23 ديسمبر، 2024 7:09 م

البنى التحتية أم البنى الإنتاجية..؟؟

البنى التحتية أم البنى الإنتاجية..؟؟

أحتدم النقاش حول ما أطلقت عليه الحكومة (قانون البنى التحتية) فيما أطلق عليه خصومها أسم ( قانون الدفع بالأجل) و كان واضحا أن البعد السياسي هو الأطغى في هذا الجدال لكلا المؤيدين و المعترضين فيما توارت الملاحظات الفنية و الاقتصادية في دائرة ضيقة و إقتصرت على الإشارة للمخاوف من رهن ثروة العراق النفطية و تكبيله بالديون و مما لا شك فيه فأن مشروعا بهذا الحجم و تلك الأهمية يستحق مثل هذا الإهتمام كما يستحق تفصيلا يتجاوز بكثير (الورقتين) التي دفعت بهما الحكومة إلى مجلس النواب طالبة الحصول على دعم المشروع من خلالهما..!!
لابد من الإقرار بأن النسق الحالي من الإستثمار الحكومي و تنفيذ المشاريع لن يوصلنا إلى نتيجة خصوصا مع تدني أداء أجهزة الدولة المختلفة إلى مستويات خطيرة و شيوع الفساد و الفوضى و الفشل فيها بدرجة كبيرة حتى صارت هذه الفاءات الثلاث ( فساد و فوضى و فشل) صفات ملازمة لعمل هذه الأجهزة ، و لقد كنت أكرر دائما في مجلس الوزراء أننا بحاجة إلى قفزة كبيرة في الإستثمارات تفوق كثيرا ما يتم تخصيصه و أن الطريق لذلك لا يمكن أن يتم إلا من خلال أحد سيناريوهين أثنين..أولا زيادة كبيرة في عائدات النفط..و ثانيا تدفق هائل للإستثمارات المحلية و الخارجية و لئن كان تحقق الإحتمال الثاني محفوفا بالصعوبات و الطريق إليه ليس سهلا فأن السيناريو الثاني قد تحقق بالفعل مع جولات التراخيص التي انجزتها وزارة النفط العراقية و الذي ترافق لحسن الحظ مع الإرتفاع الذي طرأ على أسعار النفط.
الإقتصاد العراقي في الواقع أمام فرصة فريدة قد لا تتكرر بعد عشرات السنوات و أمد هذه الفرصة ليس مفتوحا و لكنه محدد بعشر سنوات و التي سيشهد فيها العراق ذروة الإنتاج النفطي ثم يبدأ بعدها الانتاج بالإنحدار و عندما يبدأ هذا الهبوط يكون سكان العراق قد تضاعف و أزمة المياه قد بلغت ذروتها ، و لذلك فالتحدي الأكبر هو أن نوفق خلال هذه الفترة ببناء قاعدة إنتاجية متطورة في الزراعة و الصناعة تعيد تدوير عوائد النفط في الإقتصاد المحلي و تخلق ملايين فرص العمل و تستطيع التغلب و لو جزئيا على أزمة شحة المياه المتوقعة ، بناء على هذه التوطئة فأن الأداء الاقتصادي و التخطيطي في العراق ( خلال العشرة سنوات القادمة) ينبغي أن يكون في أعلى درجات الحذر و الكفاءة في نفس الوقت لأن أي دولار يهدر في غير موضعه سوف يصعب تعويضه و لأن هذا الأداء سيكون بين خيارين لا ثالث لهما ..إغتنام الفرصة أو إضاعة الفرصة .
بادئ ذي بدء علينا أن ندرك تمام الإدراك أن لا تنمية حقيقية لا تحكمها رؤية شاملة ..ولا عملية نهوض إقتصادي فعلي يمكن أن تتحقق من غير عملية ترتيب الأولويات ..أن الخيار و السؤال الصعب..ليس بين ما هو مطلوب و ما هو غير مطلوب ..و لكن السؤال يجب أن ينصب على ما هو أولوية …و ما هو غير أولوية…عن الضروري و العاجل…و ما هو أقل ضرورة و يمكن إنجازه في مرحلة لاحقة..هنالك دولار يلد و ..دولار عقيم ..و الدولار ( الولود) في حالة الإقتصاد العراقي هو الذي يتم إستثماره في قطاعي الصناعة و الزراعة أما الدولار العقيم فهو الذي يذهب إلى الاستهلاك..و ما بين هذا و ذاك أموال و دولارات أقل إنجابا و خصوبة.
لو سألتني ما هو أفضل ما يمكن أن تفعله الحكومة العراقية للمواطن..تطعمه و تكسوه..تدفع له راتبا عاليا ..توفر مقعدا دراسيا لاولاده ..تحقق له الرعاية الصحية..تبني له مسكنا ..تضمن له امنا ..لأجبتك أن هذه هي اولويات أي حكومة راشدة و مطالب أي مواطن في العالم..و لكن اجابتي على هذا السؤال ليس هذا أو ذاك مما تم ذكره..ما اريده هو أن توفر الحكومة فرصة عمل للمواطن في ( هيكل إنتاجي سليم) ..لماذا..؟؟ ، لأنه بالعمل المنتج يستطيع المواطن أن يوفر ذلك أو شطرا هاما منه فيما تتكفل الدولة ( التي لها اقتصاد فاعل و منتج) بتوفير الشطر الآخر منه بكفاءة و إقتدار.
لا أحد يعترض على الإنفاق في التربية و التعليم و الصحة و مشاريع النقل و الصرف الصحي و الدفاع فهذه كلها أبواب بحاجة للتطوير و الحاجة ماسة لمزيد من العمل فيها و لكن يبقى السؤال قائما ..من أين نبدأ..؟؟ ما هو القطاع المولد ( للريع) و المحقق ( للقيمة المضافة) ..؟؟ أين تتحقق فكرة ( الدولار الولود)..؟؟
لا ريب إننا بحاجة للإنفاق على التنمية البشرية و الإرتقاء بخصائص الإنسان العراقي و بحاجة لصرف المال لتسليح القوات المسلحة .. و لتطوير البنية التحتية و تحسين مستوى الخدمات التي باتت في وضع بائس ..و بالتأكيد ذلك كله سيكون له مردوده غير المباشر على الاقتصاد و لكن كل ذلك لا يقع ضمن ( الوصفة العاجلة) المطلوبة للاقتصاد العراقي و أقصد بذلك ( الاستثمار في الصناعة و الزراعة و تدوير العجلة الإنتاجية) لأن مرض الاقتصاد العراقي الفتاك و علة العلل فيه هو ( تدهور القطاعات الإنتاجية) و لأنه من غير ذلك فأننا سنواجه يوما تعجز فيه واردات النفط المتراجعة عن توفير الغذاء لأربعين أو خمسين مليون عراقي و لا تستطيع فيه الدولة العراقي سداد فاتورة استيراد البضائع المختلفة من الخارج .
المشاريع الإنتاجية تأتي بالمال الذي ننفقه على التنمية البشرية و الدفاع و الخدمات و غيرها لا ياتي بالمال إلا بعد حين و بصورة غير مباشرة.
أنها لمفارقة مؤسفة حقا أن لا يتضمن مشروع قانون البنى التحتية تخصيص دولار واحدا للصناعة العراقية و كأنما كتب على هذا البلد أن تندثر الصناعة فيه و أن يصبح سوقا لصناعات دول الجوار الرديئة النوعية..لقد دهشت و أنا أقرا توزيع التخصصات في قانون البنى التحتية و إهمال القطاع الصناعي فيه لهذه الدرجة المريعة فيما العراق بحاجة لمدينة صناعية في كل محافظة .
لو قبلنا جدلا أن الدولة تزمع بناء مليوني وحدة سكنية و أن كلفة الوحدة السكنية الواحدة في المتوسط هي خمسون ألف دولار و بحسبة مبسطة و تقديرية فأن حوال عشرين ألف دولار من هذه الخمسين سيكون ( مواد و لوازم بناء ) هذا بدوره يعني أن هذه الوحدات السكنية ستحتاج أربعين مليار دولار مواد بناء و بما أن العراق عمليا لا ينتج سوى جزء لا يكاد يذكر من هذه المواد فأن شطرها الأعظم ستجلبه الشركات من خلال الإستيراد من الخارج و السؤال الذي يطرح نفسه هنا و بقوة ..ألم يكن الأجدر بناء صناعات إنشائية بهذا المبلغ ..؟؟
في هذه الحالة سنكسب صناعات على أرضنا تنتج لعشرات السنين هي عمر المصانع ، و نشغل عشرات الالاف من العاطلين ، و نبقي أربعين مليار داخل الاقتصاد المحلي تتحرك داخل مفاصله لتخلق المزيد من الفرص ، الدولارات التي كانت ستصبح عقيمة لو ذهبت للإستيراد ستصبح ( ولودة) لو استثمرت في تأسيس الصناعات الإنشائية ، و مهمة إنشاء الوحدات السكنية ستغدو أكثر يسرا في ظل وجود صناعة وطنية مضمونة للمواد الإنشائية ..و قل مثل ذلك عن الصناعات الغذائية و الزراعية التي ستساهم في إحياء القطاع الزراعي و تنشيطه ..و كذلك صناعة البتروكيماويات العملاقة التي يبدو أن العراق اسقطها من استراتيجيته النفطية و من حساباته الصناعية ..و إقامة العديد من المصافي في طول العراق و عرضه لإنتاج المشتقات البترولية التي تعظم عوائد القطاع النفطي..و قس على هذا العديد من الصناعات التي يتوفر لها على الأقل خمسة و ثلاثين مليون مستهلك قابلين للزيادة في المستقبل القريب و هم عدد سكان العراق الذي يستورد سنويا بحدود ثلاثين مليار دولار يمكن أن تتداول داخل الاقتصاد الوطني و تصنع المنجزات العديدة له.
تحت كل الظروف و الأحوال هنالك جدول أعمال محدد للدولة العراقية لا يمكن إهماله أو التهرب منه ..هذا الجدول يحتوي في اولوياته و تحدياته ..تعظيم قدرة الدولة على ضخ الفوائض النفطية للإستثمار المباشر و وقف زحف النفقات التشغيلية على الموازنة العامة و ضمن هذا الجدول أيضا إقامة شراكات فاعلة مع القطاع الخاص العراقي و الاستثمار الأجنبي و كذلك تحديد القطاعات الأكثر ريعية و مواطن ( الدولار الولود) .. هذه المسائل و المهام تحتاج إلى تفصيل و استيفاء ليس هذا موضعه و أمامنا في هذا الجدول أيضا إصلاح الإدارة الحكومية و تحويل المزيد من مهامها للقطاع الخاص ..قد يكون الطريق لتحقيق هذه المهام طويلا و شاقا لكن في كل الأحوال فأن التجارب تثبت أن الطرق المختصرة و العلاجات المبتسرة أقل نجاحا و أرفع كلفة..
* علي بابان وزير التخطيط السابق
[email protected]