23 ديسمبر، 2024 5:46 م

التأثيرات اللسانية وعقدة الخواجة

التأثيرات اللسانية وعقدة الخواجة

ثمة حقيقة ثابتة بأن بعض اللغات قد أثرت في لغات أخرى،وساعد الأمر في تطوير لغات فقيرة افتقرت معاجمها إلى دفق المفردات وثرائها . وينطبق ذلك على اللغة الإنـكليزية نفسها،التي لايتعدى عمرها الألف عام،و التي اقتبست خلال رحلتها القصيرة على الكثير من مصادر فينيقية وشرقية”عربية أو آرامية” ثم لاتينية ثم اسكندنافية ، حتى أن تسمية بريطانية نفسها فينيقي فحواه مركب (بر – التنك)كون أرضهم كانت في سالف الأزمنة مكان توريد القصدير(التنك) من طرف الفينيقيين، وبعض المصادر تشير الى الأكديين، حيث يعتقد أن سركون الأكدي وصل في أوج عنفوانه في المائة الرخامسة والعشرين قبل المسيح الى هناك ومنه تعلموا أهل الجزيرة صناعة التعدين . وتأثر سكانها تباعا بالفايكنك بسبب التجارة والإحتلال،حتى تكاد الإنكليزية قبل ألف عام تتطابق مع الأسكندنافية. ثم حدث الإحتلال النورماني للجزيرة من فرنسا لينقل لهم اللاتينية التي كان لها جذور منذ الإحتلال الروماني لأجزاء من بريطانيا . وأستمر الإحتلال النورماني بين  القرنين الحادي عشر والخامس عشر الميلاديين وهو آخر إحتلال للجزر . وقد حدث إبان تلك الحقبة تماس حضاري بين الأندلسيين والإنكليز وحدث بعد سقوط الأندلس حيث هاجر بعض الموريسك من مسلمين وأقلية يهودية الى الجزر البريطانية وكذلك هولنده.لقد فضل الإنكليز إبان كل تلك المناخات والإنقلابات الاقتباس على الجمود الذي يفضله المتعصبون للغاتهم ، وأمست الإنـكليزية اليوم الأثرى والاوسع إنتشارا ثقافيا في العالم ويمكن أن نعزيه للحقبة الإستعمارية كذلك. ومن يقرأ معجم أصل المفردات يجد أن تلك اللغة التي ينتفخ الأمريكان زهوا بها ، هي محض هجين عجيب من مصادر شتى كما يقول المثل العراقي(من كل زيك ركـعة.  ).وأسمعنا يوما أحد العروبيين بوجود ثمانية عشر ألف كلمة إنكليزية من أصل عربي او محاك لها، وبعضها عنفت ولويت أعناقها كي تستقيم لمراميه .

لقد أسهم التأثير والتأثر بين اللغات في نشأة لغات أخرى كما الأردو أو السواحلية أو الفارسية التي تصل مفردات العربية في كنفها بحدود (50-65بالمئة)، حتى لنجد القوميين الإيرانيين يخجلون من ذلك ويدعون خجلا عكسه. وجدير بالرصد أن التأثير العراقي على الفارسية ورد قبل الفتح الإسلامي من خلال الاقتباسات المتراكمة من الأكدية والبابلية و الآرامية وبعدها من العربية إبتداء من أواخر القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي، فقد صاحب إرتقاء اللغة الفارسية نطقا وكتابة إعتمادها على العربية التي تحاكي الآرامية المتداولة سابقا(لاسيما خلال الحقبة الساسانية)، حتى أن كلمة (ديوان) واسعة التداول حتى في الفرنسية والإيطالية واردة من (دون) الآرامية.  وأمسى الاقتباس من العربية في بنيتها ذات جدوى،وذلك من أجل مواكبة اللغات الأخرى،والأمر أتى أكله بالأمس واليوم، فهاهم الإيرانيون مساهمون فاعلون في إثراء العربية من خلال دراساتهم الدينية واللغوية .ومن المفارقات أن صنف الغرب الإيرانيين (آريون)،لكن جل كلامهم (سامي)،ودينهم وتقاليدهم وآلهتهم وعقليتهم (سامية)، “إذا صحت تصانيف سامي وآري التوراتية الواهية” التي ظهرت اكثر من ستين نظرية تدحضها حد الذي جعلها نظرية لاجدوى منها. والأمر ينطبق على أكرادنا في العراق فأسمائهم ودينهم والتأثير الحضاري والعقلي  واللساني “سامي”، لكن متعصبيهم مازالوا متشبثين بأحجية “أريتهم” الواهية.

و يجدر الإقرار،وبحسب تجربتنا في المهاجر، بأن الإيراني”على العموم” لديه نزعة للاندماج مع الغربي اكثر من العراقي، وذلك بسبب ما أجبر عليه في تقمص الحلول الغربية لتحديث طرائق الحياة إبان مشاريع الدولة القجرية في القرن التاسع عشر، ثم سلطة رضا خان وإبنه محمد(شاهنشاه).والإيراني  مستعد لتغيير لونه وطبعه ولسانه في المهاجر أسرع من أي شعب آخر، بالرغم من صعوبة تقمصه لأية لغة كما العراقي، بالرغم مما يشاع دجلا ان لغته قريبة من اللغات الغربية. ومن الطريف ذكر فحوى نتائج بحث اجتماعي ونفسي قرأته في السويد، يذهب إلى أن اكثر من يندمج وينخرط في الحياة العقلية والثقافية السويدية من المهاجرين هم الإيرانيون ، وعلى النقيض من ذلك ، فأن اكثر التجمعات المهاجرة عنادا وتقوقعا ورفضا للثقافة واللغة المحلية في السويد هم العراقيون. ومن اغرب ما يسترسل به البحث بان اكثر العراقيين تمنعا لطرائق الحياة الغربية والمتشبثين بتقاليدهم العراقية هم العراقيون من أصل إيراني، وهو ما يدعو للعجب العجاب.
ثمة طبقة من المنبهرين أو ممن يعاني من عقدة الدونية  inferiority  complex، أو ما ندعوة عربيا (عقدة الخواجة)، يقارن بين اللغات ويزعم أن اللغات الغربية أرقى من العربية أو من الموروث اللغوي المحلي، وقد التقينا ذات مرة أحدهم أطنب في المديح للألمانية على حساب العربية التي كال لها النواقص والمثالب. وقد ذكرته بمقولة الملك فردريك الذي كان يكلم أولاده بالفرنسية، فسأله أحد أتباعه : مع من إذن تتكلم الألمانية يا سيدي؟، فأخبرهم متهكما: مع حصاني فقط.بما يعني أن الألمانية نفسها يعاني أهلها من دونية أمام غنج الفرنسية وشيوع الإنكليزية التي رفضوها حنقا ، ثم أستدركوا خطأهم اليوم . نقول هذا مع إقرارنا ان اللغات الأنكلوسكسونية أكثر حصافة وعقلانية من الفرنسية مثلا، وربما كان هذا سبباً وراء تقرب الإنـكليزية من الثقافة العربية أكثر من الفرنسية والعراقيون أقرب الى فكر بيكون عن ديكارت.فما زال بيكون التطبيقي(applying) يرتع في روح الإنـكليزية ، ويعطي الأمثلة المبسطة للمفاهيم. حتى لنجد شهادة من عالمنا الجليل إبن وحشية النبطي الآرامي الكوفي الكسداني صاحب (الفلاحة النبطية) نقلا عن سابقه الفيلسوف العراقي الآرامي قوثامي ، حينما دعا إلى العقلانية في الفهم والتطبيق، و جاء في كتابه هذا كثير من الأفكار والآراء الفلسفية والدينية والتاريخية التي تبدو اليوم أكثر أهمية من الزراعة في متنه، ومن مبادئه في هذا الصدد “إنني رجل أقول بالتجربة، فما صححته التجربة مشاهدة صححته، وما أبطلته التجربة المستقيمة أبطلته، وأرى أن التجربة أصل كبير من أصول العلوم النافعة والضارة”.  وعلى نقيض ذلك تقع سفسطة الفرنسيين وإسترسالاتهم المبهمة دون ان يعطوا الدليل والمثال.ومن الطريف أن الرعيل البعثي الشامي ومنه ميشيل عفلق يحمل تلك المنهجية (الصربونية) في الإيهام والإبهام والتجريد البعيد عن الفهم، حتى خاله “الرفاق” انه “فاهم” وكذا أرادوا ان يبينوا أنهم “فاهمون”!.

وفي السياق  نشير إلى أن كلمة (الألمان) في لسانهم هي (دويتش) ، وقد وردتنا بهذه الصيغة من الفرنسية أو الإيطالية من إصطلاح عم منذ فترة التعريب إبان مشروع محمد علي في مصر، إبتداء من عشرينيات القرن التاسع عشر حينما اعتمدت الإيطالية ثم الفرنسية،والكلمة تعني (كل الناسall-man) أو (الشعب). أما أسم الألمان في بعض اللغات كما في السلافية والبلقانية فهو (نيامتسneamt) أو (نمس) أو (نمت)،ومنها أخذنا في العربية  كلمة (النمسا) التي وردت من التركية كونهم يتكلمون الألمانية. وهذه الكلمة  تعني (الأخرس أو الأبكم)، وهو ما يحاكي كلمة (تيسك) الاسكندنافية التي تعني الساكت أو الألماني . وهذه التسميات التهكمية من قبل جيرانهم تقع تحت طائل العداء التاريخي بينهم . وربما يكون هذا سببا في اعتداد الألمان بلغتهم وجعلها المعيار لشخصيتهم وحتى جنسهم، ورغبوا في تمريرها على الآخرين.  حتى أنهم لم يقتبسوا المصطلح العلمي اللاتيني، ومكثوا يستجدون دائما ما يعود إلى مصادر من لغتهم ، وهم اليوم في ورطة من التواصل مع عالم يتداول المصطلح اللاتيني في الطب والكيمياء،وهو ما ورط السويديين معهم، حينما اقتفوا أثرهم و اقتبسوا منهم المبدأ والتطبيق، وهم اليوم يعانون ، بعدما غلبتهم الإنـكليزية ،وشرعوا يتداولونها في بحوثهم الطبية بإصطلاحها اللاتيني.ومن الطريف أن الأطباء اليهود في بولونيا في القرن 19 أشاعوا تداول المصطلح الطبي العربي رغبة في التميز عن الفرقتين الجيرمانية واللاتينية، وهذه الحقيقة تكشف مدى “دونية” مسيري العلوم في الثقافة العربية.
  وثمة مفارقات تعم أكثر اللغات اللاتينية شهرة وهي الفرنسية، حيث نلمس غضاضة في بنيتها . و وجدنا مثلا أنها تطلق ثلاث معان مختلفة على كلمة(poisson) وهي (مشروبسم سمك) بما يحاكي المعاني المتعددة لكلمة (بر) العربية. والأنكى أنه لم تحل مشكلة الترقيم بالفرنسية، فمازال رقم ثمانين يؤرق مفاهيمهم ولا يريدون استحداثه، ونجد بالفرنسية  أن الثمانين هو (أربعة عشرينات-كاترافان quatre-vingt)، والتسعة والتسعين هو أربعة عشرينات وفوقهم تسعة عشر(كاترافان ديس نف quatre-vingt dixneuf)،بما أوقعها تحت وابل التهكم على عقلية لم تنتج منظومة لبيبة ومقنعة بما يجعل الحكم على عقليتهم بالطفولية أو البدائية التي توقفت عند حدود العدد عشرين. والحال الحسابي ينطبق على شعوب أخرى مثل شعوب (الأبوريجين Aborigine) سكان أستراليا الأصليين الذين لايزيد الحساب عندهم أكثر من رقم واحد، وهو ما يكرروه مرات بحسب الحاجة للعد أو الرقم.والحال عينه ينطبق على قبيلة (هوبي) التي عثر عليها في بواكير القرن العشرين بأريزونا في أمريكا، وهم من حمولات الهنود الحمر التي انعزلت في بيئتها، وتسنى لها الإحتفاظ بثقافتها ولسانها.و الأهم هو عدم وجود إحساس بالعدد لدى هؤلاء القوم، فالأشياء غير قابلة للحساب، وبذلك فالزمن لديهم غير مقسم الى أجزاء، وغير مرتبط بالمكان. وقد درس ظاهرتهم عالم أمريكي يدعى(وورف) ، وكان مهتم بنظريات الألسنة، وفرق بينهم وبين المهاجرين الأوربيين الذين كانوا قد أكتسبوا في أزمنة سابقة هذه النفحات العقلية المنظمة للحياة البشرية.والأمر يهاجن بين ماهية الإدراك وعلاقته باللسان، كما قالها العالم الجرجاني: (الإدراك هو حصول الصورة عند النفس الناطقة).وهنا نلمس فضل الشرق القديم على الغرب عموما،وهنا نقع في ذروة الإستغراب من إختراع السومريين للنظام الستيني وريادتهم للتقاويم، وتقسيهم ايام الاسبوع التي مازال الصينيون لايعرفونها وليس لديهم يوم راحة( إيل-سبت) أي سبات الآلهة ويوم راحتها بعد التكوين في ستة ايام، وهو ما اصبح عند الغربيين اسم (إيليزابيت).وثمة من يجد في الاختلاف بين اللهجة والفصحى مثلبة ونحن نجدها مفخرة، أولها أن العامية حافظت على الموروث والثانية أنها تضطلع على أسلوبين للتفكير يساعد على تطوير ملكات العقل كما من يتعلم لغتين أو يعرف ثقافتين ،بالرغم من أن الفرق فيما بينهما بسيط وعند المثقفين يقل حتما، حتى تتطابق عند البعض.وثمة لغات كبرى تعاني الأمر عينه كما (السلانك) في الإنـﮔليزية أو (الآركو) في الفرنسية. ولولا جهود الشاعر( دانتي اليـكيري Dante Alighieri   1265-1321م ) لمكثت الإيطالية تكتب اللاتينة الأولى،ولا تتطابق مع واقع اللسان الإيطالي المحكي. على خلاف الفرنسية التي نجدها  تقضم نصف الحروف و لا تلفظ كل ما يكتب،ويعزوها إلى طمع (الأكليرس) أو كتاب الكنيسة من أجل الحصول على مبلغ مالي اكبر حينما كانت ثمن كتابة النصوص يقدر على كمها. وأحتفظ الفرنسيون”عنادا” بتلك الطريقة في الكتابة ، وهو ما عقد عملية تعلمها وكتابتها حتى على أهلها، لذا فأنها لغة سماعية أكثر منها مقروءة، اي ان التكلم بها أبسط من كتابتها،وبذلك فهي تكرس الأمية في فحواها أكثر من غيرها، كما حدث في المغرب العربي.

 وهنا نشير إلى حقيقة أن  لا توجد لغة في الدنيا استطاعت حل مسالة الكتابة،والسبب يعود لتعدد اللهجات في اللغة الواحدة ، يصل بعض الأحيان بين حي و حي و مدينة إلى أخرى، بما يجعلنا نقف مع لهجاتنا ولغاتنا موقف المنصف الحصيف .و لا توجد لغة في الدنيا إلا صنفان إحداها مثقفة وأخرى عامية، لذا فمن يتعلم إحدى الألسنة، لاتينية كانت أم سلافية أو جيرمانية، كأكبر تجمعات لغوية في الغرب فانه يفهم البقية. وبتجربتي المتواضعة مع اللغة الرومانية ،أظن بأني أفهم لغة الإعلام والأخبار والتعليقات المكتوبة باللغات اللاتينية الأربع الباقية ولاسيما الأسبانية والإيطالية أكثر من أن أفهم متكلم مستطرق.
 يكفي العربية رسوخا أنها تكتب وتلفظ كل الحروف والأهم أنها واسعة الانتشار فبين المغربي والعراقي لا صلة تواصل إلا من خلال تلك اللغة التي لو قورنت بالمسافة الجغرافية بين صقعيهما  مع أوربا لوجدنا العجب العجاب.وهنا جدير ان نشير الى ان عربية العراق قريبة من عربية ليبيا وموريتانيا و(الحسانية) اكثر من المصرية الشمالية إذا إستثنينا الصعيد الذي يقترب كثيرا من اللهجات العراقية. ونذهب الى ان المصرية شكلت فاصلا وحاجزا غريبا في التواصل اللهجوي بين المشرق والمغرب، بما يثير فينا الفضول لدراسة الظاهرة.

وثمة  خصوصية في العربية تدعى  علم الحساب اللغوي العربي تخص قراءة النصوص بشكل صحيح . والفرق فيما يدعى”اللغات السامية” فأن بها ( تشكيلا – أصواتا ) لا تكتب إلا للمبتدئين  ولكنها تقدر تقديرا عند المتعلمين ،  حسب المفهوم و المعنى للجملة ، بينما اللغات الغربية تكتب عددا من ( الحروف – الأصوات )  التي لا تقرأ عند المتعلمين  وتدرس للمبتدئين، فنرى التلميذ وهو محتار من سبب وجود هذه الحروف في الكلمة رغم إنها لا تلفظ ابداً . ما يجعلنا نستنتج أن في نظام كتابة اللغات الأوروبية نقص حاد على عكس ما يدعيه البعض منا.لذا فإن الفرس كانوا أكثر فطنة من الترك حينما بدلوا كتابتهم التي لم تستقم حتى اليوم بالحروف اللاتينية بالرغم من الدعاية والترويج التي تحيطها، والأمر ينطبق على الكرد في العراق الذين وصلوا إلى قناعة بأن الكردية سوف تعاني الكثير إذا لتنت حروفيا في محيطها العراقي أو الإيراني أو السوري، الذي يشكل الغالبية، حتى لو أسلمنا أن ميراثها التدويني مستجد وشحيح ولا يعول عليه.