-1-
للتاريخ ذاكرةٌ قويّة لا تُفلت منها الاحداث ،ولا الروّاد أصحابُ الأعمال الانسانية وصنائع المعروف …
انها لا تختزن هولاء وحدهم ، وانما تختزن معهم أضدادَهم ..!!
وما عليك إلاّ انْ تتذكر قول الشاعر :
وانما المرءُ حديثٌ بَعْدَهُ فكنْ حديثاً حسنا لِمَنْ روى
وأهم الرواة هو التاريخ …
ومن هنا فانك تستطيع أنْ تكون انشودته العذبة، وأنْ تُورّث الأمجاد والمناقب ، لا لبنيك وأهلك فحسب، بل لشعبك وأمتك ..
فطوبى للنبلاء .
-2-
وأصحاب المروءات موجودون في كل عصر ومصر، ولكنهم لا يشكلّون الغالبية المطلقة من الناس ..!!
وكما قال ابو الطيب المتنبي :
الظلمُ من شيم النفوس فانْ تَجِدْ
ذا عِلةٍ فَلِعِلَةٍ لا يَظْلِمُ
-3-
وحين نستعرض أصحاب المناصب العليا على مدار التاريخ ، فاننا لا نلمح الاّ نادراً، مَنْ استجمع غُرّ المناقب والسمات ، وكان الرمز الكبير للخير والإحسان .
ولعلَّ في ارتقاء المناصب ما يُفسد الطباع، ويقود الى اجتراح ما تتقزز منه الأسماع …
-4-
وبعضُ الأقلام تنحاز لأصحاب المناصب دون سواهم، فتغدو ناطقة بفضائلهم، وجميل صفاتهم وأعمالهم ..،
فللكراسي تأثيراتهُا الكبيرة على تجّار الحروف ..!!
وهذا الداء نعاني منه اليوم ، كما عانى منه الموضوعيون على مدار التاريخ …
ونحن نسمع اليوم أنَّ بعض المفتونين بأنفسهم ، يبذلون الأموال الطائلة -المنهوبة من الشعب طبعاً – لشراء المحطات الفضائية ، والمواقع الالكترونية والاعلامية ، لتنبري في مضامير تلميع صورهم ..!!
-5-
ومن المفيد هنا ان ننقل ما قاله ( ياقوت الحموي) عن (عبد الله بن طاهر بن الحسين) – وهو أحد كبار رجال بني العباس –
قال :
” كان عظيما في دولة بني العباس ،
ولا أعلم أحداً بلغ مبلغه فيها ..،
وكان أديبا شاعراً سجاعاً جوادا ممّدحا ،
وكانت إليهِ الشرطة ببغداد ، وهي أجلّ ما يلي يومئذ …”
من هذا يتضح أنّ الرجل كان صاحب منصبٍ خطير ، وصلاحيات أخطر .. ولكنه لم يستغل المنصب لابتزاز الناس وايذائهم ، بل سميّت أيامُه (الكفاية)، لأنه تعهد بكفاية جيرانه وتأمين احتياجهم للخبز .
قال ياقوت :
( راى يوماً دُخاناً مرتفعاً كريهَ الرائحةِ فتأذى به ،
فسأل عنه ، فقيل له :
” أن الجيران يخبزون بالبعر والسرجين ، فقال :
إنّ هذا لمن اللؤم ،
أنْ نقيم بمكانٍ يتكلف الجيران شراء الخبز ومعاناته ،
اقصدوا الدور ،
واكسروا التنانير ،
وأحصوا جميع مَنْ بها من رجل وامرأة وصبي ،
وأجروا على كل واحد منهم خُبْزَهُ ،
وجميع ما يحتاج اليه …”
انّها لأريحيّه عابقة بالشذا ، تكشف عن نبل ومروءة وحُبّ للقيم وللناس…
والسؤال الآن :
كم هم اولئك المسؤولون عندنا اليوم، الذين تمور في نفوسهم مِثْلُ تلك الأحاسيس الانسانية ، وتجود أنفسُهم بما جادت به نفس عبد الله ؟!!
ولا شيء في الميزان السياسي والاجتماعي والاخلاقي يفوق حُبَّ المسؤول للمواطن ، على أنْ تكون آثار الحب واضحة المعالم، وليست مكتومةً في القلب …، يبرزها للعيان البذل والعطاء والخدمة الصادقة، والتفكير المتواصل آناء الليل وأطراف النهار ، بالطرق والوسائل المُوصلة الى توفير السلامة والكرامة والعيش الرغيد للمواطنين .