استهلال:
” ليس الإنساني مجرد جزء بسيط من الطبيعة المطبوعة قديما بل هو تاريخ إبداعي لعين الذات وإعادة تشكيل للكون: بالأحرى الطبيعة القديمة تدخل في تاريخ البشر وفي حميمية حياتهم.”1[1]
لقد اهتم بول ريكور بموضوع البيوإيتيقا إبان ظهورها في تاريخ الأفكار في مقالات متفرقة وخاصة في كتاب “عين الذات غيرا”2[2] وفي كتاب “العادل1″3[3] وفي قراءات2 حينما تناول مسألة العلاقة بين فلسفة البيولوجيا والإيتيقا عند هانس جوناس4[4]. ولكنه خصص لها حوارا كاملا مع جان بيير شانجو طبع فيما بعد في كتاب بعد تعديله تحت عنوان: ” ما يجعلنا نفكر: الطبيعة والقاعدة”5[5]. ولقد دار الحديث أنذاك حول إمكانية تجاوز التعارض بين الخطاب العلمي والخطاب الأخلاقي وجرى البحث عن خطاب ثالث يصادر على وجود قواسم مشتركة وتبادل للخدمات ويتعامل مع مفهوم التمثل بوصفه الرابطة الحقيقية بين الذاتي والموضوعي وقد تمت الاتفاق على أن الأخلاق تظل صالحة لحماية المجتمع من المخاطر السلبية للعلوم والتطبيقات التقنية. كما وقع التطرق في هذا السياق إلى المشاكل الناتجة عن هيمنة الميديا وتردد حكمة المعاصرين أمام إحراجات الثورة البيولوجية واتجه الحوار نحو تشكيل لجان وطنية للإيتيقا الطبية والمهنية والبيئية تكون مهمتها النظر في الحالات المستعصية والتعويل على تظافر المنهجيات المتعددة.
من بين الإشكاليات التي أثيرت هي قدرة الفلسفة على التخلص من دغمائية البيولوجيا ونظرتها الوثوقية للمعارف الوضعية وتطبيقها الأعمى للنتائج العلمية وتوجهها النقدي نحو مواجهة التحديات التي فرضتها العلوم العرفانية cognitives وعلوم الأعصاب neurosciences. إذا سلمنا مع الشارح بيتير كامب بوجود أربعة مبادئ إيتيقية يجب أن يحترمها الإنسان للحصول على أسلوب حسن للحياة وهي السلامة intégrité والكرامةdignité والاستقلاليةautonomie والعطوبيةvulnérabilité فإنه يمكن التساؤل عن دور هذه المبادئ في ترشيد الحكم الطبي نحو العناية بالذات وتقديس حرمة الجسد الخاص وتوفير شروط حسن البقاء وأمل أطول في الحياة الجيدة والمنظومة الصحية المتكاملة والمتوازنة6[6].
من البديهي أن تهتم الإيتيقا بالحياة والوجود وتعتني بالذوات والمجموعات البشرية في اتجاه قهر التهرم وتحسين الطبع وتقوية المناعة والتقليل من التعرض للأمراض وتفادي الشر والعذاب والآلام وتفكر في منح الإنسانية وسائل إيتيقية مناسبة لحسن البقاء ضمن بيئة نظيفة وكوكب سليم من جميع الآفات والأوبئة.
على هذا النحو يميز بيتير كامب بين ثلاثة مستويات من الحكم الطبي في الإيتيقا الحياتية عند بول ريكور هي الحكم التحوطيprudentiel والحكم الأدابيdéontologique والحكم التفكيريreflexif 7 [7]. لكن ماهي ثمرات هذا الانفتاح من طرف الفلسفة على العضوي والحي والعصبي والعرفاني؟ هل كان الرهان من هذا الانفتاح المعقول هو تدبير المقصد الإيتيقي بالأساس ؟ أليس اللّقاء بين المعرفة والحكمة هو من المسائل الضرورية اليوم ؟ وما الفرق بين معرفة بواسطة الدماغ ومعرفة عن طريق الذات ؟ وأي غرض من توجيه التفكير الفلسفي نحو استمعان الوظيفة البيولوجية للجسم والدور العرفاني للدماغ ؟ وهل إدراك الذات من نوع إدراك العالم أم إدراك الأشخاص الآخرين ؟ وكيف يعقد الدماغ بين الفزيولوجي – الكيميائي والحالات الذهنية والتصوير العصبي؟ وألا تتبلور إيتيقا جديدة تقوم بإدراج المعياري في التاريخ الثقافي؟
مدار النظر هنا بالنسبة إلى هذا التفكير التعقلي في قيام الإيتيقا الكونية هو تجنب الارتكاز على أسس طبيعية وضعية قد تؤدي إلى العنف وتمكين الدماغ البشري من تفادي الالتباس والبساطة في وضع المعايير والأحكام وإنتاج خطاب ثالث حول المعرفة العصبية قادر على الفهم الأكثر حينما ينتج تفسيرا أعمق ويضع الإيتيقا بين الفلسفة الطبية وفلسفة الصحة وبين الايكولوجيا والسياسة الحيوية والبيئية.
يمكن وضع مخطط لهذا المبحث كما يلي:
– الإيتيقا الطبية وفلسفة البيولوجيا
– علوم الدماغ وفلسفة الروح
– الحكمة العملية والهيئات الإيتيقية
بأي معنى يمكن اعتبار الشغل الذي قام به بول ريكور مساهمة في قيام علم الصيدلة والفلسفة الطبية التي تجعل من الوقاية أهم من العلاج وتعتبر الحصول على الصحة العمومية حقا كونيا؟ وكيف يمكن التخلص من الداروينية الاجتماعية التي تسوق للبقاء للأقوى والصراع بين الأعراق والانتخاب الطبيعي في الحياة؟
1-الإيتيقا الطبية وفلسفة البيولوجيا:
” النجاحات الكبرى لفن العلاج يعود الفضل فيها إلى التطورات العلمية التي محركها الأول ليس تخفيف المعاناة بل معرفة أفضل بالعضوية البشرية”8[8]
لكي يقوم بدراسة العلاقة بين الطبيعة والقاعدة يعود بول ريكور إلى كتاب الفيلسوف هانس جوناس المعنون “مبدأ المسؤولية”9[9] وبدل تركيز جهوده على مفهوم العزوية ويقوم بتحميل الإنسان الفاعل والمتألم تبعة أفعاله الماضية يبحث في شروط الاستمرارية والبقاء على قيد الحياة في المستقبل بالنسبة للنوع البشري ويوكل مهمة تحديد مصير الحياة على الكوكب إلى الكائن العاقل ويعتبره المسؤول عما سيحدث للأجيال المقبلة ويتحرك ضمن هيريستيكا الخوف ويحذر من المخاطر المهددة للعالم بسبب تصحير الوجود وانعدام المعايير الضابطة للأفعال وتوجهها نحو الحياة الجيدة وسلامة الطبيعة10[10].
ان السبب الرئيسي الذي أدى بالبشرية إلى شعور بالخوف من المستقبل والوعي بالتهديد الذي قد يطال حياتها وقدرتها على المحافظة على كيانها وتعميرها للكوكب هي تزايد الأفعال الضارة بالطبيعة والنزاعات المدمرة والنمو السريع والهائل للتقنيات والعلوم والتفاوت بين الإمكانيات والأمنيات11[11].
لقد بان بالكاشف أن خطر الانقراض يحول الحياة إلى ضحية يخلفها الغباء المبرمج للآلات والوعي الأعمى للعلم ويتضاعف هذا التلف بتطبيق علوم الحياة بشكل مسقط على الإنسان والتلاعب بأعضاء الجسد بترا وزرعا واستبدالا وتخصيبا وتوليدا وبتصنيع الذكاء وتشريط السلوك بالانفعالات والغرائز.
لعل أكبر خطأ تقع فيه البيولوجيا الكلاسيكية منذ قيامها في القرن 19هو اختزالها هوية الإنسان في طبيعته البيولوجية والتحكم في الجينات الوراثية وإجراء التجارب لتهذيب الطبع وقهر الشيخوخة ومعالجة الأمراض المستعصية وهو ما يحول الكائن البشري إلى رقم في سجلات البحث وجثة هامدة على طاولة التشريح ويوقعنا في الخلط بين السوي واللاّسوي والطبيعي الموروث والاصطناعي المضاف وفي تفسير تصرفاته وأفكاره وميولاته وذوقه عن طريق قانون المنعكس الشرطي وثنائية المثير والاستجابة12[12].
غير أن ريكور يميز بين الحياة بالمعنى اليومي عند الإنسان العادي والحياة من وجهة نظر علوم الأحياء والحياة من منظور الفلسفة الميتافيزيقية ويدعو إلى ضمان سلامة الحياة كما يعيشها شخصيا كل إنسان.
لقد أكد هانس جوانس في كتابه الثاني المهم “فنومينولوجيا الحياة” الذي ظهر عام 1966 على أن الحياة تقول نعم للحياة وتمنح الإنسان الدافع الذي يقوي لديه الرغبة في الحياة ويجعله يبحث بقوة عن معنى الوجود في العالم وحاول بعد ذلك إدماج نتائج فلسفة البيولوجيا داخل الفلسفة الإيتيقية مستثمرا بعض الأفكار الرمنطيقية المتغنية بالطبيعة وبعض التصورات البيئية ومنقذا الحرية الإنسانية من سجن الحتمية العضوية والتصورات الميكانيكية التي تفسر انبثاق الحياة عن طريق حدوث تفاعلات فزيولوجية كيميائية.
إذا كانت فلسفة البيولوجيا تكتفي بملاحظة الظواهر الحية الجزئية في ظروفها الأصلية ومحيطها الطبيعي وتحاول تفسيرها عن طريق افتراض قوانين كلية وتقوم بمجموعة تجارب قصد التثبت من صدق استنتاجاتها فإن الإيتيقا تبحث عن تخليص هوية الإنسان من البنية الثابتة وتتيح الفرصة للروح لكي تفكر في الجسد وتحرز الاستقلال النسبي عن الميول والأهواء وتعترف للذاكرة بالأولوية على المادة وتشهد للكائن بالقدرة على التنظيم الذاتي ومقاومة نزعات اللاانسانية التي تلقي بالذوات في يم اللاّوجود13[13].
هكذا تضع الإيتيقا طبيعة الإنسان في مواجهة مصيره وتحمله مسؤولية اختياراته وتمنح فرصة المداولة والروية واتخاذ القرار والانجاز وتربطه بالرغبة في الوجود وتحيل القيم المستحسنة إلى ذاته عينها.
من هذا المنطلق ترتكز عملية إثبات الذات عينها على الصعيد الأنطولوجي عبر تغليب إرادة الحياة والرغبة في التعمير والبناء على إرادة العدم والرغبة في التحطيم وعلى الصعيد الإيتيقي بالسماح للحياة بالعبور نحو تحقيق غاياته والمحافظة على قدرات الكائن على الفعل وتقديم حكم القيمة على حكم الواقع.
كما أن إحساس الإنسان بثقل المسؤولية ناتج عن التصميم على مواجهته للتلف الذي يتعرض له الوجود والعطوبية التي تهدد الارادة والعرضية التي تستخف باستمرار التوالد وحسن البقاء في الكوكب14[14].
هكذا تقارن الايتيقا بين مسؤولية الإنسان على استمرار الحياة البشرية في الأرض ومسؤولية الرعاية الأسرية ومسؤولية الدولة السياسية وتوصي بتظافر الجهود من أجل العزو وبناء فن التحكم في الآتي[15].
ربما مسؤولية الانسان تجاه الإنسان تقتضي أن يلبي نداء الواجب وأن يتصرف بعيون الحكمة وعقل البصيرة وأن يتدبر معاشه دون الإضرار بغيره ودون تخليف الضحايا والإساءة إلى الطبيعة ودون أن يقوم بحرمان الأجيال القادمة من حقوقهم في التمتع بحياة جيدة في بيئة سليمة وكوكب مأهول بالبشر.
كما يجدر أن يعتني المرء بالعنصر غير البيولوجي الذي تتكون منه طبيعته أي الجانب الرمزي وأن يتم تصويب فكرة الحياة في اتجاه تحقيق إنسانية الإنسان بدل الاكتفاء بإبراز الجوانب اللاّإنسانية فيه16[16].
اللافت للنظر أن الكائن البشري يجد نفسه ممزقا أمام خيارين وهما المحافظة على الحياة في الكوكب من جهة وإنقاذ الحرية الإنسانية من الاغتراب ومداهمة العبودية واستبداد الحتميات. لكنه يكتشف أن الثمن الذي يدفعه للمحافظة على الحياة باهض ومكلف ويؤدي إلى بروز مظاهر العدم ومخاطر تصحر الوجود وإمكانية خسارة الأهداف الإنسانية وتعطيل مشروع إعداد الإنسان للإقامة في الكوكب وتأهيله من الناحية الإيتيقية لكي يتمكن من حراسة الكينونة والاعتناء بالكوكب وحماية الخير الخاص بالناس مستقبلا17[17].
والحق أن بول ريكور يتفادى الوقوع في خطأ الاختزال الأنثربولوجي للإيتيقا ويميز بين المسؤولية تجاه الطبيعة والمسؤولية تجاه البشرية ويقترح أن يعمل الإنسان على ظهور ذوات مقتدرة على تحمل المسؤولية الاجتماعية تتكفل بالتصدي للهشاشة وتوفر شروط تحقيق الإنسانية في المأهول في الأرض.
غني عن البيان أن الكرامة هي القيمة المركزية في المنظومة الإيتيقية التي انبثقت عن الفلسفة البيولوجية وأنها تعني معاملة الكائن كغاية ولا كوسيلة وذلك باحترام الغير وتقديره على نفس درجة احترام الذات وتقديرها والإبقاء على وضعيات حياة جيدة يستفيد منها الغير في المستقبل. يبدو التعويل على مبدأ الكرامة ناجعا لمقاومة كل اختزال لتعددية المواهب وتنوع الملكات وثراء التجارب التي تختزنها الطبيعة البشرية وللاعتراض على الاغتراب الناتج عن الاستغلال السياسي والاستثمار الاقتصادي للذات من طرف المجتمع الانضباطي والتأديبي وآليات الإنتاج الرأسمالي. إذا كان الإنسان الصانع هو محطم ماهر لغائية الطبيعة فإن الاستنجاد بالإيتيقا يعتبر أمرا مقضيا لإحياء التحالف القديم بينهما ووضع ضوابط للتقدم التقني وتنمية قابلية الاكتمال وواجب الوجود واحترام الإنسان سواء الموجود بالقرب من الذات أو الذي يتفق في حياته مع مبادئ الإنسانية18[18]. ولا يتعلق الأمر بتأسيس قيمة الخير في الكينونة فهذا يؤدي إلى افتراض وجود هوة بدئية بين الكينونة والخير وبين القيمة والواقع وبين المعيار والطبيعة بل يقتضي استهداف الوجود بدل اللاّوجود وتحقيق إنسانية الإنسان ونقل الرغبة إلى الفعل وترك الحياة تقول نعم للحياة19[19].
إجمالا، لقد وقع عمل هانز جوناس في حلقة هرمينوطيقية ضيقة تعتبر في البداية واجب الوجود هو الخير الأسمى وتعتبر بعد ذلك قيم المسؤولية والكرامة والحياة والإنسانية قيم جوهرية خاصة بالحياة البشرية.
علاوة على ذلك يعالج بول ريكور سنة 1997 الأفكار المستوحاة من الفلسفة البيولوجية عند الفرنسي الاخر جورج كنغيلام في كتابيه “السوي واللاّسوي” الذي ظهر عام 1943 و”معرفة الحياة” عام 1965. لقد ذهب ريكور إلى أبعد من مجرد وضع قواعد تفرض احترام كل كائن بشري دون تمييز وتطلع الى ما وراء فضيلة الصداقة وطالب بإيجاد مفهوم مميز للاحترام يوائم المريض والمصاب بإعاقة ذهنية وجسدية وذوي الاحتياجات الخاصة والكف عن التعريف السلبي لللاّسوي بوصفه مجرد مرض أي نقص بالمقارنة مع الكائن السوي افتراضيا والاعتراف باللاّسوي ككائن حي جدير بالاحترام بنيويا وإضفاء قيم ايجابية عليه. لكن ماهو الفرق المعياري بين السوي واللاّسوي؟ وكيف يعرف الحيّ؟ وما علاقة الحيّ بوسطه؟
لقد سيطرت نظرية المثير والاستجابة التي أتى بها العالم الروسي في الفيزيولوجيا بافلوف و طبقها عالم النفس السلوكي الأمريكي واطسن على المباحث الطبية التي تعالج السلوك البشري وتعاملت هذه النظرية مع الكائن الحي كمستجيب للمثيرات الخارجية تتغير ميوله العاطفية بحدوث حركية في الوسط الخارجي. غير أن ريكور يطعن في هذه النظرية منهجيا وتجريبيا ويشكك في تأثيرات الوسط ودور المثير وتفاعل العضوية ويصرح بأن ” الحي ، من حيث أنه مختلف عن آلية فيزيائية، إنما يقيم مع وسطه علاقة جدلية من الحوار والتفاهم”20[20]، ويدعو إلى ضرورة ترك العضوية تعرف ذاتها وسطها وتتجه إليه بشكل حر.
الجدير بالإشارة أن جورج كنغيلام عوّض كلمة الوسط بلفظي المحيط والعالم وأكد على العلاقة المزدوجة والمتلائمة والقيمة الحيوية والمعاني المتعددة للحياة على المستوى البيولوجي والاجتماعي والوجودي.لكن كيف تعرف البيولوجيا اللاّسوي؟ وما الذي يعطي الكائن اللاّسوي الحياة والوجود بالرغم من أنه لاسوي؟
تعمل الإيتيقا الطبية حسب بول ريكور القيام على التمييز بين الفيزيائي والبيولوجي وبين البعد القانوني والبعد المعياري وتؤكد على أن الفرد يتشكل في الحياة في تنوع كبير وعلاقته بالنوع تتضمن اللاّانتظام والشذوذ والقلق والارتباك ولكنها يمكن أن تكون علاقة عادية وتعرف النجاح والرفاه والسعادة والصحة.
غير أن مفهوم معيار الحياة ملتبس وإشكالي ويتراوح بين أن يكون المعدل أو المثل الأعلى، ولذلك يبقى تقويم الحياة عملا نسبيا وتظهر الحياة كمغامرة يعيشها الإنسان وتشهد الإخفاق والمحاولة وتمثل الصحة القدرة على مواجهة أشكال الاختلال البيولوجية والتشوهات الخلقية والاهتزازات النفسية والانحرافات الاجتماعية ومعالجة الأمراض والمخاطر والأوبئة والتهديدات الوجودية. كما أن الحياة الإنسانية ليست النمو والمحافظة على البقاء بل مواجهة المتغيرات والرد على الحاجيات في وضعيات مختلفة21[21].
هكذا يضع ريكور المرض كعقبة أمام الحياة وينفي وجود مرض في العالم الفيزيائي ويرفض وجود كائن انساني على قيد الحياة ولا يحتاج إلى الطب ويرى أن الانتقال من المرض إلى التعافي عن طريق العلاج بالأدوية والبحث عن الشفاء هو البحث عن شروط للمواءمة مع الظروف الجديدة في العالم الجديد الذي تعيش فيه الذات وعدم إجبار العضوية على الحياة في وسط غير ملائم وعالم ضيق وقاصر وناقص22[22].
والحق أن النظرة إلى اللاّسوي تتغير بتغير المعيار الذي يتبعه الإنسان في تحديد الفرق بين المريض الذي يعاني وبين السوي المعافى ويفكر في ترتيب العلاقة بين الحي ووسطه بوصفها علاقة تلاؤم وتكافؤ وتبادل الاحترام. فالقراءة السلبية ترى في اللاّسوي نقصا وقصورا في حين أن القراءة الايجابية ترى فيه كيفية أخرى للوجود في العالم له قوانينه الخاصة وتحكمه بنية مغايرة ويستحق المزيد من الاحترام23[23].
لعل التحقير الحيوي للمرض الذي اعتادت عليه البشرية ناتج عن الشعور الدائم بالتهرّم وتعرض المرء للخطر والتخوف من مداهمة الموت والإخفاق في التصدي للتوتر في علاقة مع الوسط والإسراع إلى العلاج والشفاء. بناء على ذلك إن السوي على المستوى الاجتماعي هو الفرد المستقل القادر على إدارة ذاتية لنمط حياته والاستجابة للمقاييس الاجتماعية للعيش المشترك مع ممارسته لوظائف اعتياديا24[24].
في الواقع أضحت مجالات الصحة والمرض والعلاج والشفاء والعذاب والسلامة من الأمور المعيرة اجتماعيا ومقننة من طرف الآخرين وتم الانتقال من المعيار الداخلي للحي إلى المعيار الخارجي للاجتماعي. لقد أدت الفوارق البيولوجية إلى تجاهل وإخفاء المعوقين واستبعادهم اجتماعيا وتحقير حيوي للنقص وقد تسببت هذه الدونية في توترات نفسية وتعكر الحالات المرضية وانتشار إعاقات ذهنية25[25].
كلما تقدمت الانسانية نحو كسب الخير والتأمين على الحياة والصحة والسعادة كلما صارت الظواهر اللاّسوية سوية وعادية وأصبحت الأمراض النفسية غير بعيدة عن بقية الأمراض العضوية وصارت الإقامة في العيادات بمثابة إقامة استشفائية مثل الإقامة في النزل قصد الترفيه والعناية بالذات26[26].
في هذا الإطار يقوم المريض بتعويض صفات القصور والإقصاء والعزلة بإرادة الحياة وروح المبادرة والموافقة المستنيرة على تلقي العلاج وإبرام ميثاق مع الطرف الطبي واقتسام السر والحرص على تحقيق الانتصار البطيء للدواء على المرض والتشبث بأمل الشفاء وتقوية الروابط العاطفية والوجدانية مع العالم.
يرفض ريكور ثقافة الاقصاء التي ترسم خطوط عزل بين الأصحاء والمعوقين ويدرج ذلك ضمن باب إثقال مسؤولية الفرد بأعباء جديدة ويعتبر ذلك بمثابة تسليط عنف جسدي وعقلي على الذات ويؤد ميشيل فوكو في إشارته على أن الحداثة لم تحرز انتصار العقل الطبي المستقل إلا على حساب إقصاء المريض اللاّمعقول واللامقبول ومعاملته بوصفه فاقد الصفة الإنسانية ويجب وضعه في السجن أو العيادة27[27].
هكذا يقر ريكور كما هو الشأن مع ميشيل فوكو في فكرته عن ميكروفيزياء السلطة التي ذكرها في كتابه مولد العيادة بوجود توازي خفي بين تاريخ السجن وتاريخ المستشفى وذلك لاشتراكهما في وظيفة العقاب والمراقبة وتحولهما الى مكان للعزل والازدراء والاستبعاد وينبه من إمكانية إصابة الإنسان بالمرض بسبب التخوف من الجزاء الاجتماعي والتهديد بالإقصاء والخشية من الجحيم الدنيوي وشيطنة الذات28[28].
لكن يمكن أن يتم تقويم الحياة على الصعيد الوجودي والاستدراك وذلك بأن يرجع الفرد لذاته ويقوم بتقويم نفسه عبر معايير شخصية وأن يحول حياته الى مشروع وينحت هوية شخصية يقذف بها في العالم29[29].
من هذا المنطلق لا يمكن تحديد نموذج صارم للحياة الجيدة عن طريق إحصاء معياري وإنما بواسطة المقاييس الذاتية للإنجاز واقتدار المرء على التعرف على ذاته وصناعة هويته الشخصية وبناء تاريخ حياة مفهوم ومقبول ومتناسق سرديا. وبالتالي يرتبط الاعتراف بالذات بتقدير غير الذات من خلال عمل التذكر والتأبين ويكون اللاّسوي هو الشخص الذي يخسر ذاته نتيجة الاكتئاب والاستسلام للحزن وفتور الهمة.
اذا كان الشخص السوي هو الذي يستهدف الحياة الجيدة وينجح في حيازة اقتدارات على الكلام والفعل والإلزام ويتسلح بشجاعة الكيان والرغبة في الوجود ويستمد تقدير لنفسه من توحيده لعمل الذاكرة والتأبين وربطه بين استحضار الماضي في التعرف على ذاته وتعيين مشروع يستشرفه في المستقبل ويعد به فإن اللاّسوي هو المستسلم للكلل والحزن واليأس وانعدام الرجاء والذي يمزقه الاضطراب النفسي والمريض إلى حد الموت بالعصاب والذهان والخوف من المستقبل والذي يرزح تحت وطأة التقاليد وأعباء الماضي.
والحق أن شجاعة حفظ الكيان هو الطريق الذاتي للعلاج من الأمراض وتخطي الفجائع والارتباكات في مواجهة الأوبئة وأن تقدير الذات يشترط موافقة متأنية وقبول محترم من الآخرين عن طريق الاعتراف والكرامة والأمل في علاقات محبة وتوادد واستبدال تبادل الإقصاء والازدراء بتبادل التقدير والطيبة30[30].
في هذا المقام تتمثل مهمة الطبيب على خلاف الدجال والمشعوذ في تكملة نقص التقدير ونقص الشجاعة التي يعاني منهما الشخص المريض بمنحه تقدير تكملة وتعويض حتى يرمم علاقاته مع الآخرين ويستعيد كرامته الانسانية وقيمته الاجتماعية وينتقل من وضع لاسوي للاهانة إلى منزلة سوية للاعتراف المتبادل.
لعل الرسالة الإيتيقية التي يبلغها الطبيب الى الفرد الذي يعد في صحة جيدة هي أن” المرض هو شيء آخر غير كونه عيبا ونقصا وبإيجاز كمية سلبية. انه كيفية أخرى للكيان في العالم”31[31]، وأن يعمل على بناء علاقات ود وتعاطف وتشارك في الحياة والمعاناة مع الكائن المريض وذلك لمساعدته على تحمل ألام مرضه والتغلب على لاعصمته وعطوبيته وهشاشته وتناهيه ويعبد له طريق العلاج والشفاء والتعافي.
لكن ألا يتطلب استكمال مشروع الإيتيقا الطبية امتحان العلاقة القائمة بين الذهني والنفسي والعضوي؟
2-علوم الدماغ وفلسفة الروح:
” ان دماغي لا يفكر، لكن حينما أفكر يمر شيئ معين دائما في دماغي .حتى لما أفكر في الله”32[32]
يطرح اللقاء بين الفلسفة والعلوم العصبية والعرفانية تحديد الوظائف البيولوجية للوعي ويلقي نظرة على النشاط الروحي للدماغ وملاحظة الظواهر الفيزيولوجية وإدراك تأثيرها على المعرفة البشرية. لقد سبق لغاستون باشلار وكارل بوبر وجاك مونو وأدغار موران ودومنيك ليكور أن تفطنوا إلى أهمية دراسة الظواهر البيولوجية العصبية ولكن الجديد عند ريكور هو البحث في منزلة الدماغ من الذات وذلك تحت تأثير الدراسات الأنجلوساكسونية في علوم الدماغ وفلسفة الروح Mind وما تطرح من إحراجات إيتيقية.
من المعلوم أن المعرفة العلمية بهذه الظواهر قد حققت نموا كبيرا وأفرزت ثورة معرفية حاسمة وتراكمت تجارب متنوعة ولكن الحكمة الأخلاقية المرافقة لنمو هذه المعرفة ظلت راكدة وعلى حالها ولم تقدر على المواكبة والرد على التحديات الجديدة التي برزت بعد ظهور الذكاء الاصطناعي والاستنساخ والتخصيب.
لقد انتبه عالم الأعصاب والأعضاء جان بيير شانجو إلى أن تطور المعارف العلمية حول الدماغ قد ساعد على انبثاق مجال جديد يسمى بالعلوم العرفانية sciences cognitives والتي أعادت امتحان العلاقة بين الجسم والروح واستبدلتها بالعلاقة بين الدماغ والفكر ونظرت في مسألة إعادة رسم الحدود التي تميز بين الوضعي والمعياري وبين الطبيعة والقاعدة وبين المعرفة العلمية والقاعدة الأخلاقية وبين معرفة الدماغ ومعرفة الذات عينها توصلت إلى التغلب على العديد من المشاكل العرفانية المعقدة التي عانى منها البشر.
غير أن التقدم العلمي يتملك وجها مضيئا ويحقق العديد من المنافع للإنسان ولكنه يحوز على وجه مظلم ويوقع العديد من الخسائر ويجلب معه العديد من المضار ولذلك تتدخل الإيتيقا الطبية لمراقبة نتائج العلوم العصبية والفزيولوجية وتقوم بتوجيه رسالتها نحو غايات إنسانية نبيلة وحماية المجتمع من مخاطر التقنية.
والحق أن ريكور لا يبحث عن تأسيس علم الأخلاق تشبه الأخلاق الوضعية التي شيد الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت لبنتها الأولى عندما وقع مفهوم الإيثارaltruisme وتحولت فيما بعد إلى إيديولوجيا للإقصاء ومثلت المهاد النظري لتشكل الداروينية الاجتماعية وشعاراتها سيئة الذكر عن الانتخاب الطبيعي والصراع من أجل الحياة والبقاء للأصلح بل عن بناء إيتيقا طبية تنقد مسارات التقدم وتوجه العلوم.
في الأثناء يبحث ريكور عن المنزلة الابستيمولوجية التي تستند إليها العلوم العصبية والعلوم العرفانية ويدرس مسألة العلاقات بين القانون الطبيعي والقاعدة الأخلاقية وينقد إسناد علم النفس السلوكي وظيفة التفكير الى عضو الدماغ واعتباره الطفولة هي المحدد لإدراك الأشياء ويحاول تخطي ثنائية الإحالة والجوهرية بين الذهني والجسدي وبين أنشطة الجسد الموضوعي وأفعال الحسد الخاص وذلك بإنتاج خطاب ثالث يصف كيفية تدخل الدماغ في الوعي وعلى زيادة الإدراك ودرجة العاطفة لدى الإنسان33[33].
تبعا لذلك فإن تقنيات الاستثمار العصبي تعطي دافعا موضوعيا للخروج من الانطواء ومعايشة الغير وإنتاج خطاب عن الجسد الخاص يعج بالوصايا الإيتيقية ويتوزع إلى المعياري والحقوقي والسياسي.
إذا كان رجل العلم الوضعي جان بيير شانجو يعتمد على تمثيل الجسد لبناء صلة بين البيولوجي والمعياري وبين اللغة التي يستعملها المرء والمواضيع التي يهتم بها وبين الجسم الموضوعي والخطاب الذاتي فإن الفيلسوف التأويلي ريكور يتساءل عن مدى مطابقة المعرفة الدماغية مع الوعي بالذات ويتظنن حول مسألة التمثيل ويكشف عن وقوعها في نوع من الخلط ويقر بتوجه المعرفة الإنسانية نحو ما يتمنى المرء القيام به وما يطمح إلى فعله ويدمج مسلمات أخلاقية في الوعي بالذات ويستنجد بمفهوم الاستطاعة والقدرة على الفعل ويدرج المعياري ضمن مسار التطور البيولوجي والتاريخ الثقافي للإنسانية.
هكذا طرحت العلوم العرفانية على الفلسفة المعاصرة في مداراته الثلاث أشد الأسئلة هولا وإحراجا وقد تعلقت بماهية الكائن ومستقبل الطبيعة البشرية و شكل علاقة الجسم بالروح ، كما عصفت الرياح بالمفاهيم القديمة والتصورات الحديثة التي ظلت متشبثة بالثبوتية والمادية والجوهرانية ومستبعدة للغائية والتناغم.
كما تم استبعاد فرضية وجود جانب روحاني بالمعنى الذي تراه الميتافيزيقا في النشاط النفسي لاعتبارات إيديولوجية مادية ولتفادي الوقوع في مسلمات تيولوجية قبلية ولكن الميتافيزيقا عادت من جديد في الحقبة المعاصرة لما علقت مصير البشر ورتبطهم بماهية التقنية ورهنت مستقبل الإنسان عند السيبرنيطيقا34.[34]
في هذا السياق يتنزل اهتمام الفلسفة بالعلوم العرفانية بوصفها مقاربة تقنية للجسد الإنساني وما يترتب عن ذلك من عولمة للمرض والتشخيص والدواء والعلاج والوقاية وتوظيف الأعضاء البشرية في منظومة الإنتاج الرأسمالية. كما تتنزل العلوم العرفانية في ما كان هيدجر قد أسماه ميتافيزيقا الكمبيوتر وتتمحور حول الحساب والعد والقياس وهندسة العضوية والإنتاج والإنتاجية والتبادل والاستهلاك وذلك باستعمال أدوات وآلات ذات آداء فعال ونجاعة عالية وقادرة على تعويض الأعضاء البشرية والأنشطة الذهنية.
بناء ذلك ميزت العلوم العرفانية بين التقنية التطبيقية وعلوم التكنولوجيا ونزلت ذلك في ما اشتهر بالتمييز الأنطولوجي بين الكائن والكائنات واعتبرت تطبيقات التقنية تظل خارجية عن الإنسان ووفرت له الوسائل والآليات المساعدة للتحكم في الظواهر والسيطرة على الطبيعة بينما التكنولوجيا عملت على تثوير طبيعته البيولوجية ودخلت في مكوناته العضوية والروحية وأثرت في طرق تفكيره ومسارات التنفيذ لديه35[35].
من المعلوم أن الفلسفة الديكارتية درست العلاقة بين الماكروسكوبي والميكروسكوبي ووقعت في تبعية البرهنة النظرية للملاحظة الخبرية والمراوحة بين الفكر والمكان وادعت قدرة التمييز بين الجسم والروح.
في هذا السياق يعود ريكور إلى هذه الدراسة وينتبه إلى أهمية الاستنجاد بفرضية الاله الضامن – الحافظ من طرف ديكارت قصد توحيد نظرته لماهية الإنسان وترتيب تصوره للعالم والبرهنة على حتمية اتصال النفس بالجسم وتميزها عنه ، ويشرع إمكانية تبادل المعلومات والحجج بين الفلاسفة والعلماء عبر إنتاج خطاب ثالث مشترك بينهما يثبت نموذجية الكوجيتو من ناحية ويعترف بقدرات الجسد من ناحية أخرى.
والحق أن شانجو يعتبر مسألة معرفة الذات أحد المسلمات الضمنية التي يرتكز عليها عمل علم النفس الاستبطاني ويشتغل على اظهار نقائصه ورسم الحدود التي يتوقف عندها وينتصر إلى تصور علم النفس السلوكي الذي يدعو المقاربة العلمية إلى دراسة الأشياء التي تحدث داخل الدماغ والعمل على تحديد طرق اشتغاله ووظائفه وقدراته وإمكانياته وأبعاده. كما أنه يعتبر الدماغ نسقا إسقاطيا يتميز عن الروح بالقدرة على التوقع وتحقيق السبق وإعطاء المعنى لأشياء مازلت غير موجودة ولكنها متوقعة ومفترضة ولذلك يسقط جملة من الملاحظات التخمينية على العالم الخارجي ويرسم شبكة واسعة من الدلالات الدائمة ويسمح باختبار الافتراضات والتثبت منها بالعودة الى التجارب الميدانية ويسعى الى التعرف على هوية العلاقات التي تربط بين تنظيم الدماغ وبنيته من جهة وبين الوظائف والنشاطات التي يقوم بها من جهة أخرى ويعمل على انتاج مجموعة من التمثلات الرمزية للأنشطة العضوية ويحاول ادراكها وتصورها.
في المقابل، يعترف ريكور من خلال تسلحه بالنظرة الفلسفية بوجود خطابين عن الدماغ بوصفه نسق من الإسقاطات على العالم الخارجي: الخطاب الأول هو الخطاب الفنومينولوجي الذي يعتبر الدماغ فعلا يمنح المعنى لاستباق. أما الثاني فهو الخطاب العلمي العصبي neuronal الذي يعتبر الإسقاط نشاطا ذهنيا.
من المعلوم أن ولادة علم النفس العصبي تمت على يد الطبيب الفرنسي المختص في علم التشريح بول بروكا Broca سنة 1861 لما بيّن الصلة بين التجويف الأيسر للدماغ وفقدان الكلام وتثبت من وجود صلة مباشرة بين البنية التي تتشكل من مساحة عصبية معينة والوظيفة التي تتمثل في تعطل وظيفة إدراكية.
لعل الرد الذي قدمه بول ريكور الفيلسوف على هذا التفسير العلمي العصبي هو الاعتماد على مقاربة منهجية متعددة وبينية حينما حرص على إظهار علاقة متينة بين بنية الدماغ والآلية النفسية psychisme والمراهنة على تشكل الوعي داخل الدماغ مع الاعتراف بغياب كل إدراك واعي أو وعي إدراكي للدماغ البشري. هكذا يتكون عضو الدماغ من مناطق عصبية خاصة بالتذكر والإحساس والانتباه والإدراك والتفكر ومناطق تمثل القوة المصورة والمتخيلة والمتوقعة وتوزع بتفاوت الأنشطة الكهربائية والكيميائية وتتحكم في حالات الذهن وقوة التركيز وتمنح الجهاز النفسي للذات الصلابة والتماسك والاستقرار.
كما يتحول التفسير العلمي الذي تم اقتراحه إلى مجرد ملاحظة للصور المرسلة بواسطة الدماغ ويجعل من كل موضوع فيزيائي عملية نفسية معقدة ويخصص مجموعة من الأنشطة الخاصة بالخلايا العصبية لإعطاء معنى لهذه التجربة. وبالتالي يتم الاتصال بالموضوعات الخارجية بواسطة نشاط العصبيات36[36] ويقوم الدماغ بإعادة بناء هذا الاتصال في شكل معلومات ومدركات وتمثل الذات مسرح التقاطع بين النفسي والعصبي. كما أن إدراك العالم الخارجي يتأثر بعدة عوامل كيميائية ويزيد وينقص في الشروط الذاتية للمعرفة تبعا لقوة أو ضعف الأنسجة العصبية وتدفق الشحنات الكهربائية في الخلايا الدماغية37[37].
بناء على ذلك يحرص الدماغ أو المخ على انتاج كلام رمزي مشترك يؤمّن عملية التضايف بين الأشياء المادية للعالم الداخلي والحالات الذهنية والمدركات العقلية للعالم الباطني وينظم الكثرة في وحدة متنوعة.
على المستوى المنهجي يقترح جون بيير شانجو نموذجا للموضوع الذهني يجمع بين البسيط والمعقد ويكفل قيام علاقة موضوعية بين النفسي والعصبي ويسند إلى الملاحظ مهمة إحداث علاقة تراسل بين الشبكات العصبية والنشاطات داخل الشبكات والحالات الذهنية الداخلية والتصرفات والتوجيهات.
علاوة على أن الدماغ البشري يتميز بخصائص عرفانية أخرى مثل التعقيد والترتيب والعفوية ويضيف شانجو خاصيات تقنية أخرى تتمثل في البناء المعماري العصبي الذي يستند إلى التوازي والاندماج والتكامل تمنح الدماغ قدرات عجيبة على إنتاج المدركات الذهنية وبلورة التراسل بين البنية والوظيفة.
بيد أن ريكور يعترض على هذه التفسير العلموي الاختزالي ويطالب بنمذجة التجربة المعيشة ويشير إلى قدرة الدماغ البشري على تمييز الألوان والأصوات والألحان والقراءة والكتابة بواسطة التنظيم العصبي. كما يضيف قدرة أخرى وهي قابلية المعرفة والفاعلية التلقائية والاستعداد البدئي وامتلاك وسائل الفعل. في الواقع ، ليس الدماغ البشري فاعلا بالمعنى التام بل هو مشروط بالمعنى وإسقاطي ومليء بالفعاليات الداخلية للتوقع ومفتوح على العالم وعلى اتصال بتجار بالغير ومشرع على أفق التجربة الكلية38[38].
غني عن البيان أن الموضوع الذهني هو حالة فيزيائية للدماغ تتشكل بتحريك مجموعة عصبيات منتخبة تنتمي إلى أحد مستويات البناء التراتبي الهرمي وتظهر في صورة تمثيل رمزي للمعطى الطبيعي المادي. إجمالا ، يدافع شانجو بحماسة عن قيام نظرية عصبية في المعرفة النفسية ترتكز على استعداد ذاتي للدماغ لكي ينفذ إلى العالم الخارجي عبر التمثل والانتباه ويقاوم العراقيل التي تمنعه من اختراق مادية الأشياء ويمرر المعرفة على محك الانتخاب وجاهزية المحيط للاستكشاف وقدرة الإنسان على استثمار العالم.
كما يقر بأن المرء يحوز على تمثيلات مسبقة وفعاليات عفوية منذ مرحلة الطفولة وأن الفعالية العرفانية الخاصة به تظهر عندما يتمكن من إنتاج المقولات والتمييز بين الانساني واللاّإنساني. غير أن ريكور يحذر من الاستعمال المبتذل لهذه الكلمات والمفاهيم ويعتبر النموذج الذي يتبعه تخميني وهجين ويقترح تركيز علاقات مع المعيش vécu عبر وساطة مفاهيم القصدية والدلالة والتجميع والوضع المشترك ومن خلال تناسق بين فهم التجربة المعيشة ويدعو إلى تفسير المعارف الموضوعية من خلال المعنى39[39]. وآيته على ذلك أنه كلما كان التفسير المعرفي أكثر كلما أصبح الفهم أعمق واقتربت المعرفة من الواقع وامتلك الدماغ القدرة على إبلاغ المقاصد ومواءمة السياقات والتأقلم مع أطر الفكر واستخدام لغة الإشارات والرموز والحركات والطقوس وإبداع آثار فنية وإصدار أحكام ذاتية والتفكير في الوعي.
اللافت للنظر أن شانجو يميز بين الوعي بالذات والوعي بالآخرين ويحصر الوعي بالذات في المكان الواعي الذي يوجد وسط الدماغ وداخل المنطقة العصبية التي تجري فيها عمليات الإثارة للجهاز العصبي مثل اليقظة والتذكر والتخيل والتركيز والانتباه والإدراك والمعرفة والتصور والشعور والانطباع والوعي. على هذا النحو يحدث داخل المكان الواعي من الدماغ تفاعل دائم مع العالم الخارجي والتزام بدئي من قبل الذات تجاه العالم الخارجي والتقيد باتباع مجموعة من القواعد والسعي نحو بلورة توافقات اجتماعية.
من جهة مباينة ، يعتبر ريكور الوعي المكان المناسب للقيام بالحيطة والتعقل والتروي والمداولة والاختيار التفضيلي بالنسبة إلى تجارب فكرية وأحكام أخلاقية وأفعال بشرية بغية اختيار أنجع الوسائل لتحقيق أفضل الغايات. كما أن الوعي بالذات عند ري
…