18 ديسمبر، 2024 6:29 م

البلبل الغرّيد يصمت!

البلبل الغرّيد يصمت!

نعت وزارة الثقافة السورية صباح اليوم الثاني من ت2/نوفمبر2021 المطرب الكبير صباح فخري، الذي توفي في دمشق، وسيحفظ هذا التاريخ يوم وفاة واحد من كبار أساطين الغناء الشرقي، من عيار أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد عبد المطلب ومحمد القبنجي ويوسف عمر وناظم الغزالي.. الذين حافظوا على أصالة الغناء العربي في أعلى مستوياته وجعلوا الغناء العربي الأصيل رغم موجة الحداثة مسموعاً على تعاقب الأجيال واختلاف الأزمان..
ولد صباح الدين أبو قوس في حلب عام 1933، في عائلة محافظة، وانشدّ منذ صغره للغناء مردوفاً بصوت جميل رخيم وأذن موسيقية، فحفظ الكثير من الأغاني والمواويل والموشحات والقدود الحلبية متأثراً بعمر البطش (ت 1950)، وعلي الدرويش (ت1952) وغيرهما، فحلب مدينة الطرب، ورغم منشأه الديني ودراسته للدين فقد مارس الغناء هاوياً مقلداً وهو في سن صغيرة فالتحق بالإذاعة وهو في السنة الخامسة عشرة عام 1948 ليُشتَهر بإسم صباح فخري، وألحقَ أسم فخري تكريما للشخصية الوطنية المسيحية فخري البارودي (ت 1966) الذي شجعه على الغناء والدراسة معاً وتعهده بالرعاية..إذ دخل معهد الموسيقى في حلب ليتعلم الصولفيج والإنشاد والإيقاع والأدوار والعزف على العود والرقص الصوفي (السماح)..ثم يتعين موظفاً في وزارة الأوقاف ويتولى الأذان في جامع الروضة في حلب.
فتألق نجمه بالرغم من وجود كبار المطربين من أمثال صبري مدلل (ت 2006) والمنافس محمد خيري (ت1981) وكلاهما ممن برع بالغناء الحلبي.. استطاع صباح أن يسجل حضوراً متصاعداً ويبُزّ أقرانه ويشيع ذكره لا في سوريا بل في عرض البلاد العربية، ويتخطاها الى بلدان العالم أنّى وجدت الجاليات العربية؛ ولعل الأشهر حين غنّى لعشر ساعات متواصلة بدون استراحة عام 1968 في فنزويلا ليدخل موسوعة غينيس كأطول من غنى بالتواصل الغنائي دون انقطاع!
سمعت صباح فخري أكثر من مرتين يشيد بالغناء العراقي في لقاءات على الفضائيات، في الأولى أشاد بناظم الغزالي صوتاً و أداءً وعبر عن اعترافه بتأثره به وخاصة حضوره على الستيج وجمال تعبيراته وحسن تعامله مع المايكرفون، وثانية تأثره بمجمل الغناء العراقي وبكنوز الألحان في المقام العراقي، وقد غنى من العراقيات: “فوق النخل” التي أدّاها الملا عثمان الموصلي (ت 1923) في حلب، وغنّى “عمي يبياع الورد” لحضيري أبي عزيز التي أبدع بها، كما غنّى “لمّا أناخوا” لماني الموسوس (ت 245ه ) التي غناها محمد القبنجي (ت 1988) من الحجاز(الحويزاوي)، وأختها ” قل للمليحة لمسكين الدارمي (ت 90ه)، وكلتا الأغنيتين يغنيهما بكثير من التطويل والإعادة والأخيرة ينتقل بها بشكل مفاجىء الى دولاب سريع ” ردي ردي عليهْ ردي” ويرد وراءه المنشدين الى حدّ السأم.. ومن مظاهر اعتزازه بالعراق ما روى الصديق الدكتور محمد الحسوني أنه التقى صباح فخري في السنوات الأخيرة في إحدى المناسبات فذهب ليسلم عليه وليصوَّر معه وقدم نفسه كعراقي، فرحب صباح فخري قائلاً باللهجة العراقية: شلونك شلون كيفك؟ أخبار المسكَوف والتمن والمركَ؟!
يمتلك صباح فخري صوتاً فريداً فريد الأبعاد والنغمة، من طبقة التينور فهو بحق عصيٌّ على التقليد على خلاف صوت محمد عبد الوهاب (ت 1991) الذي يمثل الصوت الشائع إذ قلده بإتقان عادل مأمون (ت 1990) وعبد الغني السيد (ت 1962) صفوان بهلوان( مازال حيا)؛ ويتمتع بطول النفس وإتقان الأداء فهو مطرب حذق الغناء منذ الصغر وصقل الأداء من خلال الدراسة المنهجية نظرية وتطبيقاً، وزد على ذلك يمتلك حافظة واسعة مكتنزة بقصائد من القريض ومن التراث الحلبي والشامي والعربي.. ويتمتع بإمكانية على الجزالة اللفظية وإخراج الحروف من مخارجها ورغم الكم الهائل مما يحفظ لا تجده يلحن بسبب دراسته للغة العربية والأدب العربي. لقد لُقِّب بحق “أبو كلثوم العرب”!

ولخبرته وإمكانيته دور كبير في أغاني الحفلات، فهو يخرج عن المنهاج المرسوم ويسترسل بل ويرتجل ويلبي طلبات الجمهور وينفعل بتجاوب حين يرقص رقصات السماح، ومن أهم سماته هو الإنسجام التام مع جوق العازفين ومع الرجال المنشدين فلم يحدث التباس، ذلك أنه يختار جوقاً موسيقياً واسعاً لمختلف الآلات لاسيّما الوتريات المنسابة والوتريات الإيقاعية ناهيك عن آلات الضرب!
ومن آيات انسجامه مع الفريق الموسيقي والإنشادي هو سلاسة الانتقال النغمي (المودليشن)، وبتقديري إن من أجمل ما غنّى هو سلسلة أغانيه على نغم البيات وكذلك الرست والعجم والحجاز، وغنى البدوي وأتقنه لهجة وغناء..
لم يبق مسرح عالمي أو قاعة مشهورة لم يغنِّ بها فقد غنّى في باريس ولندن وفي أمريكا اللاتينية وفي المغرب وتونس ومصر ولبنان … ولا أدري إن غنّى في العراق!
وبرحيل الأستاذ صباح فخري فقد إنهد صرح عظيم من صروح الغناء العربي الراقي لترجح كفّة الحداثة الغنائية المنقطعة الجذورعن الأصالة فما أسهل أن تكرر الأغنية الحديثة نفسها على نغم كرد وإيقاع خليجي وأصوات في أغلبها مزعج رجالياً كان أم نسائيا!
ستبقى التركة العظيمة التي تركها صباح فخري حية نابضة خالدة على مر العصور..