18 ديسمبر، 2024 6:58 م

التأرجح بين العقيدة والوطن

التأرجح بين العقيدة والوطن

لو أردنا أن نعرف ماذا يحصل في بلاد مابين النقيضين من أسرار وخفايا ومؤامرات فعلينا أن نعرف مايدور في أروقة البيت الابيض والدولة التي كانت عظمى وما يدور في ما يجاورنا من البلاد المستغفرة وبلاد السلاطين وأمراء الصحراء والنوق والبعارين وبلاد الشام وأسرائيل وما يحدّها من شمالها وقد يصل الامر الى موزمبيق وأدغالها , الحكومة يا جماعة أصبحت مخروقة توزعت بين زعامات أسرت نفسها في مصالح وعلاقات لايمكن التنصل منها فذلك يمسّ بالدرجة الاولى وجودها وكيانها ومايتبعه من مظاهر العظمة والهيبة والتسلط , ذاك هو خيارها وأصبح من الاكيد أنها سائرة في مشاريعها وبخطوات ممنهجة ومدروسة وبرنامج ضمن توقيتات دقيقة , وكل الدعوات الى الاصلاح ما هي الا تغطية والهاء يمكن من خلالها الولوج لترسيخ واقعها التي رهنت نفسها بها لاغير .
الشعب قد أدرك تماما بأنه من المحال أن تكون تلك الزعامات قادرة على أصلاح ما خُرِب خلال السنوات التي تسلطوا فيها على الشعب الذي عانى الأمرين بحيث أصبحوا عالة عليه بالرغم من كل المفاهيم التي تحصنوا بها من خلال السذاجة والعاطفة العقائدية وغيرها من المفاهيم التي أصبحت آسنة لايمكن الاتكال عليها عبر تاريخ طويل من التشبث بها دون أن يكون لها رصيد من الانجازات يُعتَد به , فأصبح الكثير من العامة حيارى في أمرهم وحاول البعض أن يربط بين المفاهيم التي يعتقد أنها حديثة وبين المفاهيم العقائدية ليسبغ عليها على الاقل بعضاً من الشرعية ليمهد بذلك مقبولية بشكل أكبر مما لو أنطلقت تلك المفاهيم لوحدها , فقارن البعض بين الدين والديمقراطية والعقيدة والمدنية وصار السجال والنقاش هو الهدف من ذلك فأختلطت المقادير بنسب غير متكافئة فأبرزت تيهاً كبيراً وخصوصاً لدى العقول الشبابية التي أخذت تبحث عن أمل أكثر مما يبحثون عن وطن .
العقيدة والوطن هما نقيضين مطلقين كل منهما يدحض الاخر ويفتته فالعقيدة تعبر الحدود ولاتميز بين وطن وآخر وتفقدك الخصوصية التي تميزك عن غيرك وتجعلك ضمن قيود فكرية وممارسات قد تتعدى حدود المفاهيم الانسانية والمنطقية وهي ليست قياسية ولا متجذرة فعلى مر التأريخ أصبحت العقيدة اليوم في أختلاف وتناحر حتى ضمن نفسها فليس هناك فكر واضح ولا تعاليم محددة وأعتمد بعضها على العاطفة أو على الغلو فيها أو على موروث أصبح اليوم غير قادر على أبتكار العقل الجمعي , وكثير من العامة الذين يعتقدون بها لايفقهون بها من شئ أنما وجدوا أنفسهم كما كان يعتقد أجدادهم من قبل بدون التمحص والبحث عن ماهيتها وسبل الارتقاء بها وجعلها تعبر البعد الزمني بدلا من أن تكون قابعة في أحاديث وأساطير الاولين الذين أضافوا عليهم ما يقدسهم وما يجعلهم رمزا لتلك العقيدة بل وصل الامر بالبعض ليؤمن بأنهم العقيدة ذاتها , ورغم ذلك أخذت العقائد تتنامى في المجتمعات الفقيرة فأنتشرت وتشظت وتفارقت وأصبحت اليوم ولاءات وجماعات وتبعيات لانعرف حتى ماهي أطروحتها أو بحثها العلمي ومن أين أستمد منهجه الذي يتبعه فيه السذج من الرعية , وقد تحولت الى مؤسسات وأيديولوجيات معقدة ومركبة المهم لها أن تحافظ على تلك المكانة الاقرب الى القدسية حتى مع الصراعات المخيفة فيما يترتب على العقيدة من مردودات ضخمة تسع الجميع ولكل منهم قضمة منها , وبخلاف ذلك فليس للوطن من منهج أو زعامات أرثية بالوانها ونسبها , فهو مكنون داخل ذلك الشعور العميق ويسبر في وجدان الانسانية من غير فلسفة ولا تنظير ولا مفهوم , وعليك أن تدركه بذاتك ولايحتاج الى براعة في الفكر ولا رجاحة في العقل , فهو الكريم الذي يتسع الجميع حتى المتخالفون في العقيدة , ولم يتبدل أو يتشظى فهو باق مادمنا نحافظ علية , وعليك أن تتحلى بالوطنية ولاتربط بها أي مفهوم أو أيديولوجية تعتقد فيها فهي شائبة تعكس هدف سلطوي أو مصلحي أو مادي , فحقيقة الوطنية هي الحقيقة المجردة التي تدركها الابصار والافئدة والعقول جمعاء لتدرك بعد ذلك أن كل ما تعتقد به لايصل بك للسمو كما يسمو بك الوطن .
نحن اليوم في أدق مفصل في تاريخ الوطن , فكل تلك العقائد برموزها وزعاماتها لم تستطيع أن تدرك ذلك الشعور السامي لمكنون الوطن وأخذت تجرنا الى متاهات وضياع وقتال وعنف بتلك الاشرطة الملونة التي ترتدي ثوب العقيدة وتنكر الوطنية , وأستطاعت بالفعل أن تقنع الكثيرون بذلك , وأصبح الرمز هو الغاية ونحن نبتغي اليهم الوسيلة , وأمتلك الجميع مايظنه المفتاح الذي يدخل به الاخرين الى أبواب الجنان في الدنيا الاخرى , وآخرون يجرونا الى أبواب من الصراعات بحجة القومية أو العروبة أو الايديولوجيات التي ما برحت لاتغادر الفشل والتنظير والتعلق بماضى مضى وأنتهى , ومنذ سنين ونحن نتعلق بتلك الموضوعات المعقدة حتى تضاءل فينا الوطن وأصبح لايتسع للجميع , فما الذي يجمعنا اليوم وهل تحكمنا اليوم هذه القيادات بالعقيدة أم بالوطنية وبأي منهما نحارب الارهاب الذي يؤمن بالعقيدة وكيف نطمح لوطن تسود فيه العدالة الاجتماعية ونحن غارقون في تلك المسميات ومتأصلين فيها الى حد النخاع , أليس الاولى بنا أن نراجع ذاتنا كنها ذاتنا وأن نتجرد ونتمرد على كل ما شابها من تعقيدات ليس لها أول ولا أخر وأن نصنع تلك الحواجز الثقافية والفكرية والشعورية الرائعة التي تمكننا من صدّ أي هجوم فكري يأخذ العقيدة سلاح له لغسل ذلك التجرد الانساني لنصل بالروح الى قدسية الوطن , وأن لانشغل مجتمعنا بأختلاف ولاخلافات ليس لنا فيها ناقة ولاجمل , وأن نكف عن الشخصنة التي لاتثمر الا عن تبعية هي أقرب الى العبودية , أما حاضرنا اليوم وبعد المآسي والشقاق والنفاق
الذي أصاب العراق لابد من وقفة تصدم الجميع وتكون لنا عنوانا لايفنى , ألسنا اليوم قادرين على أن نَلُمَّ هذا الوطن المقهور ونسمو بالتجلي المطلق عن كل ما دبغته الموروثات من عقم فكري نصل به الى الصفاء ثم نطلق تلك الطاقة الوطنية الثورية وهذا حتما لايحتاج الى مناشدة ولا الى فتوى عقائدية .