23 ديسمبر، 2024 1:47 م

التأثيـرات النفسيـة للحضـارة الغربيـة على العقـــل العربي

التأثيـرات النفسيـة للحضـارة الغربيـة على العقـــل العربي

ترجمـة / وليـد خالـد احمد
نص / رفائيل باتاي

جنـي الغرب
 فـي كتاب الليالي العربية ” الف ليلة وليلة ” توجد قصة عن صياد سمك فقير ، لم يصطد في أحد الايام في شبكته سوى أبريق من النحاس على شكل ثمر الخيار . وبخيبة الأمل تلك ، كان على وشك أن يلقي بالأبريق فــي البحر ، ولكن طرأ على باله أن يحاول أيجـــاد أي شيء بداخله والذي ربما يكون له قيمة ، وكان فم الأبريق مسدوداً بغطاء نقش عليه بالخاتم السحري لسليمان .
          فأزال الصياد الغطاء بأعتناء ، وأذا بشيء يخرج من الأبريق وكأنه أنفجار من دخان أتخذ شكل عفريت ضخم . لقد كان جنياً عملاقاً وقوياً . فحام حول المكان الذي فيه الصياد وأفزعه كغمامة تنذر بخطر وشيك الوقوع .  تهيأ للموت !  ، أرتعد المارد العفريت .
          لقـد حبست داخل هذه القنينة من قبل الملك سليمان ورميت في البحر . ولقد أقسمت على أن أجعـل أول من يحررني أغنى وأسعد رجل على الأرض . ولكن بمرور القرون أصبحت أكثر يأساً وأكثر حنقاً ، الى أن قطعت عهداً على نفسي بأن أقتل الذي يحررني . لذلك ، يجب أن تتهيأ للموت ! .
          آه أيها العفريت الجبار ، أجاب الصياد ذي البديهية السريعة ، أذا كان مقدراً لي أن أموت ، فسوف أموت . ولكـن قل لي ، كيف يكون ممكناً بالنسبة لمخلوق ضخم مثلك يسجن داخل هذا الأبريق الصغير جداً ؟ أنني لا أصدق أنك فعلاً كنت بداخله .
          سوف أريك ، أيها الرجل الأحمق . قال العفريت . وتدريجياً قام بتقليص نفسه الى أن أصبح كنفثة من دخــان ، ومن ثم تلاشى في الأبريق . وبسرعة قام الصياد بوضع الغطاء فوق الأبريق ، وقال للعفريت : مع السلامة ياصديقي . والأن ستعود مرة أخرى الى البحر وبأمكانك أن تنتظر الف سنة أخرى قبل أن يجدك صياد أخر . كلا ، أنتظر ! جـاء صوت المارد الذي كان بالكاد أن يسمع من داخل الأبريق . أنني أقسم لك بالله بأنه أذا سمحت لي بالخروج من هذا الأبريق ، فأنني سوف لن أؤذيك ، وعلى العكس فأنني سوف أحقق رغباتك كلها وأن أبقى عبداً لك طوال حياتك . فوافق الصياد وسمح له بالخروج ، وأن الجني أبر بقسمه بصورة صادقة .
          لقـد أستذكرت هذه القصة أثناء ملاحظتي للمواجهة بين العالم العربي والغرب . أن العرب وجدوا كذلك في البحر أبريقياً سحرياً ، والذي من خلاله ، طالما أنهم لا يقاومون الأغراء في فتحه ، فأنه سيصب لهم سيلاً غامراً من المنجزات الثقافية الغربية . وفي الحال ، شعروا بأنه مالم يتمكنوا من السيطرة على هذا الطوفان من العروض الغربية الدخيلة ، فأن الثقافة التقليدية الخاصة بهم سوف تخنق . لقد حاولوا التملق الى أستمالة هذا ( الجني) من الغرب واعادته الى أبريقه (قمقمه) وأجباره على أنجاز مطالبهم ، وتحقيق رغباتهم وتمكينهم من أختيار ماكانوا يرغبون فيه ورفض ما يكرهونه . ولكن يبدو أن أسم الله والغطاء السحري لسليمان ، لم يؤثرا بعد .
          لقـد أصبح الصياد العربي وجني الغرب مشتبكين في صراع جسيم ، وعلى مستويين مادي وروحي في آن واحد ، ذلك الصراع الذي هو أكثر خطورة بالنسبة للصياد لأنه لا يستطيع أبداً أن يكون متأكداً في تفكيره ، ماذا يريد أن يقبل أو يرفض الهدية التي يعرضها عليه الجني والمصحوبة بأبتسامة عطوفة أو تكشيرة تنم عن التهكم والمرارة .
          هناك أغنية جزائرية ، كتبت حوالي سنة 1900 باللغة العربية العامية وجرى فيها تشبيه الحضارة الغربية بـ (غول) ، وهو نوع مقيت من الشيطان . وفي أحدى تراجم الحوادث التي كانت سائدة في أوائل هذا القرن في منطقة ( متجدا ) ، وهـي منطقة مستوية في جنوب مدينة الجزائر ، جرى تصوير ( الغول ) القادم من الغرب ، وهو ضخم الجسم ومدهش في قوته وقبيح في شكله بدرجة كبيرة . وأنه سيد لكل أنواع الحيل السحرية ، ولكنه لا ضمير له . وهمجي وجشع بالنسبة للثروة ، وعلى العكس من عفريت الصياد ، فهو غير مؤمن وينتهك حرمة المظاهر الأخلاقيـة الملموسة للأسلام . ومع ذلك ، فبالنسبة للأغنية ، أن الذي يقهر في النهاية هو (( الغول )) ، أما أن يبدل أو يقتل . وأن الفرق في أسلوب معالجة الجني الغربي التي أتبعها المغني الجزائري ، وماأراه ، هو أن العرب يدركون هزيمة الغرب بأستخدام القوى التقليدية للعالم العربـي ، بينما بالنسبة لي ، ومن خلال النظرة الى المواجهة الكبيرة بعد مرور حوالي اكثر من (100) سنة ، فأن مثل هذه النتيجة تبدو مشكوك فيها .

* مصر .. تاريخ قضية .
          لقـد حدثت المواجهة الاولى بين العالم العربي و (جني) الغرب في سنة 1798 عندما وصل نابليون الى مصر وفتحها دون أن يواجه مقاومة جادة ، والى حد ذلك الوقت ، عاش العرب ، وبضمنهم كل من الطبقة المتعلمة والجماهير غير المتعلمة وهم يعتقدون أن طريقتهم في الحياة المرتكزة على الأسلام ، كانت هي الطريقة الأفضل التي تمكن الأنسان من التوصل اليها .
          وبالرغم من أن الأقطار العربية في سنة 1798 ، كانت خاضعة تحت سيطرة الأتراك العثمانيين لمـدة ثلاثة قرون تقريباً وبشكل دقيق منذ سنة 1516 – 1517، أستطاع العرب بمحاولة منطقية معقدة ، أن يحققوا بعضاً من شخصيتهم مع الاتراك بغض النظر عن الكراهية بينهما .
          أنه سيف الأسلام الذي أستخدم من قبل الأتراك ، والذي منع الكافرين من كسر طوق (( بيت الحرب )) . وبأعتبار الخليفة في القسطنطينية وريثاً للنبي محمد ، فأنه تمكن من الهيمنة على جميع الغرف التي تؤلف (( بيت الأسلام )) .
          وقـد تحطمت اللامبالاة هذه ، نتيجة للصدمة النفسية التي سببها ظهور نابليون في مصر . ونتيجة لذلك ، أفاق العرب على حقيقة مقيتة ، حيث أن أقطارهم ومواردهم وحضاراتهم ونفوسهم كانت مهددة من قبل أوربا التي كانت غنية وقوية فوق التصور وثقتها في نفسها غير محدودة ، وبعدوانيتها وجشعها يبدو أنها ستجعل العالم كله ضمن قبضتها .
          لقـد كان رد الفعل العربي في البداية ، بتحفظ وأرتياب وأستياء . وقد قيل عندما كان نابليون موجوداً في القاهرة ، ولغرض التآثير على المواطنين المصريين ، قام الفرنسيون بأطلاق منطاد كبير يعمل بالهواء الساخن ، وفي نفس الوقت فأنه يمثل أخر ما تم التوصل اليه في الانجازات الحضارية الفرنسية . وكان رد فعل المصريين في هذه المرة ، مختلفاً تماماً عما توقعه الفرنسيون . وقد عبر عن ذلك المعنى مؤرخ عربي بقوله (( لقد أخترع الفرنسيون مخلوقاً خرافياً غريب التكوين ، أرتفع عالياً في السماء بنية الوصول الى الله وأهانته . ولكنه لم يرتفع الا الى أرتفاع ومن ثم هوى الى الارض ، عاجزاً بشكل يبعث على السخرية والاستهزاء )) . وبعد ذلك جرى التعبير عن نفس الأفكار ـ وبمثل تلك السخرية التي تطلبت الشعور بحساسية غير أعتيادية ـ بعبارة مهذبة أثنى بها المسلم على أوربا بسبب مواجهته للتطبيق الصنـاعي للعلم : (( كل الذي تريدونه هو قبر الموت )) . ويعني بالطبع أن الموت والحياة الأبدية وهيمنة الله ، هي الأشياء الوحيدة التي يحسب لها أهمية فعلاً .
          وعلى أية حال ، فأن الكثير من المصريين غيروا أسلوبهم مباشرة بما يتفق والعصر الحديث . وحالما تلاشت الصدمة الاولى ، فأن رد الفعل الأولى أصبح أستحساناً مصحوباً بالرغبة القابلة للأدراك بسهولة للتعلم من الغرب . وبكل كبريائهم وأنانيتهم ، كان العرب ولا يزالون شعب عملي يرغبون بالتعلم من أي شخص طالما يشعرون أن ذلك التعلم يعود عليهم بالفائدة .
          فهم يجادلون بعد الفتح النابليوني ، بأن فرنسا قد دحرتنا لأن الفرنسيين ، بكل وضوح يعرفون أموراً لا نعرفها نحن ، لذلك دعونا نتعلم من فرنسا . وضمن فترة زمنية قصيرة مدهشة بعد أنسحاب قوات الأحتلال الفرنسية من مصر ( فـي الحقيقة بعد سبع سنوات من ذلك الأنسحاب ) ، أرسل محمد علي باشا حاكم مصر ، مجموعة من الطلبة للدراسة في أوربا ، والصحيح ليس الى فرنسا ولكن الى ايطاليا . وفي سنة 1818 ، أصبح عدد الطلبة المصريين الذين يدرسون في أوربا ، (23) طالباً ، وفي سنة 1826 ، أرسلت أول مجموعة من المجموعات الكبيرة الى فرنسا وكان عددها (44) طالباً . ولم يكن هذا الاجراء هو الاجراء الوحيد الذي أراده محمد علي لكي يتساوى مع الغرب . فقد قام بتجارب جريئة ، ولو أنها كانت غير ناجحة ، في تصنيع مصر وذلك بأستيراد مصانع للنسيج وبناء معامل للسكر . وعين القناصل الأجانب الموجودين في الأسكندرية ، في مجلس الوقاية الصحية لغرض القضاء على أمراض الطاعون التي دمرت مصر سنة بعد أخرى . ولقد لوحظ نجاح هذا الجهد حالاً في الزيادة السريعة لعدد نفوس المصريين .
          واستقدم أيضاً أعداداً هائلة مـن المدربين (المعلمين) من فرنسا لتـأسيس مدارسه العسكرية المنشأة حديثاً ، وأوجد معهد الفنون التطبيقية والكلية الطبية التي يرأسها مدير فرنسي . وأنشأ كذلك مطبعة لطبع التراجم العربية للاعمال الفنية الفرنسية أضافة الى الصحف في اللغتين العربية والفرنسية . وَحّول الاسكندرية الى مدينة عصرية تناضر مرسيليا أو نابولي .
          لقـد كان محمد علي متحمساً للرغبة في التشبه بـ أتباع خطوات الغرب وأنه حاول أن يحسنها . وفي الوقت الذي كان فيه منشغلاً في هذه المشاريع ، بدأت الطبقات العليا الفنية في مصر بتعلم اللغة الفرنسية وتقليد عادات وتقاليد الاوربيين الذين أصبحوا منجذبين الى مصر وذلك بسبب فرص العمل الهائلة المعروضة أمامهم . وأضيف اليهم ممثلوا الحكومات الأوربية .
          وسرعان مانمت وتطورت طبقة من الأجانب المتمتعة بالامتيازات في الاسكندرية والقاهرة وقد أنضم اليها المواطنون المصريون الاغنياء برغبة شديدة . ولم يشك أي فرد في تفوق أي شيء يقف الأوربيون الى جانبه . وأذا ماشك البعض وعبر عن مشاعره ، فأنه يجابه بالسخرية والأستهزاء .
          ولقـد وقفت الطبقات الدنيا ( الفقيرة ) ، بشكل شامل ، في وجه ذلك التطور . لم توجد في ذلك الوقت طبقة وسطى للتكلم عنها . فبالنسبة للطبقات الدنيـا من الشعب ، كانت لفظة (( الأفرنج )) كما يشيرون اليها ، تعني المسيحيين الأوربيين بدون التمييز بين القوميات ، وظل ذلك المصطلح سائداً  لعدة قرون : كافرين ليس لهم رب وبذيئين وفاسدي الأخلاق ويسيطر عليهم الجانب الشرير من الأنسان ولا يستحقون الا الاحتقار ، أو ربما الأشفاق بسبب طرقهم الجاهلة . ولكن هذا الأجنبي الحقير في نظر الطبقات الدنيا من الشعب ، كان صاحباً وصديقاً للخديوي والباشوات . وأضافة لذلك ، فأن الطبقة النبيلة من المسلمين المصريين أنفسهم كانوا متلهفين لمصاحبة هذا الأجنبي وتقليده في اللباس والتكلم بلغته والأكل معه فـي بيته وتفضيل أساليبه على تلك الأساليب التي يتبعها آباء المسلمين ـ وكان ذلك من الصعب فهمه .
          لقـد كان موقف الأوربيين متميزاً بالتفوق السار بالنسبة للطبقة العليا المصرية ، التي كانت تشارك أيضاً في الاحتقار التقليدي للأوربيين والذي كان يمارسه الفلاحون والجماهير الواسعة الجاهلة التي لم تأخذ بأسباب الحياة الغربية في المدن . وبالرغم من الاستياء الخاص الذي أثير بين الطبقة العليا للمصريين وذلك بظهور طبقة أوربيــة أعلى منهم ، فأن الأفتتان بالتقنيــة والالآت الميكانيكية الغربية الجديدة ، والمدعمة بهيبة وأحترام ونفوذ الفاتحين ، برع على أنه لا يمكن مقاومته . وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، في مصر وسوريا والعراق ، كانت الملابس الغربية والأثاث الغربي والألعاب واللغات الغربية ، قد طورت أنجذابا وميلاً بالنسبة لجماعة معينة من المجتمع العربي وجعلها متميــزة بأظهـار التكبر على أفراد طبقتها الأجتماعيـة والذي أنعكس على كـل شيء عربي أو وطنـي .
          لـقد أستمر تطور مصر بأتجاه الأخذ بالمدنية الأوربية ، مع بعض حالات العرقلة على يد الذين جاؤا بعـد محمد علي . وفي عهد أسماعيل باشا ذي الثقافة الفرنسية الذي حكم مصر من 1863ـ 1879 ، تم أكمال أنشاء قناة السويس . وقد عمت الأفراح في أحتفال أفتتاح القناة في سنة 1869 وحضرها ستة الآف من الضيوف ، بضمنهم جمع متألق من رؤساء الدول الأوربية الملكية ، وقد فاق ذلك الأحتفال في روعته حتى الأحتفالات التي كانت تجرى في باريس . وبالمناسبة ، فأن كلفة بناء القناة كانت (11500000) باون أسترليني ، بينما صرف أسماعيل باشا مليونا أخر على مراسيم الأفتتاح . وعلى أية حال ، فسرعان ما انتهى شهر العسل الأوربي ـ المصري .
          وفـي سنة 1876 ، أوصل أسماعيل باشـا ديون الدولة الى (100) مليون جنية أسترليني تقريباً . وأصرت القوى الأوربية ، مراراً وتكراراً ، على السيطرة لغرض الحفاظ على استثماراتها . وعبثاً كان أصرار أسماعيل في السيطرة لأنه كان مولعاً بالعمل لجعل مصر جزء من أوربا ، لقد باءت محاولات في فرض سيطرته بالفشل ، من خلال أرسال أبناء الطبقة العليا المصرية للدراسة في أوربا والبحث في القاهرة والاسكندرية لمرافقة الأوربيين الزائرين والمقيمين فيها . ولقد بدأ المقود الأوربي يجز في حدود البعير المصري .
          لقـد أدى الموقف الى ظهور الأحزاب السياسية ، وهي بحد ذاتها مؤسسات أوربية . وكانت بينهم جماعة العقيد عرابي باشا العسكرية والمؤلفة من مصريين فقط ، وقد تبنت هذه الجماعة أفكاراً وطنية ، وهذه استعارة أخرى من أوربا .
          وساعدت المنافذ الوطنية في الاسكندرية والتي كانت تهدد المصالح البريطانية ، كذريعة بالنسبة لأنكلترا لاحتلال مصر في سنة 1882 . وبذلت أستعاد الأنكليز السيطرة الاوربية على مصر . وأصبحت مصر منذ ذلك الوقت ، مستعمرة بريطانية فعلاً ، يحكمها بشكل مباشر السير ( أيفلين بارنغ )  وفيما بعد اللورد كرومر من سنة 1883 الى 1902 . لقـد بلغت نفوس مصر فــي سنة 1972 حوالي 35 مليون نسمة . 
          ويمكن أن تمثل التطورات المصرية في القرن التاسع عشر ، نموذجاً لجميع العلاقات العربية ـ الاوربية في ذلك القرن : في كل مكان ، كان الظهور الأوربي المخيف متبوعاً بالأستقبال المتحمس لهداياه التي جعلت العرب تواقين للحصول على السحر الأوربي المعروض أمامهم . وفي هذه المرحلة المبكرة ، بدأت أوربا تقريباً كطاقة هائلة الأنتاج فأمتدت بشكل مؤثر في كل الميادين : في النفوس والصحة وفي الدخل الحكومي وفي المرور والتجارة . ولكن ظهر حالاً أن هناك تكاليف يجب دفعها في مقابل ذلك : أن الجني الذي جاء عبر البحر المتوسط الأبيض ( the white middesan  ) ( وهو الأسم الذي يطلقه العرب على الـ Mediterranean  ) ، قد أعطى الكثير الى العرب ولكن في مقابل ذلك طلب منهم المخضوع ، والذي أصطلح عليه بـ (( السيطرة )) . وأنه في تلك الفترة أثبتت الروح العربية وجودها : أنها قدرت الميزة التي لم يكن الغرب ناوياً أبداً أن يوفرها للعرب ، وهي فكرة القومية ، ومع ذلك فقد ثبت أنتقالها الى العرب وبشكل مؤثر . ومن أحدى نتائجها الرئيسية ، أن الشعور بالسيطرة الأوربية ، أصبح لا يطاق وذلك ، لأنها أدت الى زيادة الأنقسامات في الشعوب العربية . وأن الصراع من أجل الاستقلال الوطني الذي تبع تلك السيطرة والذي أبتدا بأوقات مختلفة وبأماكن مختلفة ، وبدرجات مختلفة من الشدة وأساليب متنوعة ، هو جزء من التاريخ السياسي الحديث للعالم العربي .
          وليـس هناك ضرورة لاثارة أهتمامنا أكثر من ذلك في هذا البحث . وعلى كل ، فقد يشار الى نجاح الدول العربية في حصولها على الاستقلال ، بثلاث فترات تاريخية . فحتى نهاية الحرب العالمية الأولى ، لـم يكن أي قطر عربي قد حصل على استقلاله التام ، وبعد ذلك وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، حصل قطران على استقلالهما وهما المملكة العربية السعودية واليمن .
          ومن ثم تسارعت الخطى للحصول على الاستقلال ، وبحلول عام 1971 ، أصبحت جميع الدول العربية ، التي لا يقل عددها عن (18) ، كيانات سياسية ذات سيادة . ولكن بالضبط خلال عملية حصول الدول العربية على استقلالها السياسـي ، كشفت الثقافة الغربية ذات الطبيعة (الجنية) عن نفسها الى العرب . وفعلاً ، فأن المغرب اتبع أسلوباً غريباً ومخيفاً ، أستطاع فيه أن يزيد من تآثيره الثقافي عندما ضعف تآثيره السياسي . وذلك لانه في معصم أجزاء العالم العربي ، أصبح التنافس في الأعتماد السياسي على الغرب مصحوباً بزيادة في تآثير الثقافة الغربية . ونتيجة لذلك ، مراراً وتكراراً ، أخذ العرب المفكرون يشعرون بأن ماحققته الأقطار العربية في ربح أستقلالها السياسي من القوى الأوربية ستدفع مقابله الخضوع الثقافي المتزايد للغرب . وأن هذا التحول من الاعتماد السياسي الى الاعتماد الثقافي ، وبشكل خاص الأدراك المتزايد للثقافة الأوربية ومعاكستها ، جعلت العرب مغمورين في مجموعة جديدة من المصطلحات النفسية .
ويميل الصراع من أجل الأستقلال السياسي الى توحيد الشعب المتفرق . ولقـد أثبتت هذه الملاحظة العامة صحتها مراراً وتكراراً في العديد من الأقطار العربية . وكان الأستقلال السياسي مسألة كبيرة ومهيمنة ، وقد القت الضوء على الفروق الداخلية والتشعبات الثقافية المهمة . وعلى أية حـال ، متى ما تم الحصول على الأستقلال ، وأزالة الخصم الممثل بالقوة الأستعمارية من المشهد ، فأن الفروق الثقافية الداخلية التي تم الحصول عليها بجهود مظنية تصبح مثيرة للشقاق والخلاف بصورة مؤلمة . وفي مثل هذا الموقف ، تميل القيادات الوطنية للبحث عن مسألة خارجية جديدة يمكن أن تلهب نار الطموحات الوطنية .
      لقـد استخدمت القضية الفلسطينية ، والتي هدفها أزالة أسرائيل ، كقضية العرب كلهم منذ سنة 1948 . وأذا ما تم حل القضية الفلسطينية بأية طريقة كانت ، فيمكن تصور أن وجود شركات النفط الأجنبية في البلاد العربية سوف يصبح معضلة ، يجرى الشعور بها بأعتبارها مسألة لا تطاق . وفي الجانب الأيجابي ، يوجد دائماً الميل النفسي الذي لا يقاوم ، بأن فكرة الوحدة العربية أما أن تكون بشكل وحدة تجمع كل العرب أو بشكل أكثر أعتدالاً ، تشمل تأليف أتحاد بين دولتين عربيتين أو أكثر …….. هكذا تبدو بالنسبة للعقل العربـي .

* مسـألة الهيمنـة التقنيـة
      لمواجهة الحداثة بين العرب والغرب ، روابط متشابكة أنفعالية عديدة وليس من السهل دائماً فصلها وفـي المنظور التأريخي ، ينظر العرب الى الغرب بأعتباره تلميذاً صغيراً تمكن فجأة من أن يأخذ دور العرب ، وها هم العرب اليوم يجلسون على أقدام تلميذهم السابق ، وهو دور تكتنفه الصعوبات الأنفعالية . ونظرياً ، لا تبدو المعضلة كبيرة جداً . لقد كان من السهل نسبياً أبدأ النصح للعرب بأن الحصول على العلم الغربي هو الطريق الى التحرر من الهيمنة الغربية وهذا بالضبط ما فعله جمال الدين الأفغاني في أوائل سنة 1882 . لقد أدرك الأفغاني ، وهو أحد الشخوص الكبيرة في الأسلام الحديث ، وميز بشكل مؤكد ، بأن الفتوحات البريطانية والفرنسية في الشرق الأوسط من تونس الى أفغانستان ، قد تمت بواسطة أستخدام العلم . ولذلك ، يقول الأفغاني (( فـي الحقيقة ، أن هذه الفتنة والعدوان والفتح ، لم يقم بها الفرنسيون والأنكليز . بالاحرى ، أنه العلم الذي تظهر عظمته وقوته فـي كل مكان )) .
      وبأعطـاء فكرة الأفغاني بعداً أطول ، يلاحظ نورمان دانيال ، الخبير العربي في المجلس البريطاني ، أنه فـي النصف من القرن العشرين ، أصبح الشعور بتأثيرات التطور التقني الغربي واسعاً وبدرجة أكبر بكثير مما كان عليه في العصر الأمبريالي في القرن التاسع عشر وأن هذا هو أحد الأسباب المؤدية الى حدوث أستياء من الغرب في العالم العربي في الوقت الحاضر ، أكثر مرارة مما كان عليه في الماضي)) وبعد تعداد قائمة طويلة من المصنوعات اليدوية الأجنبية والتي يجد الشاب العربي النامي نفسه محاطاً بها  يتوصل دانيال الى أنه لمن الواضح بالنسبة لكل عربي ، بأن العالم الذي ولد فيه ، تهيمن عليه التقنية الغربية .
      وهـذا بدوره ينشىء طلباً متزايداً على التطور الصناعي في الأقطار العربية والتي ترى فيه الطريق الوحيد المؤدي الى التحرر من الهيمنة الصناعية عليهم من الغرب . وعندما يشير عليهم الخبراء الأقتصاديون الغربيون (( للتركيز على تطوير مواردهم الزراعية الطبيعية ويتركون التطور الصناعي الى أقطار أخرى قادرة بشكل أفضل على تأمينه لهم )) فأنهم يمتعضون من هـذه المشورة النافعة أقتصادياً . وفضلاً عن ذلك ، فأنهم يرون في هذه المشورة ، (( خدعة لتجريد الأقطار المختلفة من مصادر القوة)) .
      ولهـذا الرأي ما يوازيه في موضع مشابه دائماً ، مأخوذ من وجهة نظر بعض الكتّـاب العرب في مجال آخر ، حيث يتهمون فيه الغرب بأنه منع وبشكل متعمد ، التعليم التقني عن العرب وبذلك حرمهم من تحرير أنفسهم . وفي الوقت الذي تعبر فيه مثل هذه المزاعم بشكل بليغ عن الشعور العربي بأن العرب أصبحوا غير قادرين على مواكبه التقنية الغربية . فأنهم يلقون اللوم بالنسبة لهذه الحالة على الغرب وليس على أنفسهم .
      وليـس هناك أي شك بالنسبة الى الرغبة الشديدة التي يظهرها العرب في أستخدام الأجهزة والالآت والمبتكرات الميكانيكية الجديدة التي هي فعلاً جذابة ونافعة ، فضلاً عن كونها تضفي الهيبة والاحترام والنفوذ .
      وفـي مجال الصراع من أجل الأستقلال السياسي ، تعلم العرب بسرعة ، بأن الطريق الوحيد لمحاربة الغرب هو بأستخدام الاسلحة العائدة له . لذلك فأن التقنية الغربية حصلت على قيمة متميـزة أخرى :- أنها أصبحت الآلة الفعالة لتحرير الأقطار العربية من الحكم الغربي . ومتى ما تم التوصل الى تحقيق الاستقلال فأن السيل المستمر من المواد العربية الصنع الى الاقطار العربية ـ المتحررة حديثاً والحساسة جداً من أجل التحرر من الهيمنة الأستعمارية المتبقية ـ يبقى بأستمرار أمراً بغيضاً لا يطاق . والسؤال الذي يكرره العرب بأستمرار هو ، ما فائدة الأستقلال السياسي ، عندما نبقى تقنياً وبالتالي أقتصادياً ، معتمدين على الغرب  وفي الحقيقة نبقى مستبعدين من قبله ؟ جوابهم :- هو أن نبحث عن التقدم التقني والأقتصادي . ولكن لتحقيق هذا الغرض تبرز أمامنا حواجز جادة لعرقلته . وبأستثناء النفط ـ الذي هو بحد ذاته مورداً هائلاً ـ فأن العالم العربي ككل فقير نسبياً في الموارد المعدنية . فهو يفتقر الى الموارد الأولية الضرورية للتنمية الصناعية المتميزة . وأن المؤسسات الصناعية ذات الحجم المتوسط والمملوكة من قبل أشخاص معينين والتي تستخدم التقنية الحديثة ـ حيث لعبت دوراً مهماً في الغرب وأكثر من ذلك في اليابان ـ فشلت في أن تبرز في معظم الأقطار العربية ولم يتم تشجيعها وذلك بسبب تطبيق التأميم كما حدث في مصر والعراق وسوريا .
      وهناك مانع أخر يؤثر بدرجة أكبر تجاه الأستقلال السياسي ، ويتمثل هذا المانع بواسطة مجموعة خاصة من الملامح الموجودة في الطباع العربية التقليدية والتي جرت مناقشتها أعلاه .
      أن عدم رغبة العرب في (( توسيع أيديهم)) وذلك عند الاشتغال في الاعمال اليدوية هي صفة ليس من السهل التغلب عليها . ويضاف الى هذه السمة ، الميل العربي الذي يتميز به سكان منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط في ((أخذ الأمور على مهل)) والذي يعبر عنه في اللغة الأسبانية بـ ((Manane  )) وفي الايطالية بـ (( doLco for neite )) وفي اللغة العربية (( buqra أي غداً )) .
      وبين العرب ، يسري هذا الميل لترك الامور دون أن تنجز ، الأ أذا كان هناك سبب أجباري مباشر . ويتصف هذا الميل بكونه أكثر بروزاً وأكثر عمومية لدى العرب مما هو بين شعوب الساحل الشمالي لحوض البحر الأبيض المتوسط . وأن مزج هاتين السمتين لا ينشىء مناخاً عقلياً ملائماً للتصنيع . ومن بين الأمور الأخرى ، هي التعليمات الآنية وفحوصات المكائن والالآت ، وهذه السمات تشير الى أهمال الأدامة المنتظمة مما يؤدي الى حدوث عدة معضلات في محاولة لتشغيل المعامل الصناعية والمكائن بكفـاءة .
      أنـه ليس مفترضاً هنا ، أن السمات التي تجعل التصنيع صعباً ليست محدودة (ملازمة) بالنسبة للعقل العربي . العكس هو الصحيح تماماً . أن للصفة القومية للشعوب الأوربية المفعمة بما أصطلح عليه مايكرويبر (( قواعد الأخلاق البروتستانتية)) والتي هي السمة الوحيدة ضمن سمات الشخصية اللازمة لأيجاد التصنيع ، يبدو أنها موجودة بالتفصيل لدى العرب . وحتى داخل الغرب الحديث ، فأن المناخ في الأقسام الجنوبية من بلدانه يماثل مناخ حوض البحر الأبيض المتوسط في كونه غير ملائم للتصنيع ويشهد على ذلك الفرق بين أيطاليا الشمالية وأسبانيا الشمالية الصناعيتين ، والقسمين الجنوبيين الفقيرين والزراعيين في كلا البلدين . وخارج الغرب ، رسخ التصنيع جذوره فقط في حالات أستثنائية قليلة . ومما يثير الأهتمام ، هو أن نلاحظ في الأماكن التي تم ترسيخ التصنيع فيها ، مثلاً في اليابان ، لم يكن الشعور بالتقنية الغربية الحديثة على انها شيئاً غريباً أو دخيلاً ويهدد الثقافة التقليدية المحلية حتى ولو أن الأخيرة أفتقرت الى عناصر تقنية أصيلة . ويبدو أن السبب الرئيسي لوجود الفرق بين النجاح المتميز للتصنيع الياباني ونتائج التصنيع الزهيدة نسبياً في الأقطار العربية ، يجب أن يبحث عنه في الفرق بين الصفة المميزة القومية اليابانية والعربية .
      وفـي تحليله للموقف العربي تجاه التقنية ، لاحظ المستشرق السويسري هانز توتس بأن العرب مدركون لحقيقة أن التقنية التي تهيمن على طريقتهم في الحياة الى درجة غير محددة تقريباً ، هي تقنية الدول الأجنبية . وعملياً ، لا يوجد في العالم العربي كله أنتاجاً آلياً غير معتمد على مراكز الأنتاج الكبيرة في العالم الغربي . ويجد توتس أن هذه الأعاقة في التقنية ، تعزى الى النظرة الثابتة للأسلام تجاه العالم والتي تعتبر التعطيل الغربي للمعرفة ونظريات الادراك ، دخيلة على الأسلام . وأن العالم العربي والشرق الأوسط ككل ، يرى أنه قد حصل على الأجوبة الخاصة بجميع الأسئلة المتعلقة بالحياة البسيطة . وهذا هو السبب في أنه لا يوجد في الأقطار العربية (( رجال يتأملون في الأسرار الغامضة للموجودات المرئية وغير المرئية بهم )) ، ولا يوجد مبدأ (( أعمله بنفسك )) وأن ما هو منتشر (( عدم وجود المختبرات وعدم وجود المدارس الفلسفية التي لا تعرقلها حواجز العقائد الدينية الجوهرية )) .
      وعند آخذ الموقف العربي تجاه التقنية بنظر الاعتبار ، يجب وضع تمييز واضح بين أستخدام العرب لمنتجات التقنية ورغبتهم أو قدرتهم على الاشتغال في الانتاج التقني .
      ولقد لوحظ أن العرب ، في الغالب ، راغبون وحتى متحمسون لقبول أي شيء يعرضه الغرب عليهم بشكل معدات آليــة وعدد (أبتكارات جديدة ) . وتظهر المعضلة فـي الأرتباك مع الجوانب الأنتاجية للتقنية . وأن الاسس التي تستند عليها التقنية تبقى غير مستثمرة ، وأن صنع المكائن والمبتكرات الآليه والمتميزة في استخدامها ، تبقى دخيلة .
      ويعـلق الكاتب الفرنسي جورج كتيمان المولود في القاهرة فـي سنة 1927 من أصل سوري والماني ، بأن فشل الغرب الأكثر جدية في العالم الحديث ، هو في (( عدم قدرتهم على أتقان لغة التقنية)) . وفي الوقت الذي يتسم فيه هذا الاسلوب بالبساطة بشكل واضح ، فأن العرب بدون شك ، هم من بين العديد من شعوب العالم الذين لا تشكل صفتهم القومية ، تربة خصبة تلقائياً بالنسبة للتصنيع . وهذا لا يعني بأن الأقطار العربية لا تتمكن أو أنها سوف لن تقوم بالتصنيع . والحقيقة هي أن جهوداً مدهشة تبذل في أتجاه التصنيع في عدة أقطار عربية .
      ولـكن ، بدون شك ، أن الأسلوب سيكون بطيئاً ومنهكاً . أنه يستلزم جهداً رئيسياً لأعادة التعليم والذي من خلاله سيتعرض تركيب الصفة القومية العربية الى نوع من التكييف . كما أن عدم ميل العرب الى الأنتاج التقني أنه ليس لديهم أستعداد تقنـي . فالمبتكرات التقنية البارعة أخترعت واستخدمت من قبل العرب في الماضي ، ومن بينها دواليب الماء العملاقة والتي كانت ترفع الماء من الأنهار ، وكانت الأبراج الهوائية توجه التيارات الهوائية المنشطة من السطح الى الغرف في الأسفل ، والى تحت الأرض في قنوات الماء .
      ولـقد برع العرب في بناء السفن ، وحياكة الملابس ، وصناعة السجاد ، وصناعة الفولاذ والاعمال النحاسية ، وعدة مجالات تقنية أخرى . ولكن في أزدهار هذه المهارات الفنية قد مرت منذ زمن بعيد ، معظم الحرف أما تدهورت أو تلاشت كلياً ، وأن المنشآت القديمة قـد أصبحت متروكة . وكنتيجة لذلك ، فأن أحدى الصعوبات الرئيسية في أدخال التقنية الحديثة في العالم العربي ، هي أن مثل هذه المحاولة ، ضمن أشياء أخرى ، يجب أن تتماشى مع معالجة معضلة أضفاء المهارات الفنية على الأشخاص أي تمكينهم من أكتساب المهارات الفنية . والذين لم تتوفر لديهم الفرصة لعدة أجيال مضت ، أو أن الفرصة كانت غير كافية للحصول على المهارات واستخدامها مهما كانت قابلياتهم وأستعدادهم الطبيعي المتيسر لهم في هذا المجال . والمعضلة التي لها علاقة بهذا الموضوع ، هو أن المهارات التقنية يمكن الحصول عليها فقط من قبل الأشخاص الذين لديهم أهتمام فيها أو رغبة لتطويرها ، وأن الأزدراء العربي التقليدي للعمل اليدوي موجه ضد مثل هذا الأتجاه .

* مركـز الأهتمام والقيم والتبديـــــل
      أن مناقشة سيكولوجية الأخذ بأسباب المدنية الغربية في العالم العربي ، يجب أن تبين الفروق بين ثقافة الغرب وثقافة العرب . وهذا من الصعب بيانه وذلك لأن تمثيل ((الغرب)) و ((العالم العربي)) كما لو كان كل منهما كيان واحد متجانس ، يتطلب مستوى عال من التجريد والتعميم . وفي الحقيقة ، يمكن أن يفسر كلا من ((العالمين)) على أنه متجانس فقط عندما ينظر اليه من زاوية معينة .
      هـذه هـي الأعتبارات الرئيسية التي حملتني منذ سنوات عديدة على أفتراض مصطلح ((القارة الثقافية)) لكل من الشرق الأوسط والذي يمثل فيه العالم العربي الجزء المركزي ، والعالم الغربي ، والتأكيد على كل من هاتين ((القارتين الثقافيتين)) بأنها تتكون من عدة (( مناطق ثقافية)) قابلة للتعيين أو التخطيط وبصورة متبادلة .
      وبـأخذ هذه التحفظات بنظر الأعتبار ، يتمكن المرء مع ذلك ، أن يقوم بمحاولة (ولو أنها تكون سطحية) لبيان أن ما يبدو ، هو الفروق الأساسية بين الثقافتين و (( الخاصية القومية)) المكونة منهما . وهذه الفروق يمكن أظهارها بشكل أفضل بواسطة التركيز على المراكز الثقافية ، أي الأهتمامات المسيطرة والموجودة في كل ثقافة والتي تضم مجالات الفعالية والأعتقاد والأدراك الواسع الشكل والمناقشة المهمة للقيم التي يجري سماعها والأنواع الخصبة جداً في التركيب التي يمكن تمييزها بوضوح والأعتزاز بها أعتزازاً عالياً من قبل حاملي الثقافة المعنية .
      وبيـن الأهتمامات المركزية للغرب ، يمكن المرء أن يذكر ، على سبيل التوضيح ، التقنية والبحث العلمي والأعتقاد في التقدم وأنشغال الفكر به ـ والذي يعني كذلك أن الأبتكار والتبديل بحد ذاتهما ، يعتبران من المنافع ـ وكذلك الأيمان بالقومية والديمقراطية والحريات الفردية الأساسية وما شابه ذلك . وليس أي من هـذه الأهتمامات ، كانت اهتمامات مركزية في العالم العربي فـي الحقيقة ، من النادر أنها كانت موجودة ، الى حين جرى أدخالها بواسطة الأخذ بأسباب الحياة الغربية . وبمقابل تلك الأهتمامات ، فأن العالم العربي له أهتماماته الخاصة المهيمنة والتي تفتقر الى ما يقابلها في الغرب الحديث كالدين والأخذ بالتقاليد والأرتباطات العائلية والحياء الجنسي وما شابه ذلك . وهذه الأهتمامات المركزية واضحة الى درجة أنها يمكن أن تستخدم لتمييز ثقافة عامة ورسم مظهرها الجانبي كما كانت .
       وقـد يتوقع المرء بأن المجتمع قد يبدى مقاومة كبيرة بالنسبة لأجراء أن تغيير في مجالات مركزية في ثقافته التي يوجد بينها أرتباط عاطفي ، ولذلك فأن تلك المقاومة تقف موقفاً متماسكاً ومناوئاً لأدخال الأبتكارات . ومن الناحية الاخرى فأن الأبتكارات التي تجرى بالنسبة للملامح الثقافية خارج هذه المجالات المركزية ، قد لا تواجه أية مقاومة . ولكن بالنسبة للثقافة التي تتأثر بالتقاليد ، فأن التغيير والابتكار في كل مجال من مجالات الثقافة يلاقي أعاقة قوية . وفضلاً عن ذلك ، ففي مثل هذه الثقافة ، كلما كانت العادات القديمة متميزة في مراعاتها بدرجة أكبر ، كلما كانت قيمتها التقليدية أعلى ، وبالتالي كانت المقاومة المطلوبة لتغييرها أكبر .
      وعلى أية حال ، فأذا كانت الثقافة موجهة لتشجيع الأبداع ، كما هو الحال بالنسبة للثقافة الغربية ، فيمكن للمرء أن يتوقع وجود علاقة متبادلة : كلمـا كانت الصفة أقرب الى القسم المركزي المهم من الثقافة ، كلما كان الأهتمام والرغبة لأدخال الأبتكار والابداع فيها أكبر لان الأبداعات هي تحسينات معتبرة ذات أسبقية أولى ، وهي بهذه الصفة تكون مرغوبة .
      وفـي مثل هذه الثقافة ، فأن الأهتمامات المركزية ، بسبب الفوائد الكبيرة التي تؤمنها تكون خاضعة الى بحث مستمر للتحسينات الممكنة . وهذا يفسر لماذا أن الثقافة الموجهة لاستحداث التغيير ، مثل الثقافة الأمريكية ، تركز بالضبط على الأهتمامات المهيمنة (مثلاً ، التقنية) حيث يجد المرء ، معدل التغيير الأكبر والأسرع ، بينما في تلك المجالات غير المركزية من الثقافة ، مثل الدين فأن التغيير يكون أكثر وضوحاً ، ليس بسبب المقاومة التي تواجه التغيير ، ولكن بسبب الحاجة الى الأهتمام بالدين . وأن الموقف المتميز تجاه هذه المجالات ، هو القيام بأجراء التغيير الأحسن فقط ، بينما في الأهتمامات المركزية لا يمكن الشعور بأن شيء بأنه جيد بما فيه الكفاية أي في المستوى المطلوب وأن أجراء التجارب المتواصلة ، يستمر لتطوير البدائل المتفوقة .
      وفـي الثقافة الغربية الحديثة ، يعتبر الجديد أفضل من القديم ، وأن التبديل بحـد ذاته يعتبر شيئاً جيداً ، بينما في الثقافة العربية المتحددة بالتقاليد ، يعتبر القديم أفضل من الجديد ، ولذلك فأن الأحتفاظ بالنظام القائم يعتبر أمراً جيداً . وعندما شرح الطلبة الغربيون في أوائل القرن التاسع عشر في بحث بلدان الشرق الأدنى ، التي أصطلحوا على تسميتها بـ ((بلاد الأنجيل)) ، فأن أحدى السمات التي جلبت أنتباههم كانت بالضبط سمة التمسك بالتقاليد التي تخللت الحياة العربية . وفي الحقيقة ، أن أنطباعهم عن العالم العربي ذي الطبيعة المقيدة بالتقاليد ، كان قوياً الى درجة أنهم أستحدثوا تعبيراً جديداً هو (الشرق الثابت) . ولقد بدا واضحاً بالنسبة لهم كما لو أن حياة الشعوب في الشرق الأدنى وعاداتهم وطبائعهم وأساليبهم في التفكير والشعور ، بقيت ثابتة لم تتغير منذ العصور القديمة . وقد نتج هذا المسلك في دراسات عديدة ، كان مضمونها بيان أوجه التشابه بين الحياة المتمسكة بتعاليم الكتاب المقدس (الأنجيل) والحياة التي يمكن مشاهدتها في المشهد العربي المعاصر (أي في القرن التاسع عشر) . وخاصة في القرى ، في فلسطين والأقطار المجاورة . وقد توصلت تلك الدراسات الى أن أوجه التشابه المدهشة تلك ، أظهرت الى أي مدى بقيت بلاد الأنجيل ثابتة لم تتغير منذ عهد أبراهيــم وداود وعيسى ، وبمعنـــى أخر، أن الشرق كان فعـلاً (( جامداً لم يتغير)) .
      ولقـد أصبح هذا الرأي البسيط في الوقت الحاضر ، شيئاً من الماضي وأن المعالجة الأكثر دقة ، علمتنا أن الشرق الادنى لم يكن ((جامداً)) على الأطلاق ، لقد حدثت التغييرات في كل من حياته الأجتماعية والثقافية ، الا أن تلك التغييرات كانت طفيفة أو بطيئة ، مقارنة مع التغييرات السريعة التي حدثت في العالم الغربي خلال المائتي سنة الأخيرة . وأن الديانات السماوية هي بدون شك ، عامل قوي في تطوير التقاليد العربية .
      عنـدما يؤمن المجتمع بأن ديانته قد أنزلت من الله في وقت معين في الماضي الى أكبر قائد ديني فيها ، فأنه لا يتمكن من تطوير عقلية تعتبر التمسك بالتقاليد الدينية قيمة عليا . وبالتوسع يجب أن نتوصل الى أعتبار كل التقاليد في نفس النظرة . وبصورة حتمية ، جرى الأعتقاد بأن العصر الذي حدث فيه نزول الرسالة السماوية ، يمثل أعظم وأنبل فترة في تاريخ المجتمع . وأعقب تلك الفترة العظيمة ، فساد تدريجي تزايد بأزدياد المسافة بين الأجيال الجديدة والنزول الأصلي للرسالة السماوية الى الأرض . أن كل أبتكار يعتبر بدعة وذنباً جسيماً لأنه يزيد من هذه المسافة . وأذا ما أريد القيام بتغيير معين ، فيكون مسموحاً به فقط في اتجاه العودة الى حالة الدين الأصلي التام والنقي من العواقب . وأن هذا الأعتقاد ، الذي هو بحد ذاته عامل قـوي مؤثر ضد كل شيء جديد ، كان مميزاً بشكل مدهش من قبل الكاتب العربي نبيه أمين فارس : ((تكمن التقوى والفضيلة في الطاعة والأتباع ، بينما ليس هناك شيء أكثر مقتاً من التبديل والأبتداع . وهناك أيضاً عوامل أخرى تجعل التمسك بالتقاليد موقفاً مهيمناً في الثقافة العربية . فالتقاليد العائلية بسيطرة رب الأسرة والأشخاص كبار السن فيها ، وتبجيلهم تحمل معها تفضيلاً للأساليب الرصينة للجيل الأكبر وتبنيها المطلق لتلك الأساليب والأستمرار عليها من قبل الجيل الأصغر . ولقد أثرت ضآلة موارهم المادية ايضاً على ظهور الروح المبدعة : أنها تعطي الشعور ، بأن المرء يجب أن يكون مكتفياً بقابليته على سد رمقه بطرق العيش المعتمدة والمجربة ، بدلاً من التعرض الى مخاطر المجاعة التي قد تفضي الى الموت عن طريق أجراء التجارب بأساليب جديدة .
      لا حاجة الى القول بأن أي شيء يسود في الغرب وهو مخالف للتقاليد العربية ، فيجب مقاومته بميل مضاد من قبل اولئك العرب المتمسكين بتطبيق تلك التقاليد . وأن السمة الغربية التي يجب أن نحصل عليها فعلاً ، هي بسبب فوائدها الطاهرة للعيان ، وقد تقبل تلك السمة بمعارضة قليلة أو بدون معارضة . وكذلك ، يجب أن تقع السمة الغربية المطلوبة ، تماماً خارج الأهتمامات المركزية للثقافة العربية التقليدية . وأن الخصائص التقنية التي لا يبدو أنها تهدد أية قيم مترسخة تقليدياً ، هي الخصائص الأكثر استعداداً للقبول من قبل العرب . والحاجة التقليدية للأهتمام بالتقنية ، تعني أنه لا توجد معارضة تقليدية بالنسبة للمبتكرات التقنية مثل الراديو والمصباح النفطي والسخان والموقد والمحراث الفولاذي ودَراسة الحبوب الحديدية ومضخة الماء التي تعمل بمحرك وما شابه ذلك .
      ويـلعب التمسك بتطبيق التقاليد دوراً مهماً في منع أو عرقلة أدخال المبتكرات الغربية في مجالات الحياة التي ترتبط بالقيم الأساسية .
      ومـن بين هذه الملامح ، تظهر السمات الخاصة بالتقاليد العائلية والعلاقات الشخصية والحياء الجنسي ، والى مدى أقل الفنون والحرف التقليدية ، وخاصة الفنون اللغوية (الكلامية) . ويجري التمسك بكل هذه الملامح بدرجة عالية من التقدير والأعتبار ، ليس لمجرد أنها تمثل التقاليد القديمة في الحياة العربية ، ولكن أيضاً لأنها مقدسة من الناحية الدينية .
      أن الثقافة العربية وثقافة منطقة الشرق الأوسط عموماً ، هي من الثقافة الشرقية ، ومع ذلك ، فأنها من بين كل الثقافات الشرقية ، تعتبر الثقافة الأقرب الى الثقافة الغربية تاريخياً وجغرافياً . ولقد أكد عدد من المفكرين العرب ، في الأحقاب الحديثة على الصلة القريبة والقوية بين العالم العربي والغرب ، أكثر من صلة الغرب مع الثقافات الآسيوية العظيمة والتي تقع الى الشرق من البلاد العربية . ومع ذلك فليس هناك شك بأن الثقافتين أن الثقافة الغربية وثقافة العالم العربي ، تتميزان بمكانتيهما المختلفتين بدرجة واسعة .
      أن الثقافة العربية ، وعموماً ثقافة المسلمين في الشرق الأوسط ، مرتبطة بدرجة أقرب الى الثقافات القائمة في شرق وجنوب شرق آسيا . ولقـد جرى تلخيص التوجهات المتباينة بين الشرق والغرب في فقرة ملفتة للنظر من قبل المفكر فرانكو نوجورا : فـي الحقيقة ، أن المسافة بين العالمين ـ الغرب والشرق ـ كانت كبيرة . فالمقدمات المنطقية للحياة كانت مختلفة وغالباً متعارضة . وجرى توجيه الحياة لتطبيق القيم الخاصة بكل منهما بشكل متبادل أو لتطبيق القيم التي لا يتفق حدوثها في آن واحد . وكانت المراحل الأجتماعية والأخلاقية لأي منهما متفاوتة بحيث لم يكن ممكناً التقاء وجهات النظر . وبصورة غير متوقعة ، فتحت أوربا أبواب المدنية والتصنيع الى مجتمعها الريفي والزراعي . وبالنسبة الى الأنماط الأقطاعية القديمة ، ونموذج رب العائلة(أو القبيلة) ، حيث كان الفرد بموجبها خاضعاً للعائلة ، وازن الغرب بين الصدارة في ترتيب الكائن البشري والهيئة الحاكمة . وتجاه التدين المفرط والمتعدد الأشكال ، والمشاركة في أجزاء مختلفة من العالم في آن واحد بالتقاليد الكونفوشيوسية والهندوسية والبوذية والأسلامية أستجاب الغرب بفلسفة من أصل أغريقي وبدين ذي جذور عبرية ومسيحية . وأن الأهتمامات الألفية (المؤمنة بالعصر الألفي السعيد) للثقافة المتطورة والمكرسة كلياً للأشكال الأدبية في المحتوى الأخلاقي والأجتماعي والمشبعة بالمعرفة القائمة على فلسفة الخبرة الذاتية ، أهملت بأستحواذ الفكرة الغربية المسيطرة على العقل والتي تتضمن الأختراع العلمي والبحث عن السيطرة على العوامل المادية والتقدم في مجال العلوم الطبيعية .
      ومـن نظام العبادة الذي كان يمارسه الأجداد أو الأسلاف ، أستعاض الغرب بممارسة حب الخير والأصلاح الأنساني الأجتماعي العملي . وفيما يخص فكرة الطاعة الشخصية أو الفردية ، والمتميزة بقدمها تآريخياً وبكونها أكثر حكمة ، أوجد الأوربيون عوضاً عنها مفهوماً أخر هو الضبط الذاتي الذي يحاسب عليه القانون العام . وعلى العكس من مبدأ قبول الحقيقة على علاتها دون معرفة دوافعها الأساسية ، مارس الأوربيون مبدأ النقد المنطقي العقلاني والأنتقائي والمفصل ودافعوا عنه بحرارة . وعلى ما يبدو ، بالنسبة الى الموقف من الثقافة ، فأن الغرب أدعى بأحساسه النفعي في الصراع من أجل الحياة .
      أن الديناميكية المادية (تفسير الكون بلغة القوى المادية وتفاعلاتها) بالنسبة للأنسان الأوربي ، تتعارض مع القصور الذاتي للأنسان الآسيوي ذي النزعة التأملية . وأن القصور الفطري للأنسان الآسيوي يتضارب مع المعلومات الأستخبارية الموضوعية بالنسبة للأنسان الأوربي . وبهذه الطريقة ، تستمر تلك الهوة الأخلاقية بينهما في التطور والزيادة والتي لا يزال صداها في تقدم مستمر .
      أن التـدخل في تحديات الثقافة الغربية ، ليس فقط بسبب التمسك بتطبيق التقاليد العربية ولكن ايضاً بسبب الأهتمامات العربية المهيمنة الأخرى .

* الاهتمامـات الخمسـة المهيمنـة
      ويـأتي بعد التمسك بمراعاة التقاليـد ، ويتصل بها أتصالاً وثيقاً ، مراعاة الروابط والتقاليد العائلية . والمقصود بمراعاة الروابط العائلية بأنها مراعاة السلطة المركزية في العائلة فيما يتعلق بتنظيمها وتفوقها في مستوى درجات الولاء وسيادتها على حياة الفرد .
      وتتميـز العائلة العربية التقليدية (كذلك العائلة المسلمة فـي الأجزاء غير العربية في الشرق الأوسط) . بـ (6) سمات ، وكل من هذه السمات ، يسند ويقوي هيمنة السلطة العائلية في الحياة العربية . وتتوسع هذه السمات لتعمل سلطة رب العائلة والأرتباط بالنسب الأبوي والنسب الفرعي الأبوي والتزاوج بين أفراد العشيرة الواحدة واحياناً تعدد الزوجات في آن واحد . وأن العائلة التي تتمتع بالمحافظة على هذه السمات ، تتمكن من ممارسة سيطرتها المركزية وسيادتها في الحياة الأجتماعية والفردية .
ويترسخ التقيد بمراعاة الروابط العائلية بشكل عميق في العقل العربي ، بحيث أن المجموعات الأجتماعية الكبيرة ، يمكن تصورها على أنها مجرد أمتداد وتوسع تقليدي لعدد من العوائل . وأن السلالة الفرعية من القبيلة (والتي تدعى في القرى بـ ((الحمولة)) في عدة أفطار عربية) هي ليست سوى عائلة كبيرة تنتسب الى جدها الاعلى الذي عاش قبل (6ـ8) أجيال .
      وكذلك الحال ، بالنسبة الى قبيلة بكاملها ، حتى أذا تجاوز تعدادها الالآف ، فأنها تعتبر سلالة متفرعة من جد واحد أو جد خيالي (أسطوري) أو بطل يطلق أسمه على تلك القبيلة .
      وبالتوسع المآثور لمبدأ القرابة هذا ، يعتبر العرب جميعاً أو يعتقد أنهم منحدرون من أصل واحد . وبتطبيق هذه العلاقات العائلية التقليدية ، وعندما يتكلم العرب عن أخوة العرب جميعاً ، فأن كل النزاعات العربية الداخلية (أي بين العرب أنفسهم) هي مجرد ((مشاجرات أو مخاصمات عائلية)) .
      لقـد أدى التوسع في تطبيق مبدأ العلاقات العائلية الى مشاركة الفرد في كافة التجمعات الكبيرة ، ليس على أساس فردي وأنما من خلال عائلة . ونظرياً ، أن هذا التوسع هو أنعكاس الى الروابط المهنية (النقابية) والحرفية الأخرى ، كما لو كانت عوائل كبيرة أو قبيلة . وأن الأحزاب السياسية ، تتطور وتنمو بطريقة مشابهة للتطور الطبيعي للعلاقات العائلية أو للعلاقات المسندة عى أساس العلاقة بين (( الزعيم Zaim أي الرجل القوي)) وتابعيه .
      وليـس من الصعب أطلاقاً ، أن نفهم بأن أولئك الذين لديهم منفعة خاصة فــي أدامة الروابط العائلية ـ والتي تشمل جميع أولئك الأشخاص الذين يشغلون الدرجات الوسطى والعليا في سلم الوراثة العائلية ، وهذا يعني عملياً ، كل فرد في العائلة عدا الصغار والأولاد ـ يعارضون بشدة أي تغيير يمكن أن يؤدي الى مضايقة العائلة أو حتى الى أضعافها . والواقع أن جميع عناصر الأخذ بأساليب الحياة الغربية تميل الى مراعاة هذا الأمر بالضبط .
      وعـادة يختار الوالد زوجاً لأبنته وعليها أن تقبله دون أبداء آية معارضة أو أي رأي في القبول أو الرفض ، ولكن البنت التي تسنح لها الفرصة للدخول الى المدرسة ، يصعب أقناعها بهذا الأسلوب بسبب تآثير التعليم على أسلوب تفكيرها . وعندما يذهب الولد الى المدرسة ويحصل على التعليم ، فمن المحتمل أن تتكون له بعض الأفكار عما يريد أن يعمله في المستقبل وأين يريد أن يعين . وعلى ما يبدو ظاهرياً ، أنه حتى الملامح التقنية التي لا تحدث ضرراً أو أذى ، يمكن بشكل تدريجي وخفي أن تبدأ بتنفيذ رد فعل متسلسل يضع في النهاية لمساته على القيم المقدسة للروابط العائلية والاهتمامات المهيمنة الأخرى .
وفي الوقت الذي لا يمكن فيه القول بأن مثل تلك الأساليب تفحص بأنتباه ، فأن كلاً من الروابط التقليدية والعائلية ، تنشيء حالة عقلية مبدئياً ((الشكوك في الأبتكارات المتولدة عموماً)) بتآثير خارجي .
والقيمة الأخرى التي جرى تحديها من قبل الغرب ، ذات علاقة شخصية ومصاحبة للروابط العائلية بشكل مقارب . فالفرد الذي ينمو ويترعرع في مجتمع صغير تسوده الروابط العائلية هو الموضوع المهيمن ، وأن العائلة هي أطار الحياة الذي يستخدم لربط كل فرد فيها على أساس شخصي بدرجة عالية . وأن كل الأشخاص الذين يلتقيهم في مجال الحياة الروتينية اليومية معروفون بالنسبة اليه شخصياً ، وفي حالات عديدة تربطه بهم علاقة بدرجة معينة . وأن مقابلة شخص غير معروف بالنسبة له سابقاً ، يعتبر حدثاً غير مألوف عادة ، وعندما تحدث المقابلة ، فأن كلا الجانبين سوف يقضي وقتاً طويلاً في مناقشة سلسلة نسب وأقرباء كل منهما للأخر على آمل أيجاد حلقة ربط بينهما ، وفقط عند التوصل الى ذلك ، يقتربان من الموضوع الذي جاء من أجله ذلك الشخص الذي يعتبر غريباً بالنسبة الى القرية أو القبيلة . وفي المدينة العربية التقليدية ، لا تحدد الأتصالات الشخصية بين الأصحاب بنفس المدى ، ولكن حتى في المدن ، وخاصة في المدن القديمة بتركيبها السكني المقسم الى قواطع ، كانت العلاقات الشخصية هي العلاقات الوحيدة التي أعتاد الفرد أن يتحرك ضمنها بسهولة .
      أن السمة التكميلية لهذا النوع من التنظيم الأجتماعي هو أنه يوجد تفاعل أجتماعي مكثف بين الفرد والأعضاء الأخرين من جماعته . وكما توضح ذلك . سانيا هامدي :- أن كل عضو في الجماعة يتدخل في حياة الفرد لغرض تولي توجيهه أو تضليله . وأنه قد لا يتخذ أي قرار دون مشورة الأقرباء المقربين اليه والأشخاص الأخرين الأكبر منه سناً في جماعته . وأنه يعيش في تنظيم مترابط متين ، يعرف فيه كل فرد العمل الذي ينبغي أن يقوم به كل فرد أخر . وأن كل تعبير أو عمل يقوم به ، يمر من خلال الرقابة التي تمارس من قبل مجموعته . وهو يتعرض بأستمرار الى تقديرات القيمة التي تخضع لها كل أقواله وأفعاله .
      ويبـدو لي أن هذه السمة الشخصية المكثفة بشكل مؤكد لجميع أو معظم الأتصالات الأجتماعية في مجتمع تقليدي ، هي أحد مصادر الميل العربي في (( جعل المعضلات شخصية )) والتي تلاحظ من قبل عدد من الدارسين العرب .
      ويشير المستشرق هانس توس الخبير في اللغة العربية وآدابها ، الى : أن جعل المعضلات شخصية ، والذي يجري في الأقطار العربية حتى وأن صاحب تبني عناصر الحضارة الغربية ، صعوبات فنية ومادية ، يعتبر ناتجاً عن سوء قصد وانانية وشعور بالأذلال أو المهانـة .
      أن العرب الذين قبلوا بالقانون الغربي وبالمعاهد والمؤسسات العلمية الغربية والذين أصبحوا كالغربيين في لباسهم وطعامهم ووسائل تنقلهم ، نعم ، الذين أصبحت حياتهم ككل محددة أكثر فأكثر بأستخدام التقنية الغربية والعلم الغربي أصبحوا يشعرون بأن كل هذه المظاهر من الحياة الغربية تمارس دائماً (( تحقيراً أو أهانة أو أذلالاً )) جديداً ، والتي هي في أماكن أخرى قد تعتبر صعوبات ، أعتيادية تواجه التطور ويتطلب الأمر معالجتها . وعندما يواجه الشخص العربي مانعاً أمامه ، فأنه يتصور بأن هناك عدواً خلفه . وأن الأشخاص الذين يشعرون بالفخر أو الكبرياء المصحوب بـ تركيب ذاتي ضعيف ، يميلون الى ترجمة الصعوبات التي يواجهونها في طريق حياتهم على أنها أهانات وتحقيرات شخصية ويتورطون في قضايا قانونية مستمرة أو يرمون أنفسهم في أحضان حركات سياسية متطرفة مهلكة .
      وأن الفشل في الأنتخابات ، والتي هـي مجازفة يجب أن يواجهها كل سياسي في ممارسة الديمقراطية ، يبدو أنها بمثابة أذلال أو مهانة بالنسبة الى العربي . ونتيجة لذلك فقد يقتنع ، دون حاجة الى مراسيم أخرى ، بضرورة حمل السلاح بوجه المنتصر في الأنتخابات ، وبوجه الحكومة الشرعية ، أو حتى أن يتحالف مع اولئك الذين يعدوه بالنجاح في المرة القادمة …… .
      وفـي الوقت الذي يبدو فيه ، أن هذا العمل يتصف بالمبالغة ، الأ أنه مما لا شك فيه أن العربي يشعر بالتعرض للاعتداء والمهانة ، بسبب الصعوبات المادية والموضوعية ، غير الشخصية ، التي يضعها الغرب أمامه ويتفوق فيها عليه . ونظراً لتمتع العرب بالحدية في التفكير والحساسية المفرطة تجاه القضايا الشخصية ، فليس هناك شك في أنهم قد أدركوا تماماً ، وبشكل تدريجي ، التغييرات الحادة في الصفات المميزة للتواصل الأجتماعي والناجمة من تآثير أسلوب الحيـاة الغربيـة الذي بدأ يتغلغل بين صفوفهم .   ولقـد أدى توقف أو أضعاف زعامة العائلة في المجتمع العربي الى ضعف الأتصال الشخصي والى سريان مبدأ الأتصال غير الشخصي في العلاقات الأجتماعية ، وقد أنعكس ذلك بصورة سلبية على علاقة العرب مع الغرب .
      ومـن وجهة النظر الغربية ، فأن المعضلات والحوادث المؤثرة على الأشخاص ، تحدث بدرجة كبيرة بسبب الظروف الموضوعية التي تحيط بالفرد مما يجعله يشعر بأن أسباب أحفاقاته لا تعود كلياً اليه شخصياً ، وأنما الى تلك الظروف غير الشخصية بدرجة كبيـرة ، فضلا عن شعوره بالأرتياح والأبتهاج بالنسبة لنجاحاته . وعلى العكس من ذلك ، فأن الشخص العربي كلما كان قادراً على أن يعزى هذه الأحداث بدرجة كبيرة الى عوامل شخصية ، فأنه يكون قادراً على العمل في تلك البيئة التي يألفها بشكل تام . وأن تدخل العوامل غير الشخصية في دنيا العرب يجعلهم يشعرون بقصورهم في التغلب على الهزيمة ويقلل من أندفاعهم لتحقيق النجاح الذي يبدو في هذه الحالة أن أسبابه ليست نتيجة لقدرتهم في التغلب على المنافسين الشخصيين لهم ، وأنما بسبب تلك العوامل غير الشخصية .
      أن تدهور الاعراف الجنسية للشباب ، وخاصة البنات ، هو أحد التآثيرات السلبية المعلنة والتي تحدث بكثرة ومرارة بسبب الأخذ بأسلوب الحياة الغربية والتآثر بها . وكما رأينا فأن هذا المجال حساس بشكل خاص لتعلقه بالمبادىء الأخلاقية العامة للعالم العربي والتي تستند جميعها بصلابة على الدين .
      لـذلك ، فأن أي تبدل وافد من الغرب على السلوك الجنسي ، فضلاً عن عدم التصريح الحقيقي به . يعتبر أساءة الى الدين ، الذي يمثل الجانب المركزي من حياة المسلم . ولا حاجة لذكر المعنى الأخر الأقدم والاعمق لمبادىء الأخلاق الجنسية للمرأة وتأثيرها على الرجل العربي . وأنه من السهل الأدراك بأن أي أبتكار متآثر بأسلوب الحضارة أو المدنية الغربية ، والذي تجرى ممارسته جنباً الى جنب مع الأعراف الجنسية العربية قد يؤدي بالقوة الى أعادة تقويم المبادىء الأخلاقية العربية للفضائل جميعاً .
      ومـع ذلك ، فأن أهتماماً مهماً أخر جرى تحديه من قبل الغرب : ذلك هو تحدي الفنون الشعبية والحرف الشعبية والفولكلور الشعبي . وعلى أية حال فأن قلة من العرب نسبياً تأسف في الوقت الحاضر على التدهور الذي أصاب هذه الحرف والفنون المعبرة عن الروح الشعبية العربية ، لأن عدد الأشخاص الذين يعرفون تلك الفنون والحرف ويقيموها قد تقلص أو تلاشى بسرعة عبر العقود القليلة الماضية .
      أن الأيضـاحات المختلفة للثقافة الشعبية العربية التقليدية ـ مثل القصص الشعبية والشعر الشعبي والأمثال والأقوال والالغاز والأغاني الشعبية والموسيقى الشعبية والأشكال الصورية المختلفة للفن الشعبي مثل التطريز والزخرفة لجميع أنواع الأشكال بالنماذج المزخرفة وصنع السلال والجرار وصياغة المجوهرات وما شابه ذلك ـ كانت هي الوسائط التي استخدم فيها الأحساس الجمالي الرفيع للتعبير عن نفسها ، وأنها قد وسعت مدارك الناس في كل مجال ، الأغنياء والفقراء على حد سواء . ولقد فقد الكثير من هذه الفنون في الوقت الحاضر ولم يبق منها أثر يمكن أسترداده أو أستعادته الى الوجود مرة أخرى . وقد تم تبديل الأشياء ، والادوات والالآت التقليدية ، والتي جرت العادة على تزيينها بنماذج قديمة جميلة – حتى في القرى النائية والمضارب البدوية – بما يكافئها من الاشياء التي تنتج بالجملة والتي تصنع في المعامل , اما في الغرب او بعد الاخذ بالنموذج العربي في مدينة صناعية كبيرة .ولا يبدو ان هناك من يتألم على حقيقة ان هذه الطريقة قد سببت اوأنها قد تسبب في المستقبل القريب ,الاحتفاء الكامل للفنون والحرف الشعبية القديمة التي استمر وجودها لقرون عديدة .
لقد حل الراديو محل الموسيقى التي جرت العادة على العزف بها في جميع المناسبات الممكنة , وان انتشار القراءة والكتابة كان عاملاً مضاداً للاحتفاظ بالذاكرة بكنوز الادب الشفاهي , وفي الوقت الذي تلاقي فيه الجوانب المختلفة للاخذ بالاسلوب والحضارة الغربية درجات متباينة من المقاومة , فيبدو ان تلاشي هذه الفنون اصبح مقبولاً في العالم العربي خلال مسيرته الطويلة .
والظاهر ان سبب اللامبالاة هذه هو الاقتناع الكلي بشكل عام بان البضائع المصنعة في الغرب متقدمة وانها افضل من منتجات الحرف اليدوية العربية وان تبني البضائع المصنعة في الغرب والاستخدام الواسع الممكن لها يمثل تقدماً وتحديثاً للحياة العربية . وان معضلة التحسين الجمالي للحياة العربية الذي يحدث في مجال التطوير , قد تقلصت (في حالة الاعتراف بها اطلاقاً) كتأثير جانبي غير مهم .
ومن بين جميع الاعتبارات المهيمنة على الثقافة العربية , فان الاسلام هو الاعتبار (العامل) الاكثر تعزيزاً للروح العربية ونظرا لصلابته فانه لايوجد مخاطر جسيمة , وفي الحقيقة لاتوجد اية مخاطر اطلاقاً من احتمال حلول ديانة الغرب المهيمنة بدله . وان الخطر الذي يمثله اسلوب الحياة الغربية والثقافة الغربية في الاسلام , هو نوع مختلف فلقد اضاف انتشار الثقافة الغربية في البلاد العربية , سمة جديدة تتماثل في تزايد ميل الشباب العربي الى تبني الموقف الغربي النموذجي تجاه الدين فليس هناك أي من الشباب العربي يحلم بقلب أي من الطوائف المسيحية المتعددة والموجودة في وسطهم , ولكنهم اخذوا ينسبون الى الاسلام الاسلوب الذي ينسبه الغربيون الى ديانتهم . وهذا يعني قبل كل شيء, انهم سيقبلون بان يعتبروا الاسلام ليس طريقة كاملة و منهجاً تاماَ للحياة ولكن كدين , هو في مجال محدد من الحياة  , يفرض واجبات معينة عليهم ويحدد العلاقة التي يجب ان تكون بينهم وبين الله . وكمسلمين متاثرين بالتقاليد فانهم يرون ان الحضارة الغربية قد احدثت انقساماً ثنائياً في الحياة العربية التي كانت قبل ذلك , كلاً عضوياً واحداً ومسلماً في كليته . والان ، فقد اصبح مسلماً جزئياً وعلمانياً في جزئه الاخر . وفي الوقت الذي يكون فيه هذا الانقسام الثنائي بحد ذاته بمثابة ذنب , لانه يزيل جزءاً من الحياة الانسانية التي حددها الله , فانه لاتزال نتيجته سيئة في التطوير الذي يؤدي الى توسع متقدم للجانب العلماني للحياة على حساب الجانب الروحي . وفي نهاية هذا الطريق كما يراه المسلمون التقليديون انه يمثل صورة طبق الاصل لما هو عليه الدين في الغرب : خضوع لجميع المساعي الانسانية تجاه الاهداف المادية والاذعان الكامل المقابل للدين والمباديء الاخلاقية التي يعلمها الغرب .
يرتبط بهذه الفكرة ارتباطاً وثيقاً , الاقتناع الذي غالباً ما يواجه , بان العرب بسبب ديانتهم المسلمة , هم ( روحانيون ) بينما الغرب غير المتدين , هو مادي وغير فان . وهذا الاعتقاد في (روحانية) العالم العربي , غالبا ما يواجه اليه الانتقاد وحتى يسخر منه المفكرون العرب . ومنذ عدة عقود من الزمن  صمم عدد من الكتاب العرب الشباب على الاقتباس والتبشير بالفكرة الغربية , كما بينها الكاتب خالد محمد خالد : ان السبب الجوهري للتفكير بالاقتباس من الغرب , هو الاعتبار الخاطيء يكون الشرق مصدراً للروحانيات , وانه يجب ان يبقى هكذا وليس شيئاً اخر , وان استيراد المباديء المادية خطأ فاحش لا يليق بماضي الشرق وتقليد الشهامة والمروءة .
وبعد هذا التهكم الموجز من قبل خالد , يعود ويستفسر : وماذا عن منجزات التقنية الغربية؟
ان الخوف من ان العالم الاسلامي قد يسير قدماً باتجاه المادية الغربية المهلكة يعبر عنه (فزلور رحمن ) , اللاهوتي المسلم الحديث والمثقف ثقافة غربية ومدير معهد البحوث الاسلامية في كراجي . ويقول الدكتور ( رحمن ) بان العديد من المسلمين يجادلون او يشعرون بان : المسلمين اساساً وبشكل ثابت , هم روحانيون , واما الغرب فهو مادي تماماً وان كل ما على الشرق ان يقوم به لكي يتطور هو ان يستعير المهارات التقنية المادية من الغرب , وسوية مع الروحانية التي يملكها حالياً , فأن كل شيء سيكون جيداً  .
وتؤدي هذه المناقشة الى نتيجة خاطئة عن الشرق تتضمن خلق شعور خاطيءعن المسالمة الوداعة والتفوق في الدوائر المحافظة والى تطور ما يدعى بالمثقفين بالثقافات الغربية,في شكلها المادي المخيف والمتمثلة بصعوبة التمسك بالضرورات الاخلاقية مهما كان نوعها … ومقابل هذا التطور ومقابل المادية الشيوعية , فان الروحانية القديمة للإسلام قد اصيبت بالعدوان .ان المسلم على وجه الاجمال , هو المثقف المجرد من الصبغة الدينية , وهو يتكلم عن (( المجتمع الجديد)) , وفي أي وقت يراه مناسباً فأنه يستثمر وبدون تردد اسم الاسلام . وهذه الملاحظات جيدة ومثمرة بالنسبة للعالم العربي كماهي مفيدة بالنسبة للباكستان , وهي ترمز الى مكانة المثقفين العرب المسلمين المحافظين (المتمسكين بالتقاليد),وحتى المحافظين باعتدال منهم حول تأثير الغرب على الجانب الديني .

* المقاييس الغربية والفوائد العامة
وبالنسبة الى المخاوف الاسلامية تجاه الغرب والاخذ باساليب الحياة الغربية فان اولئك الذين ينظرون الى نتائجها نظرة غربية , يحصلون على الانطباع بحصول سلسلة من التبدلات الواسعة والنافعة ذات الاوجه المتعددة التي سببت حصول تحسينات كبيرة في حياة الفرد العربي الاعتيادي . وبقدر ما اعرف لايوجد أي كاتب عربي أثنى بدون حدود على ما يعنيه الاخذ باسباب الحضارة الغربية .  وعلى أية حال , فان بعض المحللين قد ذهبوا الى حد انهم سجلوا , جنباً الى جنب , مساويء الغرب التي ادخلها في عالمهم العربي والفوائد التي جناها العرب من اتصالهم بالغرب . ودعنا نذكر من بين هؤلاء المحللين , محمد كرد علي مؤلف كتابه الموسوم الاسلام والحضارة العربية المنشور باللغة العربية سنة 1934 .
وقد سجل في هذا الكتاب الملامح الايجابية التي تبناها الشرق أي التي تبناها العرب من الغرب . وهذه الجوانب بالنسبة له , هي : معنى ارض الاجداد والوطنية , ويضمن ذلك الاشكال الغربية للمؤسسات العامة كالبرلمانات , والمحاكم القانونية الخاصة وما شابه ذلك والطباعة والصحافة والتراجم من الادب العربي , وبضمن ذلك الروايات الاوربية والمنجزات العلمية ,وبعض العلوم مثل الأقتصاد والطب وما شابه ذلك ونظام التعليم المتطور . وفضلاً عن ذلك يقر الكاتب محمد كرد علي بالاعتراف التام بتطور التقنية الغربية وخاصة في مجالات الزراعة والانتاج الصناعي والطب والنقل والعلوم العسكرية والادارة , وما شابه ذلك . ويقترح الاخذ بهذه الجوانب ويؤكد على انه ليس هناك بأس من تقبلها جميعاً من الغرب لانه ((في الوقت الذي كان فيه العرب متقدمين , اخذ الغرب منهم كل ما كان بوسعهم ان يستفيدوا منه . والان جاء دور الغرب في ان يعيدوا الينا ما تعلموه من اسلافنا سابقاً وما أضافوا اليه وفقاً لتقدم العصور )).
وليس هناك من شك في ان تاثير الغرب لم يحدث تغييرات جوهرية في جوانب عديدة من الحياة في الاقطار العربية , ولكن العرب اجبروا ايضاً على اتخاذ نظرة جديدة كلياً تجاه العالم والحياة, وبشكل خاص على العلاقات بين الاشخاص . وفي غضون القرنين او القرون الثلاثة الماضية , طور الغرب عدداً من البديهيات الاساسية والتي ماان يصبح العرب متكيفين معها , فانها سوف تبدو اليهم كذلك باعتبارها بديهيات ولا تحتاج الى برهان . ويستطيع المرء ان يبين عموماً بان العالم العربي قد قبل بدون نقاش تلك الجوانب المفهومة في الغرب بمصطلحات خاصة مثل التعليم العام والامن الجماعي والاساليب الديمقراطية .
ان تلك الاقطار العربية , التي تتميز بصغر مساحتها وقلة نفوسها , ويزودها النمو المفاجيء لعوائد النفط بدخل كاف , قد تحولت الى دول غنية بنفس المفهوم الغربي الذي يتضمن في النهاية , ادراك المثالية في الفوائد العديدة في جميع مجالات الحياة الانسانية.
ولو ان نفس الدخل قد تم الحصول عليه قبل مائة سنة , فانه سيجد طريقه نحو خزانات الحكام ويبقى السواد الاعظم من الشعب يعيش تماما بنفس الطريقة المزرية التي اعتادوا عليها سابقا . واما في الوقت الحاضر , فليس هناك شك في ضرورة منح الشعب باستمرار تلك الفوائد الجمة المطلوبة للحياة العصرية وفقاً للتفكير الغربي . وفي تلك الاقطار العربية التي لا يسمح فيها الناتج القومي الاجمالي بمثل هذه الرفاهية 99% من كل العرب يعيشون في مثل هذه الاقطار تبنت الحكومات , سواء اكان توجهها السياسي اشتراكياً ام محافظاً تطبيق الفوائد المثالية العديدة وبذل الجهود لرفع مستوى معيشة الشعب . وفضلاً عن ذلك فان معظم الحكومات العربية قد تبنت عادة تقدم اقطارها بالمعيار الغربي لمقارنة مثل هذه الفوائد العديدة وليس بالمقياس المحلي التقليدي الانجاز .
وعلى سبيل المثال فانهم يظهرون احصائيات الزيادة في النسب المئوية للاطفال الذين يدخلون المدارس الابتدائية (والتي ادخلت فيها حديثاً المبتكرات الغربية ) وليس النسب المئوية للاطفال الذين يدخلون في (الكتاب) او مدارس القرآن التي كانت بمثابة القاعدة الاساسية للتعليم العربي التقليدي لعدة قرون خلت . وبغض النظر عن قلة من التقليديين المحافظين المتطرفين لم يشك أي شخص في الرغبة لتطوير التعليم الابتدائي العلماني على حساب الكتاتيب . كما لم يشك أي فرد في ضرورة الحاجة لتدريس جميع الاطفال , وعند الامكان , البالغين الاميين , كيف يقرأون , ويكتبون , بالرغم من ان فكرة التعليم الابتدائي الالزامي العام هو تطوير غربي حديث اصيل .
وقد يعارض العرب بصورة خاصة , ادخال هذا النظام في اقطارهم  مبررين ذلك بالاشارة الى عصرهم الذهبي الذي توصل فيه عدد قليل من الاشخاص المتعلمين الى مستويات استثنائية لم يتجاوزها الاخرون من الشعب غير المتعلم على الاطلاق تقريباً.
وبالرغم من هذه السابقة الكبيرة في تاريخهم فان جميع القيادات العربية ومعظم الناس تبنوا بشكل مطلق وبلا احراج , الفكرة الغربية حول اهمية معرفة القراءة والكتابة والتي اصبحت ضرورة عليا , بالرغم من قلة قيمتها الفعلية بالنسبة الى القبائل البدوية الرحالة التي ترعى الابل .
انني لست من المتحمسين الى عدم توقف الجهد العربي عن نشر تعلم القراءة والكتابة ولكنني ارغب وبشكل مجرد , ان اشير الى انه في الماضي كانت معرفة القراءة والكتابة مهارة متخصصة , شأنها في ذلك شأن تلك المهارات الخاصة بصانعي السيوف او المشتغلين في الاعمال النحاسية مثلاً , بينما تعتبر القراءة والكتابة من وجهة النظر الغربية , ضرورة وواجباً بالنسبة لكل فرد , وان الغرب قد وضعها موضع التنفيذ دون مناقشة للافتراض النظري الذي ترتكز عليه هذه السمة بالنسبة للحضارة الغربية .
ان هذا المثال , والذي يمكن ان تضاف اليه امثلة اخرى من جوانب الحياة المختلفة يوضح وجهة النظر التي تميز التقدير العربي للاخذ بالاساليب والحضارة الغربية والاستياء الشديد للعرب من وجود اقل ما يمكن من اثار السيطرة الغربية الباقية . ويشعر العرب بان الاعتماد الاقتصادي للاقطار العربية على الغرب , هو اذلال ومهانة بالنسبة لهم .
وفي الغالب يجري اتخاذ اجراءات صارمة لاستبعاد او ازالة ذلك الاعتماد . ويقبل العرب بالتفوق الثقافي الغربي في بعض المجالات كالتقنية مثلاً وعلى مضض منهم ويؤكدون في نفس الوقت , على تفوق العالم العربي في المضمار الروحي في مقابل ذلك . وقد تم الاخذ بالافتراضات الاساسية الرئيسية للثقافة الغربية , ولكن أي شك في صحة سريانها بالنسبة للعالم العربي , يقابل بالرفض . ولذلك فعند معارضة الغرب وغالباً بإظهار الكره له , يرى العالم العربي نفسه ويُقيمَها من خلال المنظار الغربي , فهو يقارن كل مجالاته في الانجاز مع مجالات انجاز الغرب , واينما يجد نفسه متأخراً عن الغرب , فانه يشعر بعدم الكفاءة في نفسه . وهذه هي ازمة العالم العربي في الثلث الاخير من القرن العشرين .

*الغرب المشؤوم
ان ما هو ذا اهمية حاسمة بالنسبة لفهم رد فعل العرب بالنسبة للغرب , هو ليس بقدر حقيقة ان التاثير الغربي قد غير أو انه في طريقه لتغيير حياتهم كلها ولكن بالاحرى هو انشغال بالهم بالاخذ باسباب وطرق الحياة والثقافة الغربية , ظواهرها و معضلاتها ، تحليلها وتقييمها , اعادة التاكيد لما هو جيد منها ولما هو رديء , والاقتراحات المنظورة الى ما ينبغي ان يقبل منها وما يرفض . وان المجالات الخاصة لهذه  المعضلات كثيرة جداً بحيث انها تحتاج الى تصنيف . وقد ترتب وفق مقياس متسلسل , بدءاً بآراء اولئك الذين يرفضون كل شيء يعرضه الغرب وانتهاءاً باولئك الذين يؤيدون بان كل شيء  يجب ان يقبل . ولكن بغض النظر عن الموقع الذي يتخذونه بالنسبة لهذا السؤال ، فأن  كل المفكرين العرب يتفقون تقريباً  بان الغرب مسؤول عن الركود العربي في العصور الحديثة . صحيح , ان قليلا منهم لديه صعوبات في تكوين ارائه وفي القاء اللوم على الغرب في كونه السبب في الركود العربي , والى تبرئة العرب من تحمل مسؤولية ذلك . وينتقد الكاتب الجزائري مالك بن نبي اولئك الذين يلقون اللوم على الغرب بسبب الشعور بالضيق العربي , ولكنه يؤكد ايضاً بان اوربا قد مارست غطرسة و تكبرا بجلبها العلوم الى بلاد العالم العربي , تلك البلاد المتاخرة فقط لان اوربا (( رمتهم الى الخلف )) . وكذلك فان انور الجندي وهو كاتب مصري حديث يقتبس بسرور بين عدة عبارات من المستشرقين الغربيين البارزين وقدرته الاصيلة على اغناء الروح الانسانية في كافة مراحل الحياة , ولكن بنفس الوقت يذهب الى حد يبرهن فيه على ان الاجانب المتخصصين في دراسة اللغة العربية وآدابها , يدبرون المكائد او الدسائس لاضعاف وتدمير الاسلام.
ويعرض الكاتبان فارس وحسين نفس الرأي الذي يجمع بين موقفين متناقضين عن دور الغرب في علاقته مع العرب . وينتقدان النظرية التي تلقي باللوم على الاستعمار الغربي في كونه هو السبب لهذه العلل العربية , وان ذلك مجرد خداع ذاتي , ويتمسكان بالقول بان المفتاح الذي يفتح الابواب امام تقدم العرب , هو التطوير الذهني الداخلي . ومن الناحية الاخرى , فانهما يذعنان الى الميل بالقاء اللوم على الاخرين بالنسبة للظروف المؤسفة التي يلاحظان وجودها في العالم العربي .
ويقصدان بـ (الاخرين) في هذه الحالة , بريطانيا وفرنسا . فهاتان القوتان الاستعماريتان دمرتا (الوحدة الجغرافية للعالم العربي ) وهما ((تسعيان لتدمير وحدته الاجتماعية والاقتصادية والروحية وحاولتا جهدهما المستطاع تاخير تقديمه. ولقد تحركا ببطء في مجال التعليم )). وبقدر تعلق الامر بالبريطانيين , فان (عرقلتهم للصناعة الوطنية , اتخذت اشكالاً عديدة ) . وانهم (عملوا على تنشيط الاقطاع في العراق وتعزيز اسسه ) وفضلاً عن ذلك (فباضفائهم على السكان القبليين امتيازات خاصة لا يتمتع بها سكان المدن وبالحفاظ على العادات والممارسات القبلية التي لا تتلائم مع المقاييس في المجتمعات المتحضرة ومع روح المواطنة الصالحة , ومع اساليب التمدن والتقدم , فانهم قد عرقلوا مواصلة التقدم ). لقد قام البريطانيون بذلك لان اهتماماتهم الرئيسي كان (ابقاء البلاد مجزأة وابقاء الشيوخ في نزاع دائم , والعمل على جعل الشعب الجاهز ….).
وكانت المحصلة الصافية لهذه السياسة (ان ظل اغلبية سكان العراق ,قبلياً وبدائياً مستبعدين من قبل شيوخهم ورؤسائهم , ولم يتعلموا القراءة والكتابة , وخيم عليهم المرض وسوء التغذية وحتى الجوع, وعاشوا عموما بمستوى منخفض من العيش ). ويستمر الكاتبان في تحليل السياسات الفرنسية المشابهة في تلك الاقطار العربية التي كانت تحت السيطرة الفرنسية .
وفي الغالب , عندما يقرأ اي كاتب عربي بمزية او بفضل للغرب , فانه يعرض نفسه الى انتقادات عنيفة من قبل الاخرين الذين لا يرغبون بالرضوخ والاستسلام بان الغرب قد عمل أي شيء جيد بالنسبة للعرب . فان احد الناقدين العرب لدى مهاجمته الكاتب ميخائيل نعيمة , يكرر بتاكيد مشدد بان ( الاستعمار الغربي هو السبب الوحيد لتفشي الجهل والفاقة والمرض , الاستعمار الغربي وحده ,هو المسؤول عن الامراض المتفشية في البلاد العربية والمأساة الدموية التي تدعى فلسطين ).
ولغرض معالجة واقع الاتهام بان الغرب مسؤول عن الركود والتأخر في العالم العربي فان الكتّاب والقادة العرب غالباً ما يلجأون الى ابتكار تصوير الحالة الراهنة الزاهية في البلاد العربية قبل التدخل الاوربي . فمثلاً من اسس العقيدة الوطنية المغربية المحافظة , ان ظروف القطر قبل الاحتلال الفرنسي كانت ممتازة وان نظام التعليم حتى بالنسبة للفتيات كان منتعشاً . وكان السلطان على وشك ان يقوم بانجاز الاصلاحات التقدمية والاخذ بالتمدن الحديث , عندما شل الاجانب يداه … وحتى ان مصير الاقليات الدينية تحت الحكم الذي سبق الحكم الفرنسي كان في حال يحسد عليها , كما هو الحال الاعتيادي تحت نظام حكومي اسلامي حقيقي .
وفي الخمسينات تخلفت هيمنة اجنبية مؤثرة في بعض اجزاء العالم العربي لتؤمن الاساس للمجادلة التي عبر عنها العديد من الكتاب العرب , بان فقدان (الاستقلال الكامل ) كان هو العامل المسؤول عن تأخر الحالة الفكرية العربية : فقط عندما لا يبقى أي اثر للتاثير الاجنبي مهما كانت درجته على الارض العربية يمكن عندئذ ان يكون هناك اي تقدم حقيقي ينسجم مع الخطوات الاقتصادية التي تخطوها الامم الاخرى . وفقط بنجاح هذا المسعى , سيكون العرب مؤهلين لتبوء مكانتهم الدولية الملائمة . ومتى ما تم التوصل الى هذا المستوى , فان العرب سيكونون عندئذ قادرين على اظهار المقياس التام لقدرتهم وعلى المساهمة في تقدم الانسان كما فعلوا في ايامهم الماضية.
وفي الوقت الذي لا يوجد فيه أي من الكتّاب العرب , الذين يكتبون حول العلاقة الداخلية بين العرب والغرب ويفكرون بان التأثير الغربي قد اثر في الحياة العربية بدرجة عميقة , فانهم يعبرون باراء غالباً ماتكون متضاربة بالنسبة الى الاهداف الواقعية التي يرغب الغرب في تحقيقها من وراء تحقيق عروضه ونشاطه في العالم العربي . وعلى اية حال فهناك قاسم مشترك لكل هذه الاراء : من القضايا المسلم بها , هو ان الغرب كان وما يزال له اهداف تتصف بالانانية وتنذر بالشؤم او النحس في تعاملها مع العرب .
وفي اوائل 1930 جرى التعبير عن الراي القائل بان الغرب قد غمر العالم العربي بنتاجاته الفكرية في مجالات الفلسفة والادب وما شابه ذلك , لاجل إغراق الروح العربية وبالتالي اضعاف الشعوب العربية .
وفي هذا الصدد , نشر مقال في صحيفة (الفتح) القاهرية جاء فيه : … قد يستعمر المتطفلون ,قلوب الرجال والنساء ذلك هو الخسران المبين والسقوط النهائي . ان الخطر الحقيقي يقترب منا ويقربنا من الحرب الروحية التي تشنها اوربا وتديرها بصورة منتظمة ضد روح الشرقيين عموماً , والمسلمين بشكل خاص , بمساعدة مؤلفاتها الفلسفية ورواياتها الادبية ومسارحها وافلامها السينمائية ولغتها . وان الهدف من هذا العمل المنظم , هو ذي طبيعة نفسية ، لغرض قطع اتصال الشعوب الشرقية بماضيها . وان الشيء الذي تخاف منه اوربا الغازية اكثر من أي شيء اخر , هو هذا الشعور بالماضي وادراكه والذي هو البداية لايقاظ قلوب الهنود والصينيين , وبشكل خاص , العرب … .
وهناك راي اخر يتهم الغرب بالقيام بعمل مضاد تماماً : التمسك عن قصد بالجوانب الفكرية للثقافة الغربية , واعطاء تقنيته وماديته و ( ألوهيته المزيفة  False gods) الاخرى للعالم العربي . وبهذه الطريقة يأمل الغرب ان يضعف العرب وذلك بابعادهم عن قيمهم الروحية التقليدية بدون تمكينهم من التعويض عنها بالقيم الغربية . لذلك , فان القوى الاستعمارية الاوربية احدثت انهيارا ثقافياً في العالم العربي . ويتمسك بهذا الراي شارل مالك وهو فيلسوف عربي مسيحي لبناني ذي السمعة الحسنة والمعتبرة حيث ذكر سنة 1952 بانه يتمكن المرء ان يبين بانه اذا كان هناك افتقار الى كل من الوحدة والى المسؤولية والاخلاق والمعرفة والحب في الشرق الادنى . والذي يعني بالنسبة الى مالك ,العالم العربي بشكل اساس , فان الشرق الادنى قد حصل عليها بدرجة رئيسية من الغرب . وفي مناقشة لمسألة الافتقار الى الفهم , فانه يشير الى ان الغرب لم يوفر البضائع ذات القيمة العليا في تقليده الايجابي ولكنه عرض الالهة المزيفة من الحضارة الغربية الحديثة : القومية والمادية والشيوعية .
وخلال سنة جرى التعبير عن فكرة مماثلة جدا من قبل الكاتب فايز صائغ الذي اكد على ان الغرب هو الذي يجب ان يوجه اليه اللوم بسبب عدم عرضه لقيمه الحقيقية انه يعدد بلاتو واكويناس وشكسبير وغوث ودستو يفسكي  والتي تمثل الشخصية الاصلية للغرب اكثر بسالة واكثر اقناعا …. . ولكون ان الغرب قد فشل في ذلك , فان العرب قد فشلوا ايضاً في وضع حد فاصل بين الغرب المستثمر دنيوياً والمفترض والاستعماري والاقتصادي من ناحية والغرب الموثوق به من الناحية الاخرى , وبالتالي رفضوا فرصة الغرب التي عرضها لهم من اجل تحريرهم وتثقيفهم وهذا يفضي الى الركود الروحي .
ويرى رأي ثالث بان الغرب قد حجب عن العرب , مهارته التقنية لاجل ان يبقيهم ضعافاً ويمنعهم عن تطوير انفسهم اقتصادياً . ومن بين الكتاب والمفكرين الذين يفكرون في هذا الاتجاه , هو عمر فروخ الذي يؤكد بانه يجب علينا ايضاً ان نكون متهيئين لنستخدم المعرفة العلمية والفنية التي حصل عليها الغرب  وذلك لكي نكون قادرين على المنافسة في هذا العالم الضيق من اجل الكفاح المادي والروحي . وكما راينا مسبقاً فان فروخ يتهم ايضاً المراكز العربية للمعرفة , والتي تقوم عن قصد بابعاد العلوم السليمة والعميقة والنافعة , عن متناول العرب , وبدلاً من ذلك , اغرائهم بدراسة المواضيع النظرية والمعقدة . وفي الوقت الذي يحجم فيه فروخ عن وصف الغرب بانه هو الذي يجب ان يلام بالنسبة الى الحالة التي تسود المؤسسات التعليمية العربية حالياً , فان مقصده يكون واضحاً عندما يقرأ المرء نفس الاتهام في كتابات الكتاب والمؤلفين العرب الاخرين الذين هم اقل تحفظاً .
 وفي مقالة بعنوان مستقبل الثقافة في المجتمع العربي بقلم الدكتور محمد كامل اياد , مدرس الفلسفة في كلية المعلمين العليا في دمشق ومؤلف لدراسات عديدة عن المعضلات السياسية والثقافية العربية يوجه الكاتب المذكور اللوم الى العرب ، لعدم استيعابهم و اقتباسهم اكثر مما قاموا به فعلا من منابع المعرفة والثقافة الغربية ، حتى وانه يؤنب العرب لانهم قد تخلفوا كثيراً عن الغرب في دراسة تراثهم الثقافي . ولكنه يستمر بعد ذلك , وبشكل مباشر في اتهام المستشرقين الغربيين بتعزيز الاهداف الاستعمارية . وبسبب هذه الاهداف الشريرة , يستمر الدكتور اياد بالتاكيد على ان العديد من هؤلاء المستشرقين الغربيين , قد استخدموا في الوزارات الخارجية للحكومات الغربية , بصفة محررين وناشرين بشكل مجد ومواظب ,لاعمال المتصوفين والباحثين المسلمين والهنود ومعززين او مشجعين الراي القائل بعدم وجود امل للمحافظة على الحضارة العالمية من الهبوط والكارثة, باستثناء العودة الى روحانية الشرق.
ولكن يجب على المرء ان لا ينخدع بمثل هذه الاراء والبيانات . فان اولئك المستشرقين الغربيين, كانوا كلهم جزء من مكيدة استعمارية واسعة , انهم يعززون الاهتمام ب((الثقافة الروحية)) للشرق لسبب واحد فقط : انهم متقصدون على ابقاء الشرق وبشكل خاص العالم العربي في حالة من السبات الروحي وهي الحالة التي تكون فيه كل طاقاته مركزة على اشياء روحية وغيبية , بحيث لن يكون للشعوب العربية الاهتمام والاستعداد ولا الطاقة لتعلم التقنية من الغرب . والتي هي الشيء الوحيد الذي له اهمية .
ولقد حاول الغرب , منع العالم العربي من التوصل بالضبط الى تحقيق الامور الحيوية في مجالات التقنية والعلم والصناعة والدعاية والتنظيم . وانه بصورة مدبرة , يثبط عزيمة العرب من تبني الثقافة الحديثة وبالتالي تحرير انفسهم من الهيمنة الغربية . وكان غرضه من ذلك , الاحتفاظ بمنجزات الحضارة الحديثة وحصرها بالامم الغربية , وجعل الشعوب الاخرى تتمسك فقط بثقافتها القديمة وتراثها الروحي .    وهذا هو السبب الوحيد الذي جعل الغرب يسند المؤسسات العربية التي ركزت على دراسة التراث الثقافي العربي , مثل علوم البلاغة وقواعد اللغة العربية والتصوف الاسلامي وما شابه ذلك . ولكنه لم يساعد العرب في تنظيم المختبرات والحصول على المعدات الفنية او انشاء مقاعد للادب المقارن والنقد الحديث وفن الرواية .
وهكذا يستمر الدكتور اياد في بيان هذا التناقض الواضح من خلال وصف كيف ان الحضارة الغربية خلال الخمسين سنة الماضية , قد غمرت العالم العربي بالمنتجات الصناعية اضافة الى قوانينه وايدولوجياته . وكنتيجة لذلك اقتبس العرب من الغرب اساليب وطرق صناعية جديدة ومخترعات وفنون معمارية وتخطيط المدن. وحتى ان العائلة وحالة النساء قد تغيرت تحت تاثير الغرب . ولقد ادخل الغرب الى العالم العربي , التمدن وانشاء طبقة عمل جديدة , وعمل على تقويض الاقطاع ورفع مستوى المعيشة وتحفيز الجماهير على المطالبة بحقوقهم . ويقول انه في هذا الاتجاه يجب على الدول العربية ان تندفع باتجاه تطوير اكثر , لان ما يحتاجونه للمحافظة على البقاء في هذا العصر المتسم بالمنافسة والكفاح هو الحصول على التقنية الحديثة والصناعات والتخطيط الاقتصادي والعلوم الحديثة .
ان نتيجة المناقشة التي توصل اليها الدكتور اياد بان الغرب قد شجع العرب بصورة متعمدة للتركيز على تراثهم الروحي لغرض ابقائهم في حالة من السبات الفكري ، تمثل النوع الرابع المختلف والجديد من سلسلة الاتهامات الموجهة من قبل المفكرين العرب ضد الغرب الشرير .
والاتهام الخامس هو ان الغرب يحرف ويشوه التاريخ العربي بشكل ماكر لغرض التقليل من كبرياء العرب واهتمامهم بماضيهم , الذي هو لوحده قادر على ان يلهمهم الاندفاع لتحقيق الجهد القومي العظيم . وقد عبر عن هذه الفكرة عبد الرحمن البزاز . ويؤكد هذا الكاتب والسياسي العراقي على وجوب ادراك ثلاثة اشياء قبل تسوية قضية القومية العربية والقضية الاسلامية :

1.    يجب على العرب ان يحرروا انفسهم من القوة الفكرية للغرب ومن مفاهيمه المستوردة  و يجب ان يفكروا بصورة مستقلة وباصالة حول معضلاتهم ومشاكلهم وشؤونهم وتاريخهم).
2.    يجب ان يعملوا بجد وباخلاص ليظهروا من جديد ماضي امتنا وان يكتبوا تأريخنا بطريقة علمية صحيحة لغرض استئصال هذه الصورة المشوهة , ولوضع نهاية لهذه الاحكام الجائرة ., ولتمزيق تلك الصفحات المظلمة والتي رسمتها اقلام المخادعين المتحيزين .
3.    يجب ان ننظر الى الاسلام باعتزاز كبير , وان نعتقد بانه يمثل الانعكاس للنفس العربية ولمصدرها الروحي الذي لا يستنزف … .
وكما نرى فان اثنين من هذه الظروف السابقة للتوفيق بين الاسلام والقومية العربية يتضمنان اتخاذ موقف مضاد للغرب ومضاد لما علمه الغرب للعرب . ومع ذلك , يبدو ان البزاز لم يدرك التناقض بين دعوته الى رفض المفاهيم المستوردة الغربية وطلبه بان يقوم العرب بكتابة التاريخ الخاص بهم بطريقة علمية صحيحة . ان فكرة كتابة التاريخ بطريقة علمية , هي فكرة غربية , تماماً مثل الطرق الحرجة الانتقائية لكتابة الوقائع التاريخية والتي بدونها لا يمكن عادة كتابة التاريخ العربي .

* الحقد على الغرب
لقد اشار الطلبة الغربيون , الذين يدرسون العالم العربي , الى الحقد القاسي الذي يشعر به العرب تجاه الغرب . وفي اواسط الخمسينات ,كتب ولفريد كانتويل سمث : ان معظم الغربيين ببساطة , ليس لديهم اية فكرة عن مدى عمق وشدة درجة الحقد وخاصة تجاه الغرب , الذي استحوذ على الفرد العربي المتمدن.
و بعد بضع سنوات ، في سنة 1955، قام برنارد لويس باجراء ملاحظة مشابهة تقريباً في الكلام عن الاسلوب والرغبة التي وحدت الكثيرين من العرب ان لم يكن معظمهم .
ولقد وجد بان الامتعاض من الغرب , والرغبة باغاظته عمداً واذلاله  اعطى تعبيرا بالغ التاثير ومقنعا من خلال صفقة ناصر للاسلحة الروسية في ايلول 1955 . في الفترة التي كان يسود فيها العالم الاساطير والخرافات كـان الغرب مصدر الشر كله . والغرب كيان واحد غير مجزأ … .
      ويستنتج لويس أن كل ذلك لم ينشيء فقط معضلات حقيقية ، من خلال التفكير الأقتصادي والأجتماعي والسياسي ، والذي أدى الى ظهور تلك المعضلات ، ولكنه أيضاً أنشأ شعوراً بنقص ثقافي .
      أن هذا التوضيح الذي أورده لويس ، لا يفسر لنا بعضاً من التساؤلات الجوهرية التي طالما ترد حتماً في أذهان الذين يدرسون العلاقة بين الغرب وباقي أجزاء العالم . ومن هذه التساؤلات : لمـاذا تتشابه الأمم والشعوب كافة في مواقفها المتسمة بالحقد والكراهية تجاه الغرب ؟ ولماذا يبرز لديها الشعور بالنقص الثقافـي عندما تقارن نفسها مع الغرب ؟ ولماذا أن هذه الكراهية والحقد والشعور بالنقص الثقافي تكون أكثر بروزاً وظهوراً بين العرب تجاه الغرب ؟
      أن اليـابانيين مدينون بالتأكيد الى الثقافة الغربية والتقنية الغربية ، كما هو الحال بالنسبة للعرب ، وفضلاً عن ذلك ، ففي الحرب العالمية الثانية ، كان اليابانيون يشعرون بتفوق الغرب المسلح الهائل بالنسبة لهم . وبعد ذلك تمكن الغرب من أحتلال بلدهم ، والذي أصبح محكوماً من قبل أمريكا لعـدد من السنين . ومع ذلك ، فليس هناك في اليابان أية دلالة تشير ، ولو حتى من قريب ، الى الحقد والكراهية التي يكنها الياباني للغرب ولا الى الشعور بالنقص الثقافي . أو ، خذ مثلاً الدول الأفريقية السوداء والعديدة والتي كانت مستعمرات فرنسية في الماضي القريب ، والتي ظلت من الناحية الثقافية ، فرنسية تماماً ، وحتى بعد حصولها على الأستقلال . فليس هناك حقد ولا كراهية تميز هذه الدول في علاقاتها مع الغرب عموماً ومع فرنسا بشكل خاص ، بحيث يمكن مقارنته مع ما موجود لدى العرب ، وكذلك الحال بالنسبة للشعور بالنقص الثقافي . وتصور الأن قضية الهند ، فقد كانت شعوب شبه القارة الهندية العظيمة هذه تحت سيطرة الحكم البريطاني لفترة قرنين من الزمن . وكانت علاقتهم مع بريطانيا خلال تلك الفترة ، مشابهة لعلاقة الدول العربية مع بريطانيا أو مع فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ، ومشابهة لحالة الدول الأفريقية الشمالية ومصر منذ فترة أقدم ، والى حين حصولها على الأستقلال . ومع ذلك ، يجد المرء في الهند وفي باكستان المسلمة ، قليلاً من الحقد والكراهية لبريطانيا والغرب ، ذلك الحقد الذي تتميز به الدول العربية . ولقد أستاءت الهند من تقسيم شبه القارة الهندية وأنشاء دولة باكستان التي أنفصلت ، تماماً مثل عرب سوريا أو العراق أو مصر الذين أستاؤا من تقسيم فلسطين وأنشاء أسرئيل في جزء منها .
      ومـع ذلك فأن تلك المعارضة السياسية في شبه القارة الهندية مع بريطانيا والغرب لم تؤد الى الحقد والبغضاء بدرجة مؤثرة ولم تنشيء شعوراً بالنقص الثقافي .
      أذن لدينـا هنا عدد من الشعوب التي كانت مستعمرة سابقاً ، والتي كان لجميعها تجارة متشابهة بدرجة كبيرة مع القوى الغربية والتي أصبحت جميعها في مواقف متشابه تجاه الثقافة الغربية الدخيلة والمهيمنة عليهم ، وأذا كان العرب لوحدهم يظهرون تلك الدرجة العالية من الحقد والكراهية تجاه الغرب ، وذلك الشعور بالنقص الثقافي والذي لوحظ من قبل كل المراقبين العرب والأجانب ، فأن السبب ، بشكل واضح ، لا يكمن فقط في التجارب والممارسات التي تعرض لها العرب في الفترة التي كانوا فيها تحت الأستعمار الغربي ولا فـي الفترة التي أعقبت ذلك ، ولكن أيضاً في جملة من العوامل المستلفة الأخرى .
      وعنـد بحث تلك العوامل الأخرى ، يجب تقسيمها الى مجموعتين : الأولى ، هي الماضي سبق الفترة الأستعمارية ، أو بدقة أكثر ، الطريقة التي عاش فيها الماضي في ضمير وشعور الشعوب في الفترة التي لم تكن خاضعة فيها للسيطرة الأستعمارية . والأخرى ، هي الشخصية النمطية (الشكلية) الخاصة بهم . وبالطبع ، فأن الأثنتين مترابطان مع بعضهما البعض . فالماضي ينظر اليه من خلال منظار الشخصية النمطية (الشكلية) . لذلك ، عندما تكون الشجاعة والروح العدوانية بالقدرة على القتال ، هي سمات وقيم مهمة في الشخصية النمطية ، فأن رؤية الماضي سوف تؤكد هذه السمات في التآريخ القومي . ومن الناحية الأخرى ، فأن الشعور بالماضي عامل مهم في تكوين الشخصية النمطية (الشكلية أو الظاهرية).                   وعندما يكون الماضي معروفاً ، أو يعتقد بأنه كان مشتملاً على عدد من الأنتصارات المجيدة ، فأن ذلك سيترك أثره على الشخصية النمطية وذلك بتوجيهها نحو تقليد الأساليب الموروثة والتي سوف تعزز سمات الشخصية مثل الروح العدوانية والشجاعة .
      وعنـد تطبيق هذه الاعتبارات على علاقة الشعوب التي تحررت من الأستعمار ، مع الغرب فأننا نجد بأن من بين جميع تلك الشعوب أن العرب لوحدهم قد ساهموا في الماضي بشكل مباشر ومتميز في التطوير الثقافي للغرب . وأن المتعلمين العرب ، الذين تتزايد أعدادهم سنة بعد أخرى ، يعرفون أنه فقط منذ عدة قرون ، كان الشعب العربي متفوقاً بالنسبة للغرب في جميع الميادين الثقافية والتي يفخر بها العرب في الوقت الحاضر . وفي دراستهم للسلالات البشرية ، يبالغ الكثير منهم في الدور الذي لعبته الثقافة العربية في تهيئة الأساس الصالح للانتفاضة الغربية الكبيرة التي أبتدأت في عصر النهضة الأوربية وكما أوضح ذلك ولفريد كانتويل سمث : يشعر العرب بأنهم أكثر التصاقاً بالمجد المبكر الذي يشير الى عظمة العرب المسلمين مما تشعر به أية جماعة مسلمة أخرى ، وهم يشعرون بأنشداد أكثر وشعور جارف بالحنين الى العهود الماضية . وأن الأحساس بعظمة الماضي وروعته مدهش جداً .
      وفـي مكان أخر ، يعلق سمث :- بعد سقوط العرب ، لم يعد الأسلام العربي مهتماً ولا مدركاً فعلاً للعظمة الأسلامية التي فقدها . فبالنسبة الى الاسلام العربي ، يعتبر سقوط بغداد في سنة 1258 ومصر في سنة 1517 (الأستيلاء التركي) ، مؤشراً فعلياً بأن التآريخ الأسلامي قـد وصل الى نهايته . لذلك فأن الغرب ، الذي هو حديث عهد في أكتساب الثقافة ، والذي يجب أن يتعلم منه العرب ، يكاد أن يكون في موضع يجلب الخزي والعار الى العرب الذين سبقوه أشواطاً عديدة في أرساء جذور الحضارة . والعامل الثاني ، هو أيضاً متعلق جزئياً بقضية المعرفة التآريخية والشعور التآريخي . وبالرغم من أن بعض المفكرين العرب قد أحسوا بوخزة أو لسعة بالنسبة لما يعتبروه تشويهات غربية للتآريخ العربي ، فأن العرب عموماً أدركوا أن معرفة الماضي الخاص بهم كان نتيجة للجهود الغربية بصورة رئيسية . والحقيقة هي أن العرب فقط من بين جميع الأمم ، في الفترة قبل الأستعمار ، يتمكنون من النظر الى أرتباطاتهم الخلفية الطويلة مع الغرب . فلقد واجهوا الغرب بصورة متكررة في المعارف ودحروه وأخضعوه الى حكمهم . وهذا ماحدث فعلاً في أسبانيا في أوائل القرن الثامن .
      وفـي أواخر القرن الثامن عشر ، وبعد أن أنتقلت قيادة (( بيـت الأسلام )) الى تركيا ، كانت أوربا الوسطى والجنوبية الى حد المجر تحت الهيمنة الأسلامية . ومن وجهة النظر التآريخية العربية ، ينبغي أن نتذكر بأنه عندما يأتي الأمر الى المواجهة مع الغرب ، فأن تركيا تعتبر أمتداداً للعالم العربي ، وأن الهزائم التي سببتها تركيا الى أوربا المسيحية ينظر اليها كأنتصارات للأسلام ، الذي كان العرب ولا يزالون هم المؤسسين والناشرين لجوهره ، حتى عندما أصبحت تركيا أداته للتهديد بأستخدام العنف . وفي رأي بعض الكتاب العرب المحدثين ، أن تلك الأنتصارات الماضية للعرب ، كانت بسبب التمسك بالايمان الأسلامي . ويقول محمد قطب ، عندما يتمكن العرب من أستعـادة عقيدتهم المنظمة فأنهم ، كمـا فعل المسلمون الأوائل ، سوف يدحرون الأمبراطوريات العظمى في العالم . لذلك ، يعتبر أندحار المسلمين ووقوعهم تحت هيمنة عدو ، كان في السابق أضعف قوة منهم ، أكثر ألماً بالنسبة للعرب ، من أمم كانت من خلال أتصالاتها التآريخية مع الغرب ، تجد دائماً أن الغرب هو المتفوق عليها في القوة العسكرية .
أن الأعتماد الأنفعالي للعرب على ماضيهم ، يتوازى مع رفضهم للغرب وما يمثله ذلك الرفض . وبسبب هذا الرفض ، فـأن : الأصرار الذاتي للعربي ، من أجل العمل لتحقيق دعوته ، يتخذ صفة فاعلة تقتصر عليه دون سواه ، وكلما أزداد دعم العربي لميله المضرب الذي يجده في نفسه ـ وفي ماضيه ـ بأعتباره الأساس الوحيد ليقظته الحاضرة وتقرير مصيرة في المستقبل كلما أزداد تقييده بدون أمل ضمن حلقة ضيقة يحصر نفسه فيها ، وكلما كان أكثر عدائية الى أن شكل من أشكال التفاعل الخلاقة مع الروح العربية والتي يسعى جاهداً لأن يطورها لنفسه .
      والعامل الثالث ، هو عامل الدين . فعلاً ، أن الدين سمة مهمة من سمات الموقف الخاص الذي يتخذه العرب ضد الغرب ، والذي ربما ينبغي أن يذكر في المقام الأول . وعلى أية حال ، فأن نفس الدين (أي الأسلام) ، تشارك به عدة أقطار أخرى والتي لا تبدى أية درجة متشابهة ، ولو من بعيد ، الى هذا الحقد والكراهية العربية ضد الغرب . ومن هذا الفرق ، يستطيع المرء أن يستنتج أن الأسلام لوحده ، بدون الشعور بالثقافة الماضية والتفوق العسكري على الغرب ، الذي تم التطرق اليه أعلاه ، هو ليس دافعاً كافياً الى ظهور الحقد القوي تجاه الغرب بين الأمم التي كانت مستعمرة سابقاً . وعندما يقترن الأعتقاد والتمسك بالدين الصحيح الوحيد ( والذي يشترك فيه جميع المسلمين ) ، بمعرفة الثقافة الماضية والتفوق العسكري في الماضي على الغرب ( والذي حصل عليه العرب فقط ) ، ينتج عندئذ تعزيز متساند للشعور المضاد للغرب كما هو موجود فعلاً بين العرب . وبين العرب فقط ، يمكن أن يبرز الأعتقاد بأن دينهم ، الاسلام قد ساعدهم في القرون المجيدة الماضية لتحقيق التفوق الثقافي والعسكري على الغرب .
      ولـذلك فعلى العرب أن يواجهوا الحقيقة المرة بأنهم في القرون الحديثة ، قد فقدوا هذين التفوقين . وعند أخـذ اعتقاد العرب فـي (القضاء والقدر الالهين) بنظر الأعتبـار فأن تبدل هذين التفوقيـن لمصلحة الغرب ، لا يمكن أعتباره من قبلهم ، سوى حادثة مقدر لها أن تحدث والتي تلقي الشك حول قيمتهم الحقيقة في نظرهم . وبالنسبة للمسلم التقليدي ، لا يمكن تصور معاتبته الله ولا حتى مساءلته عن أسباب حدوث ذلك التبدل في تغيير التفوق الى جانب الغرب ، وأن اللوم بالنسبة لهذا التبدل في التفوق ، يقع على عاتق العرب أنفسهم ، وبشكل أساس ، بسبب عدم مراعاتهم تطبيق القواعد الأخلاقية الدينية وعدم تطبيقها في الحياة أو بطريقة غير منطقية ولكنها أنفعالية وأكثر قبولاً فأن الغرب هو الذي يستحق اللوم بالنسبة لكل ما حدث للعرب .
      وممـا يثير الأستياء بشكل خاص ، هو العرض الغني للأعلانات الخارجية للتفوق الغربي في كل المجالات المادية والأقتصادية والتقنية والتنظيمية . وهذه الأنجازات التي تعرض بأستمرار ، أو كما يقول العرب ، يتباهى بها الغرب ، تعطيه قوة متفوقة عليهم .
      وهـذا الأمر يغيض العقل العربي بشكل خاص ، لانه كان يعتبر أن كل تلك العروض ثانوية بالنسبة الى القيم الصحيحة للمبادىء الأخلاقية والدينية والتي يعتقد بأخلاص ، أن الغرب بشكل مؤكد ، غير كفؤء بمراعاتها وتطبيقها فأن الغرب في نظر العقل العربي هو أدنى مرتبة بالنسبة للعرب المسلمين .
      ومـع ذلك فعندما يجدون بأنهم غير قادرين على مقاومة تقليد الغرب في كل الأشياء التي يعتبرها الغرب مهمة ، وقيامهم بهذا العمل فأنهم بشكل لا أرادي يتبنون مقياس القيم التي يعتقدون أنها مسندة من قبل الغرب ويتصاعد أمتعاضهم بسهولة ويتحول الى حقد وكراهيــة .
      وهنـاك عدد من السمات المألوفة الأخرى في الشخصية النمطية (الشكلية) العربية ، والتي تهيىء العرب لتقبل الموقف الحالي المضاد للغرب ، والتي لا توجد أو أنها موجودة بدرجة أقل في الشخصيات النمطية للأمم الأخرى التي كانت خاضعة للسيطرة الأستعمارية سابقاً .
      ومـن بين تلك السمات ، الميل الى المبالغة والتي لا تجعل العرب فقط يميلون الى المغالاة في التأكيد والتكرار بالنسبة لما يشعرون به تجاه الغرب ، ولكن في الحقيقة تكثف تلك المشاعر وتشددها أيضاً . والسمة الأخـرى ، هي الأحساس بالهامشية التي لا تسمح للعربي أبـداً بأن يفصل نفسه عن ثقافته وبيئته التقليدية ، تماماً مثلما يفعل الهندي المثقف ثقافة بريطانية .
      وعلـى عكس الياباني الذي يعد درجة متساوية من الأهتمام بكل من ثقافته التقليدية   والثقافة الغربية . وأن الهامشية العربية ، تجعل العربي دائماً منزعجاً ، وفي بعض الأوقات يمكن أن تتطور الى وضع حاد جداً ، وبحالة شعورية أو لا شعورية ، يلقي اللوم على الغرب . ومما له علاقة وثيقة جداً بهامشية العربي ، هو أجتماع (تكافؤ) النقيضين لدى العربي تجاه كل من ثقافته التقليدية والثقافة العصرية للغرب ، التي تجعل حقده وكراهيته للأخيرة ، أقوى كلما كان أنجذابه نحوها أكثر .
      ومـع ذلك ، فأن أحساسه البالغ ، بشكل متطرف ، تجاه الشرف هو عامل أخر يخلق فيه شكاً لا يستطيع أن يجرد نفسه منه ، وذلك عند محاكاته للغرب التي قد تؤدي الى حفظ قيمة نفسه ولكونه لا يتمكن من أيقاف تلك المحاكاة ، فأن الغرب سوف يغويه بأتخاذ موقف غير مشرف . ومن أجل ذلك ، يجب أن يضاف ميل العربي في القاء اللوم على الأخرين الى العيوب والأخفاقات الخاصة بـه .
      وبمـا أن الغرب هو كبش الفداء المتيسر بسهولة أكثر ، فيجب أن يتحمل اللوم ، في نظر العربي ، وأن يترافى مع اللوم بصورة حتمية معظم الحقد والكراهيـة .
      لقـد تكلمنا لحد الآن ، عن القواعد النفسية للحقد العربي تجاه الغرب . وأن الشعور بالنقص الثقافي الذي يمارسه العرب في العلاقة مع الغرب ، يمكن أن يفسر بالرجوع الى القطب المضاد في الجمع بين موقفين متضادين والذي يميز موقف العربي تجاه الغرب . فأذا كان الحقد العربي تجاه الغرب يمثل القطب السالب لهذا الموقف المتميز بأجتماع النقيضين ، فأن الشعور العربــي بالنقص هو النتيجة لقطبيته الموجبة . وفـي الوقت الذي ينذر فيــه أعتراف العرب بـ (( حبهم)) للثقافة الغربية ، فأنها تمارس ضغطاً عليهم وأنجذاباً لا يمكن مقاومته ، لأنها تضم كثيراً من الأمور التي هم بأمس الحاجة اليها . أنه وجود الغرب بكل الأغراءات التي تحتويها حضارته ، وبكل القيم الجديدة التي قدمتها وبكل التحسينات الأصيلة في الحياة اليومية التي جعلتها ممكنة ، كل ذلك هو الذي أنتج فـــي العـالم العربي هـذا الشعور بالنقص الثقافي ، وكما عبر عن ذلك ولفريد كانتويل سمث ، أنه بالمقاييس الغربية ، يعتبر جميع العرب ضعفاء بالمقاييس المستوردة ، يتزعزع أعتداد العرب بأنفسهم . وأن الأندحار أمام قوة عظمى لا يقضي على الحرية فقط وأنما يظهر أو يذكر المرء بقصوره وعجزه .
      وكقـاعدة ، فأن الكتّاب والمؤلفين العرب ، لا يرغبون في التحدث عن حقد العرب تجاه الغرب وأن ما يفضلون القيام به ، بدلاً من ذلك هو أن يسطروا ويحللوا العوامل التي تخلق في العرب مقاومة التآثيرات الغربية . ولقد جمعت ولخصت توضيحات وتفاسير العرب حول السبب الذي يجعل العرب معادين الى الغرب من قبل وسبارمت في اوائل سنة 1932 .
      وبالنسبـة اليه ، فأنه يرى أن القاعدة النهائية لكن الأعتراضات تجاه الغرب ، هي (الحمى) الدينية أو (الغيرة) التي تؤجج العرب المسلمين ، والتي تشتق منها أو تستنتج كل أنواع الأعتراضات الأخرى .

* العـرب والأتـراك
      وأخيـراً ، في مناقشة البواعت النفسية للحقد العربي تجاه الغرب ، فأن السؤال الذي يجب أن يطرح هو : لـماذا يجري أختيار الغرب كهدف لحقدهم بدلاً من تركيا ؟ علماً أن البلاد العربية قد تعرضت الى الغزو والهيمنة الغربية لفتـرة أستمرت مائة سنة فقط ، بينما أستمر الأتراك في حكمهم للعرب حوالي أربعة قرون . وفضلا عن ذلك ، فأن النير التركي على أعناق العرب ، كان أثقل بكثير في وطأته مما فعلته القوى الاستعمارية الكبرى . ومن الناحية الأقتصادية ، فأن الأتراك أستنزفوا البلاد العربية ، وأعتبروا العرب شعوباً خاضعة لهم وأن دورهم في الحياة هو أن يدفعوا الضرائب الباهضة الى الأتراك وأن يخدموا في الجيوش التي كان ضباطها من الأتراك في الأمبراطورية العثمانية . وبمقابل هذه الخدمات كان الأتراك يعاملون العرب بأحتقار وأستخفاف ، وفرضوا عليهم قوانين صارمة ، وكانوا دائماً متهيئين لمعاقبتهم بأقصى العقوبات . ومع ذلك ، فعند أستعادة تطور الأحداث الماضية فأن ذكرى الحكم التركي القاسي الذي أستمر لمدة أربعة قرون ، يثير في العرب أمتعاضاً وكرهاً أقل بكثير من ذكرى الهيمنة الأوربية التي أستمرت لمدة مائة سنة ، والتي بالمقارنة كانت متميزة بالعنف والتحرر .
      أن السبب الوحيد لهذه الحالة (أختيار الغرب كهدف للحقد العربي بدلاً من تركيا) يكمن بدون شك ، في الهوية الدينية المشتركة بين الأتراك والعرب . فالسلطان التركي لم يكن فقط الرئيس الدنيوي للأمبراطورية العثمانية ، ولكنه ايضا كان الخليفة (الرئيس) الديني للعالم الأسلامي السني . وسواء رغب العرب أم لم يرغبوا بأن يروا الخلافة مسيطراً عليها من قبل السيادة التركية ، فالخليفة كان لايزال في نظرهم هو الوريث الشرعي للنبي (محمد) والذي يجب عليهم تقديم الطاعة اليه .
      ومهمـا كانت شدة المعالم والاعمال الوحشية المرتكبة ضد العرب من قبل ضباط الحكومة التركية والجيش التركي ، فأن السلطان ـ الخليفة ، بأعتباره رمزاً للأسلام ، لم يكن يستحق اللوم . وكان ذلك يعني أنه غير مسؤول ايضاً ، عن الاعمال الوحشية التي يقوم بها الأمراء الأتراك ، مثل أحمد باشا سيء الصيت ، والذي كان لقبه (الجزار) ، الحاكم المحلي لسوريا ولبنان لسنوات عديدة ، والتي أججت الحقد في نفوس العرب . وفي الوقت الذي كان فيه أسم (الجزار) ، الذي توفى في سنة 1804 ، لا يزال يذكر ((كمرادف للخوف والقسوة)) ، فأن الحقد والكراهية بالنسبة للأتراك عموماً ، حتى أذا كان شديداً خلال سوء الحكم وفساد الأدارة في البلاد العربية ، قد أصبح شيئاً من الماضي .
      وبمقـابل ذلك ، فأن القوى الأوربية كانت مسيحية . وكان المسيحيون بالنسبة للعرب ، كتلة بشرية متماسكة وغير متفرقة ، وتمثل العدو الكافر بالنسبة لهم . وبالنسبة للعقل غير المتعلم والذي كان دائماً يمثل الغالبية العظمى في (( بيت الأسلام)) ، فأن العالم المسيحي كله كيان واحد : وفضلاً عن ذلك ، فأن كل جماعة من المسيحيين ، كانت تعتبر ممثلاً نموذجياً للمسيحين . ومنذ القرن التاسع عشر ، فأن الأشخاص الغربيين الذين أستطاعوا أن يجعلوا من أنفسهم سادة للعرب ، كانوا من المسيحيين . وأدى ذلك بصورة حتمية بالنسبة للعرب أن يعمموا عداءهم وحقدهم وأن يشمل العالم المسيحي كله ، أو أن يكون الغرب جميعه هدفاً لأستيائهم وكرههم . وكان كل عمل عدائي فردي وكل ظلم خارجي ، حقيقي أو متصور ، يعتبر صادراً من الغرب المسيحي ككل . وبذلك يكون عاملاً مثيراً أضافياً يزيد الأمر سوء ويصعد الموقف العربي ضد الغرب .
      والمـلاحظة الأخرى ، التجارب التآريخية المختلفة التي كانت للعرب مع تركيا من جهة ومع الغرب من جهة أخرى . أنه القانون النفسي الذي يغذي الناس بحقد وكره ، تجاه أولئك الذين كانوا دونهم مرتبة في المجتمع في الماضي ومن ثم نجحوا في منافستهم بدرجة أكثر من الحقد تجاه أولئك الذين أثبتوا تفوقهم تماماً منذ اللحظة الأولى لبدء الصراع بينهم . وبقـدر تعلق الأمر بالغرب ، فأن الأتراك يمثلون النوع الثاني ، والغرب يمثل النوع الأول .
      ومنـذ أن أنشأ الأتراك العثمانيون حكمهم فــي الأناضول (بعد سنة 1300) ، فأن الصراعات العربية ـ التركية ، كانت تؤدي دائماً الى هزيمة العرب وأنتصار الأتراك . وبعد فترة قصيرة من التنافس غير الحاسم بين السلطان التركي والمصري في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر ، والمعبر عنه بنزاعات متكررة على الحدود بين آسيا الصغرى وسوريا ، تمكن الأتراك من أحتلال سوريا في سنة 1516 وأحتلال مصر في السنة التالية . وبعد ذلك ، ولفترة دامت أكثر من ثلاثة قرون ، ولحين ظهور القوى الأستعمارية الأوربية ، كان الأتراك بنظر العرب المدافعين الأبطال الذين لا يقهرون عن الأسلام ، وبنفس الوقت ، فأنهم قد ضغطوا على العرب بشدة جاعلين أقدامهم فوق أعناق العرب ، وأنهم أيضاً ضغطوا على الأعناق المسيحية بالسيف المنتصر لمحمد . ومثل هذا السيد الاعلى الذي قد يمتعض      منه العربي ويحاول أن يتمرد ضده ، فأنه بالتأكيد لم يكن يكرهه بنفس الشدة التي كان يكره بها المسيحي الكافر .
      وبشكل عام ، فأن نتيجة المجابهات المبكرة بين المسيحيين والعرب كانت هزيمة للمسيحيين . وقد ولد ذلك شعوراً لدى العرب بالتفوق وزيادة في أحتقارهم للمسيحيين .
      وعندما فتح العرب البلدان التي كانت محكومة من قبل المسيحيين ، سمحوا للأقليات المسيحية بالعيش في وسط المسلمين أو تحت حمايتهم أو بصفة مواطنين من الدرجة الثانية ، وتصور ذلك الشعور بالاستخفاف والأزدراء من قبل العرب المسلمين تجاه المسيحيين . ولعدة قرون خلت لم تتمكن أية قوة مسيحية من مجاراة العرب المسلمين . وكانت حدود التوسع العربي تتأثر بقوة الجيوش المسيحية بدرجة أقل من تأثرها بالمواقع الطبيعية وهذا يعني أن تآثير الجيوش المسيحية كان خفيفاً بالنسبة للتوسع العربي وغير قادر على أيقافه . بينما كانت الموانع الطبيعية هي الأكثر فاعلية في أيقاف ذلك التوسع .
      وعنـدما أنقلبت الأمور ، وتمكنت أوربا المسيحية من أزاحة العرب تدريجياً الى الخلف وخاصة منذ 1798 فما بعد ، أبتدأت أوربا المسيحية بغاراتها من أجل السلب والنهب في البلاد العربية . وأن الأزدراء المتغطرس الذي شب عليه العرب تجاه الروم (العالم المسيحي) قد تحول الى سورة غضب عاجز وبالتالي الى حقد مقيت متوحش .
       وهـذا أذن ، مثال كلاسيكي عن حقـد الجماعة الذي أزداد بالأنقلاب والتحول التـآريخي لميزان القوة . وأن مما لا يمكن التسامح فيه بالنسبة للعرب ، أن الجماعة الخارجية المنافسة (الخصم) ، هي ليست بذلك القدر من القوة الحقيقية والتي حصلت على اليد العليا في المنافسة وأن الظروف المحيطة هي التي ساعدتها في ذلك بعد أن كانت مضرة لأن تلعب دور كبش الفداء . ولم تحصل أية أنقلابات أو تحولات تآريخية يمكن مقارنتها بالنسبة للأدوار التآريخية بمقياس عالمي واسع بين أية ثقافتين أخريتين ، كما حدث بين الثقافتين العربية والغربية .

* مواجهـة المستقبل
      منـذ أن حرج العرب من عزلتهم في شبه الجزيرة العربية ، لم يحدث أبداً في تآريخهم الذي أستمر لفترة ثلاثة عشر قرناً ، أن واجهوا تحدياً قابلاً للمقارنة مع التحدي الذي يتمثل بمواجهتهم مع الغرب الحديث . وللمرة الأولى ، يجد العرب أنفسهم مجبرين على أتخاذ الحالة الدفاعية ، ليست من الناحية العسكرية ـ وهذا ما حدث في الماضي ـ ولكن من الناحية الثقافية .
      وعنـدما أنشأ الغرب أتصاله مع العالم العربي ، فأنه أسرع في البدء بدراسه التآريخ العربي والديانة العربية (أي الاسلام) والأدب العربي والمجالات الاخرى التي تشير اليها الثقافة العربية . وقبل ذلك بكثير ، استطاع الأجانب ، الذين درسوا اللغة العربية وآدابها (أو المستشرقون كما جرت العادة على تسميتهم) ، معرفة الكثير من هذه المواضيع وبدرجة فاقت أفضل المفكرين العرب أنفسهم ، بحيث أن هؤلاء (أي المفكرين العرب) أذا أرادوا أن يكرسوا جهدهم للبحث العلمي الجاد في التاريخ الخاص بهم أو في ديانتهم أو أدابهم ، فأن عليهم في المقام الأول أن يقرأوا الكتب والدراسات التي كتبها زملاؤهم المستشرقون الغربيون . ويفترض أن العلم والمعرفة ، لا يتحددان بأية جنسية أو قومية ، ولكن الكبرياء العربي لا يسعه أن يتجاوز الأذى النفسي لهذه الحقيقة .
      أن الأعتراف بتفوق التقنية الغربية وتبنيها ، لا تمس المشاعر العربية بسوء ، فالغرب قد تحصن بالتقدم التقني ولذلك فهناك مبرر لاستخدام مخترعاته وأبتكاراته ومعداته الآلية . ولكن أن يتعلم العرب من الغرب ، القصة الكاملة للأدب العربي والديانة الأسلامية والمجرى الكامل للتآريخ العربي ـ تلك المواضيع العديدة التي درست في مثل تلك المؤسسات والمعاهد العربية الجليلة كالأزهر والمدارس والجوامع المشهورة الأخرى ـ فهذا من الصعب التسليم به .
      وليـس مستغرباً ، أن بعض المفكرين العرب المحدثين ، بشكوكهم الوطنية المستفزة ، قد أتهموا المتشرقين الغربيين بكونهم قد عملوا لصالح الوزارات الخارجية للحكومات التي ينسبون اليها وبأنهم كانوا متعمدين في تزوير أو تحريف التآريخ العربي .
      ومـع ذلك . فأن المفكرين العرب الجادين التفتوا نحو الدراسات الغربية للتآريخ العربي والديانة العربية والأدب العربي وتعلموا منها الكثير . وأن أحد الأمور التي يسلمون بها ويعترفون بحقيقتها ، هو أنه في نهاية العصور الوسطى ، غط العرب في حالة عميقة من فقدان الحس والخدر بحيث أنهم قد ركدوا وصلوا في حالة من الوهن أو النعاس الثقافي الى أن تم أيقاظهم من قبل الغرب . وليس هناك من شك في أن المؤرخين والكتاب والنقاد الأجتماعيين العرب ، قد عرفوا بشكل جيد فكرة الركود العربي تلك . وفعلاً ، فأنهم كانوا أكثر نقداً للعيوب والمثالب العربية من المستشرقين الخارجيين أنفسهم . والأن ، بتأثير أسلوب العرض الغربي وتصوره للركود العربي ، عانى النقد العربي الموجه للعرب أنفسهم مرحلتين من التطور : الاولى ، أنه أصبح عاماً ، أي ليس موجهاً ضد جماعة منافسة معينة ، ولكن ضد الشعب العربي كله . والثانية ، أنه كان نقداً خاصاً ، أي موجهاً الى النقد الذاتي وشاملاً للقائمين بالنقد أنفسهم من الكتاب والمفكرين .
      ويعتبـر هذا النقد الذاتي الذي يحادد القومية ، هو التطوير الفكري المهم جداً والذي حدث في العالم العربي بتآثير الغرب .
      وبالطبـع ، فأن مسألة النقد الذاتي العربي ، لم تكن (ولا تزال) موجهة بدرجة كبيرة نحو أخفاقات الماضي بقدر ماهي موجهة تجاه مثالب وعيوب الحاضر . وأن ما هو أكثر مشقة وضجراً من الانحدار الذي بدأ منذ ستة أو سبعة قرون ، والذي كان له أسباب خارجية عديدة ، هو الأعتراف بحقيقة أنه في الوقت الحاضر ، وبعد مرور أكثر من قرن ونصف من الاتصال مع الغرب ، لا يزال العرب متأخرين كثيراً عن الغرب ، ثقافياً وأقتصادياً وفي مجالات أخرى ، والتي قبلوا بأهميتها بشكل مطلق من الغرب .
      لمـاذا ؟ لقد طرح هذا الاستفسار بتكرار متزايد وبقلة صبر … هل لا نزال غير متعلمين بدرجة متقدمة ، وضعافاً أقتصادياً ، وغير متطورين تقنياً ، مع وجود الكثرة من شعبنا ومعظمهم معرضين الى الأمراض والفقر ؟ .
      والجـواب : بأخذ العلاقة السياسية وعلاقة القوة بين العرب والغرب ، وبأخذ ميول العقل العربي الساذجة بنظر الأعتبار ، فأن الغرب بسبب انانيته المشؤومة ، قد سيطر على العرب ومنعهم من الحصول على المهارات الحيوية التي يمتلكها هو وحجب عنهم خبرته الفنية المكتسبة بالمران الطويل أو أنجازاته الفكرية أو كليهما .
      ومهمـا كان التفسير العربي الخاص بالنسبة للتخلف الثقافي العربي المستمر بالنسبة الى الغرب ، وسواء أكـان ذلك التفسير مقبولاً من قبل الغرب أم لا ، فأن العقل العربي يجب أن يعترف ، وقد أعترف فعلاً ، بأن الغرب يمتلك ثقافة متفوقة ، على الاقل نسبياً ، مقارنة بالثقافة التي حصل عليها من أجدادهم القدامى .
      ومهمـا كان رأي العرب بالنسبة لمواقف ونوايا الغرب ، سواء أنهم يعتبرون الغرب جنياً خيراً أو غولاً مرعباً ، فأن الأشياء التي يوفرها الغرب والتي يتمكن العرب أن يحصلوا عليها منه ، لا يمكن الأستغناء عنها .
      ومـع ذلك ، فليس هناك من يقلق بشدة ، من المفكرين العرب على الروح العربية ومن أنها ستكون هي الثمن الذي يجب أن يدفعوه مقابل الهدايا التي يقدمها لهم الغرب . أنهم يقلقون لمجرد أنهم يفكرون بما ينطوي عليه المستقبل من أن النتيجة النهائيـة لكل عمليـة تحديث ، والتي كل قطر عربي واحداً بعد الأخر ، سوف تكون سلسلة من دول عربية تختلف عن البلدان الغربية فقط في المحافظة على اللغة العربية كلغة لهم ، الا أنها ستضعف وتجرد ، بدرجة كبيرة ، الأسلام من تعاليمه السماوية كدين لهم ، وأما نحن الغربيون ، فقد لا نستوعب بشكل تام ، هذا النفور والأدراك المثار بواسطة هذه الدلائل المستقبلية في عقل العرب المسلمين المحافظين ، حيث يشعر الكثير منهم بأن الثمن سيكون غالٍ جداً ، ذلك الذي عليهم أن يدفعوه للقضاء على العيوب الأجتماعية وأدخال المرافق الغربية في مختلف مجالات الحياة العربية .
      ومـع ذلك ، فقد سبق السيف العذل . فهذه هدايا جني الغرب تجد طريقها بشكل تدريجي الى زوايا العالم العربي النائية جداً ، وأن المقاومة التي يواجهها هذا الجني ، قصيرة الأمد وضعيفة . أولاً ، أن تلك الهديا ، تبدأ بشكل طفيف ومن ثم تزداد شيئاً فشيئاً ، وبصورة محسوسة ، وتعمل على تغيير نظام الحياة العربية التقليدية .
      وأن ما هو أكثر أهمية ، هـو أنها تعمل على تغيير العقل العربــي . وجرت العادة على أعتبار كلمة (قديم) مترادفة مع (جيد) و (جديد) أو (الابتكار أو البدعة) مكافئاً الى (ردىء) أو حتى الى (مذنب). ويرمز هذا التقويم الى أسلوب حياة معين وحالة عقلية متعصبة ، بحيث أنه عندما يجري أدخال مبتكرات جديدة كالراديو والمضخات التي تعمل بقوة المحرك والتطعيم ضد الأمراض ، فأن العقل المتحدد بالتقاليد بشكل شديد ، يجد صعوبة كبيرة في أجراء تعديل ، بعيداً عن حساباته القديمة التي تعارض كل ماهو حديث بصورة عامة .
      أن (الجديد) ، يجب أن يعترف به على أنه (جيد) لكونه أفضل من (القديم) . وأن طريقة الأخذ بالحياة والثقافة الغربية والأسلوب الغربي قد أبتدأت .
      أن المعضلة التي يواجهها العقل العربي ، عندما يصارع صعوبات الأخذ بالثقافة الغربية والأسلوب الغربي في الحياة ، هي ليست متحددة في الترحيب بها أو مقاومتها . فتلك المعضلة منذ اللحظة الأولى فصاعداً (ويمكن القول منذ اليوم الأول الذي وطأ فيه نابليون بقدمه التراب المصري) ، هي معضلة نظرية ، قد تقررت نتيجتها العملية منذ الوقت الذي أصبح فيه العقل العربي مدركاً لها لأول مرة . ولقد أدى هذا الأرتباط التآريخي للظروف ، كما في جميع الأجزاء الأخرى من العالم التي تغلغل اليها الغرب ، الى أن يكون الأخذ بالثقافة الغربية وبأسلوب الحياة الغربية يجري بخطوات سريعة فعلاً ، والى أعتبار المقاومة الموجهة ضده كانت دون جدوى ، وفي الحقيقة غير ممكنة أساساً . وأن ماكان ممكناً ، هو التقليل من درجة الأخذ بالثقافة الغربية وعرقلتها ، وأما منعها من الأنتصار فذلك غير ممكن .
      أن المعضلة التي لا تزال مفتوحة أمام العقل العربي ، هي معضلة مختلفة وتتألف من عدد من المسائل ذات العلاقة المتبادلة . هل ينبغي على الأقطار العربية أن تنجح وتسهل تبني الأنواع المختلفة من الأنظمة الأقتصادية الغربية ، الرأسمالية أو الأشتراكيـة أو الشيوعية ؟ وبالمثل بالنسبة الى التنظيم السياسي :
      هـل يجب عليهم أن يسعوا لصياغة أنظمة حكمهم ودساتيرهم المنبثقة وفقاً للنموذج الديمقراطي أو الديكتاتوري المطلق أو وفق النموذج الذي يأخذ بمبدأ الحزب الواحد اليساري ـ الشيوعي ؟ ما هي تلك العناصر العامة فـي الثقافة العربية التقليدية والتي يكون من الضروري خوض القتال من أجل الحفاظ عليهـا ؟
      وبشكل متوالي ، بأية طريقة يمكن وينبغي أخذ الملامح والسمات الأقتصادية والسياسية والثقافية من الغرب وتكييفها بحيث يمكن أضفاء السمة أو الميزة العربية عليهـا ؟
      بأختصار ، في الوقت الذي نعترف به بأن أضفاء أو نشر الثقافة الغربية وأسلوب الحياة الغربية في العالم العربي ، هو أمر حتمي ، فمع ذلك لا يزال العديد من الخيارات الجيدة باق ، واعتماداً على الأختيار بينها ، سوف يعتمد المستقبل السياسي والأقتصادي والأجتماعي والملامح الثقافية للعالم العربي ، والشكل المستقبلي للعقل العربـــــي .

* المصدر :

الفصل السادس عشر من كتاب :-
Raphael Patai
The Arab Mind,
Charles Scribner,s son,
New York  1973

[email protected]