تنطلق البنية الأيديولوجية لكل الحركات الإسلامية المتشددة من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعاطفة الدينيّة التي استثمرها كثيرون من منظري وقادة هذه الحركات لتحقيق مآربهم. فهم يعتقدون أن وجودهم هي إرادة الله سبحانه وتعالى، وأنهم بإرادته سبحانه سوف ينتشرون في الأرض، ثم قدمت النظرية الإسلاموية الراديكالية تفسيرا جديدا للدين الإسلامي مفادها، أن تقوم هذه الحركات بالعمل لتحقيق إرادة الله وتحديدا إنشاء دولة الخلافة الإسلامية، سيما أن كل من يعمل ضد هذه الإرادة فإنه يعمل ضد العدل الإلهي من وجهة نظرهم. وبالتالي فإن المواجهة بين الحركات الإسلامية المتشددة والفصائل الإرهابية وبين باقي المسلمين اتخذت بعدا دينيا بين تحقيق إرادة الله من جانب وبين إعداء الله والإسلام من جانب آخر بحسب رأيهم. لكن في الحقيقة وبعد تجربة عشرات السنين من الإرهاب والعنف والتشدد منذ تأسيس أول وأقوى كل الحركات والفصائل المتشددة وهي (جماعة الإخوان المسلمين) والتي تعتبر المرجع الفكري والأيديولوجي لكل الإسلام الراديكالي أو الإسلام الحركي، أثبتت التجربة والممارسة تفكك الأيديولوجيا لتكشف عما وراءها من تناقضات طبقية ومصلحية هائلة أكبر من أن تستر خلف عقيدة تخلى عنها ممثلوها ومنظروها الرسميون.
ففي الجانب الفكري تعاني هذه الحركات من اختلالات وقصورا في النموذج النظريّ منها: قصور في النصوص، وكذلك قصور في المفاهيم، وأخيراً وليس آخراً قصورا في العمل، بالإضافة إلى أن هذه الجماعات عمدت أسلوب التهييج الفكريّ والإثارة والتلاعب بالألفاظ والكلمات، ونشر الأوهام والأحلام، وكذلك رفع الشعارات والرموز، واتهام من يخالفهم بالسلبية والغلط. وعليه فلم تستطيع هذه الجماعات من انتاج خطاباً سياسيّا وفكريًّا يتلاءم مع الواقع السياسيّ والاجتماعيّ في البيئة التي يعملون فيها. مع العرض إن المرجعية التاريخيّة للمشروع الإسلاميّ السياسيّ يندرج في موقف (جمال الدين الأفغانيّ) الذي طالب السلطان العثمانيّ حينها بمشروعية الجامعة الإسلاميّة لكنها تجربة باءت بالفشل. بيد أن فشل هذه التجربة لم تكن استثناء في إطار أوسع لتجارب أخرى. وقد ذكرت هذا التفصيل في كتابي بعنوان (الإسلام الحركي والدولة الوطنية العلاقة المأزومة) ” انفصلت الباكستان عن الهند بعد مشروعها الإسلامي ثم تحولت إلى تجربة فاشلة، ثم انشقت على نفسها فولدت بنغلادش، وهي دولة فاشلة، ثم جاءت تجربة افغانستان ووصل ما يسمى المجاهدون (الإرهابيون) إلى الحكم ثم انهارت التجربة، لتقوم تجربة طالبان ثم تفشل، ثم تجربة السودان وانتهت إلى فشل ذريع، ثم جاءت وانتهت بكارثة. أما بالنسبة للتجربة الماليزية والتجربة التركية، فهم صنعوا نجاحات بنت نموذجها على الأسس الغربية، حيث اعتمدت كلتا التجربتين على التنمية الاقتصادية وهو ما ترفضه الحركات الإسلامية التقليدية” ص71.
ويرى الكاتب حيدر إبراهيم علي في كتابه (أزمة الإسلام السياسيّ-الجبهة الإسلامية القومية في السودان نموذجا) ” هناك اتجاه ماركسيٌّ ينطلق من تشخيص الأزمة الفكريّة للتيارات الإسلاموية وانتشار الأصولية والحركات الدينيّة عموماً، فالاتجاه الماركسيّ يركز على التطور الاجتماعيّ الاقتصاديّ والصراع الطبقيّ في تحليل الأزمة، فيرى أن البلدان التي شهدت الانبعاث الإسلاميّ هي في مرحلة الانتقال من القطاع الشرقيّ إلى الرأسماليّة وبدرجات متفاوتة، وهذا بالضرورة يقود إلى تفكيك العَلاقات السابقة الرأسماليّة، بالإضافة إلى فصل المنتجين الصغار في الريف والمدن عن وسائل إنتاجهم الخاصّة، وتحويلهم إلى عمال يبيعون قوت عملهم، ويصاحب هذا التحولَ تدميرٌ لعَلاقات قديمة ومستقرة، وتحرسها نظم ثقافية وفكرية ومؤسسات تحمي بقاءها واستمرارها. ونتيجةً لكل التناقضات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، تلك التناقضات التي عندما تصل قمة الأزمة الحادة، قد تدفع بالمنتج الصغير إلى الانخراط في جيش سياسيّ عماليّ، أو تقوده إلى المتاهات الصوفية الدينيّة، ولأن وعيه حافل بعناصر غيبية يصبح الاحتمال الثاني أكبر إمكانية” ص22.
أما في الجانب الديني، فقد تأثرت كل الجماعات المتطرفة والتيارات الراديكالية الأصولية وتحديدا منظِّروا هذه الجماعات بكتابات المرجعيات السلفيّة السابقة وفتاواها، أمثال: ابن تيمية، وابن القيم، ومحمد عبد الوهاب منظِّر السلفيّة الحديثة. وإذ لم يكن منتَج ابن تيمية أهم ما يستند إليه الإسلام السياسيّ المعاصر، والقراءة الإسلاميّة المتطرفة عند تيار الإسلام السياسيّ السُنيّ، فهو أحد أهم الأسماء المؤثرة في تقوية هذا النهج المتطرف لقراءة الإسلام وعكسه على الواقع. ومن هنا يبدأ التدرج في الاستقطاب كضرورة قيام دولة تطبق شرع الله، والسبب ابتعادُنا عن شرع الله، وكذلك لا يستطيع الفرد إقامة دولة، بل لا بد من الجماعة. أما بخصوص الأفراد فإن المنتسب إلى الحركات والجماعات الإسلاميّة يتم استنفار طاقته العقليّة ومشاعره من خلال هذه الأفكار. وكنتيجة لإشكالية العنف الفكري فقد تحول كل ما هو سياسي إلى موقف ديني عقائدي، ومع مرور الوقت وتراكم الحجج يتحول الموقف السياسي إلى عقيدة دينية تأخذ ملامح قوة منافسة للدين، بل في حالات كثيرة هي الدين. مما أدى إلى دخول الحركات الدينية والاصلاحية أو التجديدية عالم السياسة، وتغرق في حمام الدم.
وتأسيسا لما تقدم، نحن أما إشكالية كبرى لتحريف النص وتوظيفه في السياسة، لأن السلطة لم تكن من اولويات الرسالة، ولا من اهتمامات الوحي، بل التوحيد هو الأساس. لاسيما أن رسول الله قد أكد على أن السلطة بمفهومها التاريخي، سواء كانت الإمامة، الخلافة، السلطان، وكل العناوين المتجحفلة لتقوية السلطان ليست من مهام الوحي.
لكن بموجب جدل الوجود والنواميس الالهيّة فهو يبشرنا بظهور الاسلام من جديد، دين الله الحق خالق الكون ومهندسه العظيم، هذا الدين لن يكون دينا بهلوانيّا يتحكم فيه الإرهابيون، دينا إنسانيّا لا يكيل لصالح قومية معينة أو أنساب كهنوتية، دين يتجلى برحمة الله على العالمين، ليس رجعيّا باليا ويتسق مع منطق العصر والتقدم العلمي والحضاري.