23 ديسمبر، 2024 5:33 م

البيرتو مورافيا والادب الروسي

البيرتو مورافيا والادب الروسي

ترجمت مرة حوارا مع الكاتب الايطالي الشهير البيرتو مورافيا (  1907- 1990 ) مع أحد الصحفيين ونشرته آنذاك في صفحة ( آفاق ) التي اسسها و اشرف عليها في حينه الصحفي العراقي محمد كامل عارف في جريدة  ( الجمهورية ) البغدادية في سبعينيات القرن العشرين الماضي, واذكر
ان الكاتب الايطالي قال في ذلك الحوار, انه  قام بزيارة لروسيا, وبالطبع كان في مدينة بطرسبورغ ( لينينغراد آنذاك ) واطلع على كل الاماكن المرتبطة هناك بدستويفسكي, وقد اعلن مورافيا في حواره ذاك, انه يفتخر  بامتلاكه قطعة صغيرة جدا من الخشب محفوظة لديه اقتطعها باظفره( اثناء تلك الزيارة )من الباب الخشبي القديم في شقة المرابية العجوز التي قتلها راسكولنكوف – بطل رواية دستويفسكي – ( الجريمة والعقاب), وأذكر ايضا ان مورافيا أشار في ذلك الحوار الى اعجابه الشديد برواية غوغول – ( الارواح الميتة ) والتي يعدها واحدة من ابرز الروايات الساخرة في الادب العالمي, والذي قال عنها بما معناه, انه مستعد ان يتنازل عن كل رواياته مقابل ان يكتب شيئا موازيا او مشابها لها ( اكتب كل ذلك من الذاكرة ليس الا ولا استطيع – مع الاسف – ان ارجع الى المصدر). تذكرت كل هذه التفاصيل الدقيقة والصغيرة والطريفة ايضا من وجهة نظري طبعا, عندما وجدت  عددا قديما من مجلة ( فابروسي ليتيراتوري) ( قضايا الادب ) الروسية رقم 9 الصادرة عام 1958 ( وهي مجلة فكرية معروفة بدراساتها المعمقة وتعنى بتاريخ ونظرية الادب صدرت عام 1957 في موسكو  ولا زالت تصدر الى حد الآن), واستوقفني في ذلك العدد القديم من تلك المجلة دراسة بعنوان – ( حول تقاليد الادب الروسي ) يناقش فيها الباحث السوفيتي    كتابا من تأليف الكاتب الايطالي البيرتو مورافيا صادر عام 1956 بعنوان – ( شهر في الاتحاد السوفيتي ), وهو – من وجهة نظر الباحث السوفيتي – كتاب ممتع جدا لانه يتناول انطباعات الكاتب الايطالي حول ما شاهده خلال زيارته الى الاتحاد السوفيتي والتي استغرقت شهرا باكمله, ولكن الباحث يسٌجل رأسا عدم اتفاقه مع بعض آراء مورافيا حول الادب الروسي, والتي جاءت في ثنايا ذلك الكتاب . تقع هذه الدراسة في 14 صفحة من المجلة ( من ص. 24 الى ص. 36 ) , وهي دراسة معمقة يشير في بدايتها الى ان مورافيا يعد الادب الروسي واحدا من – ( آداب العالم العظيمة ),الا انه يتناقش مع مورافيا بالاساس حول فكرة الكاتب الايطالي القائلة بعدم وجود (بطل الادب الروسي )عموما كما هو الحال مثلا بالنسبة لهاملت, وانما يوجد ( البطل المضاد) كما يسميه مورافيا , ويتوقف عند رواية غوغول – ( الارواح الميتة ) ويتناول بطلها تشيتشيكوف, ثم يتحدث عن رواية دستويفسكي – ( الجريمة والعقاب ) وبطلها راسكولنيكوف , ثم ينتقل الى تولستوي وروايته – ( الحرب والسلم )  ويأخذ عدة أبطال منها مثل الامير اندريه  بولكونسكي و بيزوخوف وحتى الجنرال كوتوزوف الذي حارب ضد نابليون, ثم يتناول ابطال تشيخوف والذين يقول عنهم ايضا  انهم مصنوعين من تلك( العجينة ) نفسها, ويصل مورافيا الى استنتاجيؤكد , ان الادب الروسي لم يرسم لنا بطلا سلبيا او ايجابيا, ويتمنى ان يأتي اليوم الذي سيعطينا الادب الروسي فيه مثل هذا البطل. يرفض الباحث السوفيتي هذه الفكرة جملة وتفصيلا , ويشير الى ان مورافيا لم يستوعب حتى النهاية صفات تشيتشيكوف السلبية( بطل رواية الارواح الميتة لغوغول ) والتي جعلته بحق بطلا سلبيا بكل معنى الكلمة وليس كما قال عنه مورافيا – ( ليس بطلا سلبيا او ايجابيا …  وانما هو تعبير عن الازمة الداخلية في اعماقه), ويتناول الباحث كيف يمتلك تشيتشيكوف قوة الارادة الشريرة وموهبة التغلغل في اعماق النفس البشرية وكيف يجبر الاخرين على تقبٌل افكاره, وان غوغول استطاع ان يرسم شخصية تاريخية للواقع الروسي آنذاك , وفي نفس الوقت شخصية نموذجية سلبية وشريرة لكل المجتمعات الانسانية  بشكل عام , والتي تقدر ان تستخدم التحايل على كل واقع واخضاع هذا الواقع للمصلحة الشخصية النفعية بغطاء يبدو وكأنه حضاري وينطلق من مواقع الخير ( لنتذكر ببساطة ما يجري في الوقت الحاضر في عراقنا الجريح وكم يوجد هناك من امثال هؤلاء الابطال!!! ),ويشير الباحث الى ان هذا البطل السلبي من وجهة نظر غوغول هو شخص خطير بشكل رهيب لدرجة ان بعض النقاد أسموه ( وهم على حق )– نابليون صغير, وأطلقوا ايضا على نابليون نفسه تسمية – ( تشيتشيكوف كبير ! ), وذلك انطلاقا من روح المغامرة الشريرة والوقحة لديهما, ويؤكد الباحث ان غوغول هو اول أديب رسم شخصية البطل السلبي الوقح في الادب الروسي وربما الادب العالمي ايضا, ويأسف لأن مورافيا لم يستطع ان يتلمس ذلك , بل لم يستطع حتى ان يكتشف ان غوغول قد جسٌد تفاهة الشر وجعل بطله مضحكا, وان فلسفة غوغول بالذات تكمن في انه قدٌم لنا صورة فنية مجسٌمة لفلسفة الانانية والنفعية والحضارة الكاذبة التي تحاول ان تبني وجودها  ومجدها على ( عظام الناس وقبورهم ! ), وهي فكرة مبتكرة واصيلة تعبر عن عظمة و اهمية غوغول في تاريخ الادب الروسي والعالمي ايضا والجوهر الفلسفي العميق لابطاله السلبيين, ثم ينتقل الباحث الى نتاج آخر لغوغول وهو – ( تاراس بولبا ), الذي لم يتناوله مورافيا , ويتحدث عن هذا البطل الايجابي من وجهة نظره ويأسف لان الاديب الايطالي لم يتوقف عنده على الرغم من ارتباطه الموضوعي والمباشر بافكاره حول الادب الروسي وموضوعة البطل الايجابي والسلبي فيه بالذات . يختتم الباحث السوفيتي مناقشاته مع مورافيا بالحديث عن دستويفسكي وروايته – ( الجريمة والعقاب ), وعن تولستوي وروايته – ( الحرب والسلم ), وهو حديث واسع ومتشعب من الصعب اختصاره بعدة سطور, ولكن مضمونه العام يتمحور ايضا حول وجود الابطال سلبا وايجابا عند هذين الاديبين الكبيرين, وان سمات هؤلاء الابطال ذات ابعاد انسانية عامة بغض النظر عن مجتمع ذلك الانسان وقوميته وانتمائه الديني. لقد مضى حوالي 55 سنة على هذه المقالة ومع ذلك فانها لا زالت تحتفظ باهميتها وحيويتها , ولا نعرف – مع الاسف – ردود فعل البيرتو مورافيا نفسهبشأنها , اذ ان الكاتب الايطالي كان عندها حيٌا ومن الممكن جدا انه قد اطلع عليها , وادعو زملائي المتخصصين في الادب الايطالي الحديث ان يحاولوا الاجابة عن هذا السؤال .