عقلية الإستثمار في البلد متخلفة للغاية ، شأنه شأن كل مرافق الحياة ، والقائمون على هذه العملية المتوقفة أصلا ، مبرمجون على السرقة فقط ، ويفتقرون إلى الدرجة الدنيا من الذكاء والإدارة ، ولا يفكرون سوى بالمنافع التي تعود عليهم فقط والمتمثلة بالطبقة السياسية بمكاتبهم الإقتصادية وشبكاتها المعقدة ، والتي إبتلينا بها أكثر بكثير من بلاء جائحة كورونا ، تفتقر للدرجة الدنيا لهذه الثقافة ، فهم لا يفكرون بالنفع العام ، وعجلة الإعمار متوقفة منذ العقدين من الزمان حتى علاها الصدأ ، وكل ما يمكن أن نلمسه من هذا الإعمار المزعوم هو التكالب على بناء (المولات) فقط ، كونها مغلقة كليا لصالح هذه الطبقة ، وليذهب الصالح العام بجمهوره إلى الجحيم ، لم نرَ شارعا يُصلّح ، أو طريقا يُعبّد ، أو أية مفردة من مفردات البنية التحتية كالماء والكهرباء قد طُورَت ، تخلف شديد في التعليم والتطوير ، شلل تام في الصناعة والزراعة ، تخلّف أمني وتخبّط ، والقائمة تطول ، وصار البلد يسير (إن صحّ تعبير أنه يسير ) بقدرة الله ، لا عبد الله .
ما أريد التطرّق إليه هو الواقع السياحي ، الجميع يقول ومنهم السياسيون أنّ السياحة نفط دائم ، وأنها نهر ثالث وغير ذلك من الأقوال ، فأين القائمون على هذه الصناعة من تطويرها ؟ ، والسياحة حالها حال كل زوايا التخلف في البلد ، قد أهمِلَت إهمالا تاما ، والمرء لا يجد أية صعوبة في إستنتاج هذا الواقع المزري ، والعائلة العراقية تميل إلى زيارة الأماكن السياحية التي يزخر بها هذا البلد ، ولو أعددنا جردا بما تصرفه العائلة العراقية سنويا على هذا القطاع ، فسنجده مبلغا محترما ، يثري خزينة الدولة التي يتباكى عليها الجميع لكونها خاوية لأنها تُدار من قبل عقول خاوية وفاسدة ، ولكن العقليات المتخلفة وصراع الأحزاب والمنافع الخاصة حالت دون تطوير هذا القطاع الحيوي ، الذي يمثّل لكثير من البلدان المزدهرة والراقية ، الدخل الوحيد .
تصوروا كم سيبلغ دخل هذا القطاع إن سمحنا للأجانب بإرتياد الأماكن السياحية ، الأثرية والدينية والترفيهية والتي قد يعرفونها ويقدّرونها أكثر من المعنيون بهذا القطاع ، لكن التخبّط الأمني بوضعه الهش قد حرم البلد من مردود مالي كبير ، وسيتعرض الأجنبي الزائر إلى الخطف والمساومة على فدية ، أو أن العشائر ستبتز هذه الوفود بحجة تجاوزهم على مساحة تخصهم ، حتى لو كانت هذه المساحة أرضا بورا تتبرّز عليها بنات آوى ! ، لكنها تضم معلما أثريا لا نحترمه ، لكن الزائر يحترمه أكثر منّا .
هل تعرفون زقّورة أور ، وما يصاحبها من جمالٍ وسِحرٍ وغموضٍ وأسرارٍ وهيبة ، كُتبت حولها آلاف الكتب في الغرب ، متعجّبين من رقي أول حضارة إنسانية متقدمة آنذاك وقد إنبثقت من العدم ، إنطلقت منها أول كلمة مكتوبة ، خرجت منها أول سنبلة قمح زرعها الإنسان بعد أن ترك مجتمعات الصيد ، وقرر الإستقرار والإندماج في أول مجتمع حضري ، تعجبوا كيف أن هذه الحضارة كانت تضم المدارس والقضاة والمحامين ! ، إلى درجة أن شطح الخيال بالكثير ومنهم عالم الآثار الألماني الكبير (زكريا سيتشن) ، الذي طالما تسائل متعجبا ، كيف يمكن لهذه الحضارة الراقية والتي سبقت عصرها أن ترتقي من العدم ، فكان يعتقد أن هذه الحضارة هي نتاج كائنات فضائية (لا أقصد الفضائيون عندنا) اسمهم (الأنوناكي) ، قد هبطوا على هذه الأرض ، وما نحن إلا ذرية هذه الكائنات ، ومفردة (أنوناكي) قد وردت مرارا في الرقم الطينية السومرية وتعني (القادم من السماء) ، مجرد رأي لا يمكن الجزم به أو التصريح به علنا كما فعل السيد (كاظم فنجان) وزير النقل الأسبق ، والذي تحوّل إلى مادة للتندر ! ، أنظروا لحال هذا الموقع الآن ، زقورة وسط صحراء مترامية سبخة .
أين نحن من مئات المواقع الأثرية المهملة في الجنوب والوسط والتي قد لا تقل أهمية عن موقع أور ، الكلام يطول عن المواقع الأثرية والتي تعتبر الأهم في العالم ، والتي يسيل لها لعاب الباحثين في الآثار وعلم الإنسان (الأنثروبولوجي) من كل أصقاع الأرض ، كل الأمم تفخر بتراثها وتعتز حتى بالتمثال الصغير أو اللُقية المتواضعة ، إلا نحن ، ننهب آثارنا القيمة ، ونبيعها في السوق السوداء !.
متى زرتم (طاق كسرى) آخر مرة ؟ ، ستتفاجئون من مدى بؤسه وخرابه ، بدا مهدّما دون وجود أية آليات صيانة أو لوحات تحذير للزوار من خطر تساقط القرميد والأحجار على رؤوسهم والتي ملأت أرضه ! ، لكن بإمكان الزائر التجول تحته رغم تلك المخاطر بعد دفع 3 آلاف دينار على كل فرد ، وبإيصال ذو تسعيرة 250 دينار ! .
بلدنا يضم كل البيئات ، جبلية وساحلية ، بحيرات خلّابة ، أنهار وسهول ساحرة قد تصحّرت ، أهوار فريدة من نوعها في العالم تضم تنوّع بايولوجي غني ، وها هي في طريقها إلى الزوال بسبب الجفاف ، هل يُعقل أن تكون بيوت مدينة الحبانية السياحية خرائب ومكبات للنفايات ولا تقل بؤسا عن بيوت التجاوز ؟ ، تلك المدينة التي زرتها في الثمانينيات ، وأراها اليوم وقد أدركها الهرم والإحتضار ، برغم الأجور العالية التي يتقاضاها المعنيون والتي لا تتناسب ودخل الأسرة العراقية .
المواطن يعيش مقيدا وفي سجن ، وقد أثقلت جائحة كورونا قيدَه ، وزادت من وحشة سجنه ، وصار يبحث عن مهرب بأية وسيلة فإلى أين سيتجه ؟ ، مدن الألعاب ؟ أو لمتنزه الزوراء ، والتي صارت مكتظة ؟ ، واتجهت أنظار العائلة العراقية إلى شمال العراق ، عفوا أقصد كردستان ، وبالذات أربيل لكن طريق الموت (طريق العظيم) لهم بالمرصاد وهو يتصيدهم ، عشرات الحوادث المميتة أسبوعيا ، طريق مرعب بطول لا يقل عن 100 كم من بداية الخالص وحتى طوزخزرماتو ، طريقلا لانجد له مثيلا على هذا الكوكب ، طريق يربط بغداد بخمس محافظات هي ديالى ، صلاح الدين ، كركوك ، السليمانية ، أربيل ! ، ونحن نتعجّب من حجم إستخفاف وإهمال الجهات المعنية ، وأعتقد أن لدينا هيئة بإسم (الطرق والجسور) ، ولا أعلن إن كانت مديرية أو هيئة أو أي مفردة أخرى لأن آثارها غير موجودة ، سنون طويلة ومديريات المرور تجبي لهم أموال بإيصالات تحت مسمى (الطرق والجسور) ، يتقاضون عن السيارة الخصوصي مبلغ 65 ألف دينار وعن سيارات الأجرة مبلغ 120 الف دينار ، فأين ذهبت تلك المليارات بحق الجحيم ؟! ، عدا مليارات أخرى لعشر سنين تحت مسمى مخالفة قانون الفردي والزوجي ! ، وإبتزاز شركات تحت مسمى صقر بغداد وصقر كركوك وسائر المحافظات ، والتي جنت منها المليارات !، وإذا ما وصل السائح إلى مشارف أربيل بسلامة ، وبسيارة لا تزال قطعة واحدة ، هنالك عقبة (الإقامة) ، وما بها من طوابير طويلة لإستحصال بطاقة الدخول ، لكن الإستثمار السياحي في كردستان أرقى بكثير ، فتجد النظافة والإعمار ، والإهتمام بكل الأماكن السياحية ، تجد المصاطب وأماكن الراحة المجانية في كل مكان . وهي تطل على أماكن خلابة ، على عكس (جماعتنا) الذين (نهبوا) المتزهات والحدائق العامة والمناطق المحرمة حتى إختفت من بغداد ، وجرفوا بساتين النخيل والأحزمة الخضراء ، وحلت محلّها المولات ، لتذهب أموال ريعها إلى جيوب المستثمرين ، وهم عادة من الطبقة السياسية التي تمتلك صلاحية خرق القانون ، والتلاعب بالعقارات ، هذا هو الإعمار الوحيد الذي يجيدونه ، ولا توجد في عقولهم (إن كانت لهم عقول) مفردة الحفاظ على البيئة ، وقد صل الإستهتار والإستخفاف وإهانة ذكاء العراقيين ، أن تظهر إحدى كبريات حيتان الفساد ، داعية إلى محاربة حيتان الفساد !