لم استطع ان اكتم مشاعر الفرح حين تم تعيين الدكتور مظهر محمد صالح مستشارا ثم نائبا لمحافظ البنك المركزي العراقي… فقد عرفته منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي عندما كان محاضرا في كليه الإدارة والاقتصاد- جامعه بغداد بعد ان انهي الماجستير في النقديه على يد الأستاذ الدكتور عبد المنعم السيد علي واستفاد خلال عمله في البنك المركزي من خبره عدد من الاقتصاديين العراقيين المرموقين في الشؤون المالية والنقدية من الذين عملوا في المؤسسات المالية الدولية ومنهم الدكتور فائق عبد الرسول والدكتور باسل البستاني وهي قناعات بالخير اقترن فيها العلم بنبل الأخلاق والإخلاص والوطنية رسخت في ذاكرتي وفق ما نقله لي الاخ عاصم محمد صالح مدير التحويل الخارجي في البنك المركزي السابق منذ اكثر من ربع قرن . أما الدكتور سنان الشبيبي فلم التقي به سوى لمرة واحده على هامش مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية( الانكتاد ) الذي عقد عام 1988 في جنيف وقد سمعت الكثير من الإطراء لعلمه ونبله وفطنته من الأستاذ برهان محمد نوري الذي رافقته خلال ذلك المؤتمر الذي اهداني عددا من أبحاثه القيمه . وقد رحبت الأوساط الاكاديميه العراقية والمؤسسات النقدية الدولية بترشيح الدكتور عادل عبد المهدي له لترأس أهم مؤسسه نقدية في العراق عام 2004م .
لا أغالي اذ قلت ان جامعتي بغداد ولمستنصريه كانتا محفلا علميا لنخبه من كبار العلماء في الاقتصاد وغيره من الاختصاصات وكان بعضهم معروفا على النطاق العالمي والعربي أيضا …. و هؤلاء الأكاديميون الرواد الذين انتقل الكثيرون منهم الى جوار ربه كانت لهم معاناة مريرة مع الحكومات المتعاقبة في العراق ولم ينصفهم سوى طلبتهم والمقربين منهم وبعض زملاءهم …. خاصة من شغلوا منهم مواقع وزارية وحكوميه مرموقة وفي مقدمتهم البروفسور والعالم الكبير المرحوم إبراهيم كبه وزير ألتجاره في حكومة عبد الكريم قاسم والذي شغل أيضا بالوكالة وزارات أخرى مثل النفط والزراعة حيث أسهم في كل قراراتها الاقتصادية الهامة في مجالات النفط والتخطيط والاتفاقيات الثنائية والدولية وخاصة قانون رقم 80 المتعلق بالنفط الذي ساهم في زيادة عوائد العراق النفطية وقانون رقم 30 لسنه 1958 قانون الإصلاح الزراعي الذي دافع لاحقا عن الأخطاء التي نجمت عن تطبيقه . و يعد عالمنا الفاضل بفخر مفكرا اقتصاديا أجاد دون غيره ست لغات عالميه اغني بدراساته الفكر الاقتصادي الاشتراكي ويعد مفخرة للعراق والعرب وفيلسوفا و مدرسة نضالية تقدمية نهل الآلاف من علمه الغزير. وقد اثأر اندهاشنا ونحن طلبه حينما ارجع أصل نظريه القيمة لابن خلدون قبل كارل ماركس ….
ولعل راحلنا العبقري الذي نحتفل هذه الأيام بذكرى رحيله السنوي الثامنة و الذي دافع عن منجزات 14 من تموز وهو في زنزانته بعد انقلاب شبط 1963 هو أول من نصح قاده انقلاب 17 تموز 1968 في رسالته التي بعث بها الى صحيفة التآخي .. بعنوان (نصيحة للحكام الجدد _ من اجل حل سلمي لأزمة الحكم في العراق) والتي ترددت في نشرها نصح البعثيين لإطلاق الحريات الديمقراطية وعلى رأسها حرية النشاط الحزبي للقوى السياسية الفعالة في المجتمع ، والتخلي عن مفهوم الحزب الواحد او القائد ، وترك مقوله الوصاية على الجماهير وهي وصايا مبكرة لازالت حاضره اليوم بقوه كأنها كتبت هذه السنوات!!!! وقد أحيل عالمنا الجليل على التقاعد عام 1977 حيث حرم أبناء العراق من عبقريته الفذة وعلمه الغزير وأظن انه ظاهره فكريه سيمر زمان طويل قبل ان تتكرر.
والاقتصادي الأخر، الذي تصلح سيره حياته ان تكون ماده لعمل درامي كبير ومحزن يكشف ما ينتظر علماء العراق الشرفاء من مصير على أيدي الحكام في بغداد حين يتقاطع رأيهم الفني والمهني مع السلطة، هو الشهيد الدكتور محمد سلمان حسن الذي كان مولعا بالاقتصادي الماركسي المعروف اوسكار لانكه الذي ترجم أهم كتبه الى العربية باعتباره أحد أكبر أخصائيي اقتصاد الدول النامية. فهو أي لانكه بعد ان يستعرض جهود الكتاب الذين اهتموا بدراسة اقتصاد مجتمعات ما قبل الرأسمالية منذ عصر (ماركس) وحتى عصر (بورشييف)، يقول ما معناه ((ولكن هذه الدراسات جميعها مفككة، لذلك فان الاقتصاد السياسي للنظم الاجتماعية ما قبل الرأسمالية لما يخرج بعد إلى حيز الوجود باعتباره فرعا منظما من فروع الاقتصاد).
… حصل الراحل على الدكتوراه في الاقتصاد السياسي من جامعة أكسفورد بامتياز سنة 1958و شغل عضوية الهيئة الاستشارية لمجلس الأعمار الذي انشأ عام 1950 لرسم السياسة الاقتصادية العراقية والذي سمي لاحقا مجلس التخطيط و ساهم في عضوية الوفد العراقي الذي ابرم الاتفاقيات الاقتصادية مع الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية.. واليه يعود الفضل في انه اول من طالب عام 1966 بتأميم النفط العراقي وهو نفس العام الذي رفع فيه هو مع إبراهيم كبه ومصطفى علي وعبد الوهاب محمود مذكرتهم الشهيرة الى رئيس الوزراء ناجي طالب حول التحولات الاجتماعية في العراق.
.اعتقل الحسن من اجل مواقفه الوطنية وآراءه السياسية مثله مثل حال العديد من مفكري اليسار العراق في انقلاب شباط 1963 وعذب ومزقت إحدى إذنه نتيجة الضرب المبرح على وجهه،وفصل من الخدمة وبقي رغم ذلك متمسكا بمواقفه السياسية حيث رفض منصب وزير النفط الذي عرضه عليه البكر عام 1969… كان مصيره وتقدير السلطة له بعد ان عاد الى التدريس في ألجامعه في السبعينات ان اغتالت نجله عمار لميوله اليسارية انتقاما من ابيه ثم أودع كرها مستشفى الإمراض العقلية عام 1984 ووضع في ردهة مع المختلين عقليا الذين زودوا بالعصي والهراوات لضربه كل يوم وبعد خروجه منها منهارا مات شهيدا عام 1989 وقد احرق العشرات من مما تحتويه مكتبته في الشارع !!!
لم تكن هذه النهاية التراجيديه من نصيب هذا المفكر الاقتصادي المخلص والعنيد لوحده فقد تعرض كثيرون للسجن والاعتقال من أمثال صباح الدرة و وصفاء الحافظ واضطر العشرات الى الهرب الى الخارج في سنوات الجمر من أمثال الدكتور كاظم حبيب والدكتور مهدي الحافظ وغيرهم … اما الدكتور طالب البغدادي واستاذ وصديق الدكتور مظهر محمد صالح الذي ناقش معنا كطلبه في ألجامعه عام 1977 جوهر شعارات (المرحلة الثورية) آنذاك التي وضعها نائب الرئيس صدام حسين متأثرا بمقولات بعض قاده الفكر الاشتراكي فقد حكم عليه بالسجن لسنوات طويلة. ولم يكن هذ الأمر مستغربا في العراق المضطرب فقد اتهم من قبل وزير المالية ومحافظ البنك المركزي في الستينات المرحوم صالح كبه بالعمالة والتجسس!!!
.
رحم الله من توفاه الله او لازال على قيد الحياة من هؤلاء المفكرين الاقتصاديين الذين ساهموا في توجيه دفه الاقتصاد العراقي على مدى عقود طويلة جدا وربما طواهم النسيان لولا مواقفهم الوطنية الخالدة و كتبهم التي تشع في مكتباتنا والتي لا يقلبها الا المختصون وطلبه الدراسات العليا وكانوا وراء صياغة بنود العديد من القوانين التي كانت تستهدف خدمه الشعب العراقي و بناءا لدوله ألحديثه والنهوض بها وحماية رغيف الكادحين والذين ينطبق عليهم تماما توصيفات غرامشي حول المثقف العضوي المدافع عن مصالح الفئات الكادحة والذين لم ترهبهم سطوه النظام السياسي في العراق الذي بدأت معاناتهم معه منذ عام 1963 وخاصة ما يتعلق منها بالنفط والذي لولاه لاتخذ تاريخ العراق مسارا اخر وكانت السلطات تستعين بهم حين تشعر بالحاجة لخبرتهم وتنتقم منهم وتلقيهم في غياهب السجون حين ينتقدون أداءها او يعارضون تصرفاتها .
ما دفعني لهذا الاستطراد الشبهات والتهم التي عرضت من قبل الجهات الرسمية العراقية بحق البروفسور سنان الشبيبي الذي هو في السبعينات من عمره الذي تم انتخابه قبل شهرين من بين ألخمسه الأوائل من مجموع 500 شخصيه عربيه مرموقة والذي ابلغ بأمر اعتقاله وهو يناقش مع خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في طوكيو سبل الدفع بعمليه التنموية المتعثرة في العراق!!!!…. فيما كانت الصدمة اقوي على الدكتور مظهر محمد صالح الذي بلغ سن التقاعد وهي تهم فساد خطيرة لن انصب نفسي بأي حال قاضيا للحكم عليها او اعتماد شعار( بقدر الرجال يعرف الحق) رغم شعوري بان الحقيقة وسيره هذين الاقتصاديين المستقلين سياسيا قد توضح امرأ مغايرا تماما….. او ربما نحن هنا وسط الصراع من اجل البقاء في السلطة بحاجه دائما إلى اكثر من كبش فداء بتحميل من يرسمون السياسة النقدية في عراق ما بعد ساحة الفردوس لوحدهم وزر عمليات تلاعب ولصوصيه وتزوير متقن وتهريب العملات الصعبة بمبالغ كبيره وصفقات غسيل أموال عبر دول أخرى تقف وراءها عصابات ونخب وأجهزه مخابرات وساسه متنفذون ومافيا قويه تتحكم بسوق العملة في العراق.
وإذا ما أحسنا النوايا وهو ما يجب إتباعه فان الأمر قد لا يتعدى خللا في الاداره من رجال ( طلبوا الحق فاخطئوا فيه) مثلما يقول علي ابن ابي طالب(.ع.)… ولكن أيا كانت الحقيقة فان أي دوله متحضرة تحترم علماءها ومبدعيها والقادرين على توجيه دفتها نحو المسار الصحيح لا يمكن ان تتعامل معهم بهذه ألطريقه المشينة التي تمثل صفعه ورسالة قاسيه لآلاف من التكنوقراط والأكاديميين داخل العراق وخارجه. ونكران لما قدمه هؤلاء النخب من عطاء… بينما لا يخجل البعض من صناع القرار في ابلادنا من المساومة بلا حياء او وازع ضمير او خجل لتمرير مشروع قانون العفو العام الذي يعيد ألقتله المأجورين والإرهابيين ومنتهكي الإعراض وخريجي( أكاديمية مريدي العليا!!!!) من المزورين الى الحرية والوظيفة ودفع تعويضات لهم ….. بينما تنتظر الأصفاد وزنزانة سجن( التسفيرات) عالمين عراقيين في خاتمه عمر وعطاء وكفاح طويل…
. انه نفس المصير الذي أبكى أول رئيس لجامعه بغداد وتلميذ اينشتاين وعالم الأنواء الجوية المرحوم الدكتور عبد الجبار عبد الله في شباط 1963 والعصي تنهال على رأسه من قبل جلاديه في ظلام السجن… وهو نفسه الذي مزق ألما صدر الدكتور طالب البغدادي عام 1977 وصدام حسين يحاكمه بنفسه ويزجره وبحضور طلبه الصف الرابع في كليه الاداره والاقتصاد داخل القصر الجمهوري ليلا لمجرد ان البغدادي أستاذ النقدية المعروف وخريج ارقي جامعه فرنسيه ناقش بمنطق وحجه اقتصاديه شعار( من لا ينتج لاياكل) الذي اخترعه عقل السيد النائب!!!
انه الصراع الأزلي بين منطق العقل والحكمة وجبروت السلطة وعنادها وقسوتها الذي لف حبل المشنقة على رقبة الحلاج واستباح دم ابن حيان وقطع أوصال ابن المقفع وهو حي وشويت إمام عينيه ووضعت في فمه ليأكلها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة….!!!!اه يا بغداد!!!!
وللحديث بقيه بإذن الله.
بوخارست