصوص الدينية هي نصوص هداية وليست تاريخاً، وأنها ناظرة إلى العِبر والتذكير والتوعية والتعبئة والوعيد في هذه النصوص، وليس من الضروري أن يكون المراد منها توثيق الوقائع التاريخية، ولذلك، لا يمكن اعتمادها.
وظهر بعض الباحثين التاريخيين العرب والمسلمين خلال العقود الأخيرة، الذين يشككون حيناً ويجزمون حيناً آخر، بأن وجود كثير من الأمم والأقوام والجماعات والأنبياء والصالحين والطغاة الذين وردت أسماؤهم في الكتب الدينية السماوية، ليس ثابتاً من الناحية التاريخية، بمن فيهم إبراهيم وموسى وأهل الكهف ـ مثالاً ـ بسبب عدم وجود أي أثر تاريخي يدل على وجودهم وأدوارهم في المدونات والحفريات والآثار، وخاصة الهيروغليفية (المصرية) والمسمارية (العراقية) واليونانية، وأنهم ذُكروا فقط في النص التوراتي الديني، ثم أكّد القرآن وجودهم.
ونرى بعض المؤرخين والأركولوجيين يؤكدون وجود رمسيس الثاني ـ مثلاً ـ وهو الفرعون المعاصر للنبي موسى كما يرى بعض المؤرخين، لأنه مذكور في النص الهيروغليفي الفرعوني، لكنه يرى أن موسى ربما يكون شخصية أُسطورية، لأن النصوص الهيروغليفية الفرعونية لم تذكره ولم تؤرخ لوجوده، بل لم تؤرخ لوجود دور لهكذا شخصية في حياة الدولة الفرعونية في عهد رمسيس الثاني وولده. ويقول هؤلاء المؤرخون والآثاريون إن موسى ورد ذكره في التوراة فقط، وأيده القرآن، وهما نصان دينيان لا يمكن اعتمادهما مصدراً تأريخياً دالاً دلالة مادية على وجود الشخص ووقوع الحدث، بل يذهبون إلى أن النصوص التوراتية أخذت موضوعاتها التاريخية وسير الأنبياء والملوك، بما في ذلك الخلق والتكوين، من الأساطير السومرية والفرعونية، متجاهلين أن هذه الموضوعات والأسماء والوقائع ورد ذكرها في القرآن أيضاً، رغم أن أغلب أصحاب هذه الآراء هم من المسلمين.
هذه الآراء تستند إلى معايير متهافتة، حتى في الجانب المادي؛ لأن الكتابات الفرعونية ـ مثالاً ـ من الطبيعي أن تمجد الحاكم وتدون سيرته وتبالغ في إنجازاته، وتنكّل بأعدائه وتمحو أثرهم، ومن الطبيعي ألا تذكر موسى. وبالتالي، ينبغي مراجعة مصدر آخر، وإن كان دينياً. فما الفرق؟ فإذا كان النص الديني التاريخي منحازاً لمصلحة النبي والمصلح والجماعة الدينية والأهداف الإيمانية، على حساب الحقائق التاريخية، فإن هذا الإشكال ينطبق أيضاً على النصوص الآثارية المسمارية أو التصويرية أو الحرفية، لأنها هي الأخرى منحازة إلى ولي نعمة الكاتب، وهو الحاكم وإنجازاته وانتصاراته. وبالتالي، إما أن يتم الاستناد إلى النصوص التاريخية الأرضية والنصوص التاريخية الدينية معاً، أو عدم اعتمادهما معاً، لأنهما يخضعان للمعايير نفسها، في حال كان المؤرخ يعتقد بأن النص الديني هو نص بشري أو نص للهداية وليس للأرخنة.
هنا تظهر جملة مفارقات بشأن هذه المسوغات؛ فالنص الديني، سواء كان أفستائياً أو توراتياً أو إنجيلياً أو قرآنياً، هو ـ بكل الأحوال ـ نص ديني قديم بقدم وجود النبي المنسوب إليه النص، أي أن هناك من دوّنه ورواه منذ مئات أو آلاف السنين؛ فإذا كنا نعتقد أن هذه الكتب أو بعضها منزلة من الله وأنها نصوص مقدسة؛ فمن المستحيل أن يذكر الله أحداثاً وهمية وأشخاصاً وهميين أو سيرة مختلَقة لغرض الهداية. وحينها يكون من المؤكد أن كل ما ذكره النص الديني من أحداث وشخصيات ومسارات تاريخية، هي صحيحة، وقد وقعت بالفعل، ولم يذكرها الله كرموز للتسلية الهادفة والحكايا والقصص الهادية؛ لأن ذلك يتناقض كلياً مع غاية نزول النص وعصمته وقدسيته وفلسفة حضوره في حياة الإنسان، ولا يمكن أن تبرر غاية الهداية وسيلة الكذب عند الله.
وبالتالي، لا مجال لعدم اعتماد النص الديني كمصدر تاريخي مادي محايد. هذا بالنسبة للمؤمن بإلهية بعض النصوص الدينية، أي الذي يؤمن بإلهية النص الديني؛ فيكون حجة عليه في القبول بمصدريتها التاريخية. أما إذا لم يكن المؤرخ مؤمناً بإلهية النص الديني وقدسيته؛ فلا يختلف الأمر كثيراً، وسيكون الاختلاف فقط في تمحيص النص الديني الخاص بالتاريخ والوقائع والسير، وتدقيقه ودراسته، حاله حال أي نص بشري؛ فهذا النص بالتالي كتبه شخص أو أشخاص قبل مئات وآلاف السنين، ودوّنوا ما شهدوه أو سمعوا به أو تناقلوه من أجيال سابقة، وهذه الشهادات والمدونات والروايات ربما تكون صادقة أو تكون موضوعة ومختلَقة أو مُبالغ بها، وهي بذلك لا تختلف عن أي نص تاريخي آثاري؛ فالألواح والكتابات الآثارية التاريخية كتبتها بشرٌ أيضاً، ولا سيما المقرّبون من الحكام، وبالتالي ربما تكون الوقائع والسير الموجودة فيها كاذبة أو ربما تكون صادقة أو مبالغ بها، ولا يمكن اعتمادها كمصدر لأحداث وقعت بالفعل، وهو ما تدل عليه الأساطير والتخريفات المليئة بالمدونات والآثار القديمة.
وعليه؛ لا يوجد ما يمنع منهجياً من إخضاع النص الديني إلى معايير محاكمة الأثر التاريخي المدون نفسها، سواء كانت نصوصاً إلهية أو منسوبة للإله؛ لأن كلا النص الديني والأرضي، هما ـ كحد أدنى بالنسبة لغير المؤمن بإلهية النص الديني ـ صادران عن بشر يصيبون ويخطئون أو هم أصحاب أهداف خاصة، ويصبح لزاماً اعتماد النص الديني مصدراً للتأريخ، سواء كان المؤرخ مؤمناً بإلهية النص أو غير مؤمن.
المصادر