“الرجل المناسب في المكان المناسب”، وعسكريا “الوحدة بقائدها” … مصطلحان ينطبقان على القيادة الجيدة وسواء كان ذلك في مؤسسات الدولة المدنية أو العسكرية، وبسبب تطبيقها بشكل جيد نجحت دول وتطورت في كل المجالات، ومنها دول في أفريقيا كانت شعوبها تعاني من الفقر المدقع والإقتصاد المتهاوي.
يقودني هذا الموضوع إلى من جعل العراق، بلد الرافدين العظيم، يعاني من أتعس نظام صحي بيئي عرفته أي دولة من دول العالم. وأقول ذلك لأني شاهدت بأم عيني 56 دولة حول العالم من مشرق الأرض إلى مغربها، دول فقيرة وأخرى فقيرة جدا حيث لم أر في تلك الدول من مآسي بيئية كما شاهدتها في العراق، بلدي الحبيب، وكل ذلك سببه جهل من يديرون النظام الصحي البيئي في العراق، بل يعمدون لتخريبه بتعمد.
وقبل أن أعرض عليكم تفاصيل هذا الموضوع، لا بد لي أن أعطيكم فكرة عن ماهية البيئة ثم أحدثكم عن ماهية أسباب الكوارث البيئية في العراق ولماذا لا تزال تلك الكوارث باقية حتى الآن؟
البيئة يا أصدقائي هي غرفة النوم التي تنامون فيها، والمنزل الذي تسكنوه والشارع الذي تسيرون فيه والقرية والمدينة التي تعيشون فيها، وكذلك الهواء الذي تتنفسوه والتربة التي تنتج لكم الفواكه والخضروات والماء الذي تشربوه. وبشكل مبسط، فهي كل ما هو خارج عن كيان الإنسان، وكل ما يحيط به من موجودات، كالهواء والماء والأرض، وما يحيط به من كائنات حية أو من جماد هي عناصر البيئة التي يعيش فيها، وهي الإطار الذي يمارس فيها هذا الإنسان نشاطاته المختلفة.
فأي تغيير أو خلل في طبيعة ومكونات الهواء والتربة والماء يسمى إخلالا في النظام البيئي الذي يحيط بكم وهو ما يسبب لكم المرض بأشكال متعددة. وبهذا فإن البيئة والصحة موضوعان متلازمان يكمل أحدهما الآخر، يؤثر ويتأثر به. وبهذا أيضا فإن أهم ما يميز البيئة الطبيعية هو التوازن الدقيق القائم بين عناصرها المختلفة والذي يسمى بالتوازن البيئي، وإن أي تغيير غير مرغوب فيه لعناصر البيئة ناتج عن أنشطة الإنسان سيسبب ضرراً بالصحة الإنسانية والكائنات الحية وبذلك يعد تلوثًا بيئيا.
أما الصحة البيئية، التي هي مجال تخصصي، فقد عرّفتها منظمة الصحة العالمية على أنها: تلك الأمور الخاصة بصحة الإنسان ومرضه التي تحددها عوامل بيئية. كما تعنى الصحة البيئية بالنظريات والممارسات العملية لتقييم عوامل في البيئة التي تؤثر على الصحة والسيطرة عليها. وتشمل الصحة البيئية الآثار المرضية المباشرة الناتجة عن المواد الكيميائية و الإشعاعية و مواد بايولوجية أخرى، بالإضافة إلى الآثار التي تنتج غالبا بشكل غير مباشر وتؤثر على صحة الإنسان وعلى صحة البيئة بشكل عام سواء الجسدية أو النفسية أو الإجتماعية او الثقافية. وهذا يعني بعبارة أخرى أن الصحة البيئية هي علاقة البيئة بصحة الانسان وهي فرع من فروع الصحة العامة التي تعنى بجميع العناصر البيئية سواء الطبيعية او المنشأة والتي تعنى بالعوامل المؤثرة على صحة الإنسان.
قبل الخوض في مأساة البيئة في العراق، يجب أن نعرف أولا ما هو السبب الرئيسي المسبب للكوارث البيئية التي حلت بالعراق عموما، وبغداد بشكل خاص. فالعراق من أكثر دول العالم التي فيها مسؤولين مهماتم وواجباتهم “المفترضة” هي الحفاظ على بيئة صحية من أجل حماية صحة المواطن العراقي أولاً، وبالنسبة للعاصمة هو من أجل إظهار جمالية ورونق بغداد عاصمة العراق، ثانياً.
كانت هناك وزارة للبيئة، لم يستوزر فيها أي شخص ذو خلفية أكاديمية ومهنية في المجال البيئي لكي يقوم بعمله بشكل صحيح ومهني، لا بل حتى وكيل الوزارة لا يعرف ما معنى البيئة. وبعد إلغاء وزارة البيئة وربطها بوزارة الصحة، أبقوا على وكيل وزارة البيئة كوكيل فني للشؤون البيئية في وزارة الصحة والبيئة. وبعد إحتلال العراق في 2003 تم إستحداث مجالس المحافظات وقاموا بتوسيع أمانة بغداد (كان إسمها أمانة العاصمة) ليعينوا فيها شخصاً سمي بـ “وكيل الأمين لشؤون البيئة” وهو الآخر لا علم له بالبيئة أبداً، لا هو ولا جميع أمناء بغداد الذين تولوا إدارة هذه المؤسسة المهمة الذين تم تعيينهم وفقا للمحاصصة الطائفية والسياسية المقيتة لا أكثر.
في رئاسات مجالس المحافظات، هناك لجنة الصحة والبيئة (عملها مثل عمل وزارة الصحة والبيئة) ولكن جميع أعضاء تلك اللجان وفي جميع المحافظات هم بلا “علم أو فهم” بماهية البيئة، والدليل واضح أمامنا لما حدث ويحدث للبيئة في محافظات العراق كافة، ومنها العاصمة بغداد.
ولو عدنا لمصطلحي: “الرجل المناسب في المكان المناسب”، وعسكريا “الوحدة بقائدها”، فمن المسلم به دوليا وفنياً، أن أي مؤسسة تعني بالبيئة يجب أن يديرها شخص مؤهل علميا وفنياً كي يكون قادراً على تحقيق الواجبات والمهام المناطة بتلك المؤسسة للحفاظ على بيئة البلد وعدم الإخلال بالنظام الصحي البيئي فيه، وطبيعي فإن العراق يجب أن يكون واحداً منها…ولكن ذلك لم يحصل على الإطلاق ومنذ 2003 ولحد الآن.
كلنا نعرف أن العراق كان وما زال يعاني من الكثير من مشاكل صحية خطيرة جدا لها علاقة بالبيئة وبالإخلال بالنظام البيئي، والتي سنأتي على ذكرها وكيفية التخلص منها في تقرير قريب قادم.
ولكن قبل ذلك دعونا نعرف ما هو سبب الكوارث البيئية في العراق ولماذا لا تزال باقية حتى الآن ومن يدير مهام البيئة في العراق في السنوات الثمانية الماضية… إنه مجرد “طبيب مقيم” دخل الإنتخابات البرلمانية عام 2014 ولم يفز، ولكونه يعود بصلة قرابة من الدرجة الأولى لأحد السياسيين العراقيين فقد تم ترشيحه لوكالة وزارة البيئة قبل ربطها بوزارة الصحة، ولا زال لحد الآن حيث أعيد تعيينه وكيلا لوزارة الصحة والبيئة لشؤون البيئة من قبل عادل عبدالمهدي وفقاً للمحاصصة الطائفية والسياسية المتبعة في جميع مناصب الدولة. فأي مهزلة ومصيبة كبرى هذه !!! لا بل يمكنني القول أن هذا الشخص قد لعب دورا تخريبيا إجراميا ومنافيا لجميع قوانين البيئة والصحة العامة بحيث أدى ذلك إلى تدمير البيئة والنظام الصحي البيئي بشكل لم أر مثله من قبل أي شخص تولى هذا المنصب في جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق منذ احتلاله في 2003 ولحد الآن.
والسؤال الآن: كيف لبرلمان ولرئيس وزراء أن يقبل بأن يكون “طبيب مقيم” جاهل تماما بكل ما تعنيه البيئة والصحة البيئية من معنى على رأس السلطة في وزارة خدمية غاية في الأهمية لصحة المواطن وجمالية البلد ورونقه في حين هناك قلة جدا من العراقيين المتخصصين بالبيئة والصحة البيئية ومنهم من هم خبراء دوليون معروفون في هذا المجال وقدموا خدمات وخبرات كبيرة للكثير من دول العالم في مجال البيئة والبنى التحتية البيئية للعواصم؟
عسى أن يكون وزير البيئة أو الوكيل القادم لشؤون البيئة في وزارة الصحة والبيئة شخصا عالما يعرف كيف يدير بيئة العراق وكيف يطور بيئة العاصمة ورونقها بشكل خاص ليعيد العراق إلى أفضل مما كان عليه بيئيا.
بروفيسور متخصص بعلم الفسلجة والعقاقير الطبية ومستشار بإدارة المؤسسات الصحية وخبير دولي بالصحة البيئية والتغذية العلاجية
[email protected]