18 ديسمبر، 2024 10:15 م

قصة قصيرة
منذ أن بدأت أعمال تشييد القصر الرئاسي الجديد وكل شيء تغير تقريبًا، ليس بالنسبة لي فحسب، بل لغالبية شباب الحيّ، من أكمل دراسته الجامعية ومن لم يكملها بعد.
مشروع ضخم تم الإعلان عنه منذ فجر الثورة الأخيرة في البلاد وانتظره الكثيرون في أغلب المجالات، وها هي الوعود تتحقق، مجمع قصور حديثة الطراز تحل محل كل ما تم بناؤه في العهود السابقة من مؤسسات سيادية فقدت أهميتها تباعًا مع أول قذيفة مدفع أطلقها القادة الجدد، الذين صاروا فيما بعد من رجال السلطة، ومن حسن حظنا أنهم، كما جرت العادة، يحبون النأي عن سابقيهم بكل شيء، فلينعم سلطانهم بمجد العنفوان الوليد، وننعم نحن بجديد الأعمال (الرئاسية) حتى حين، وما يتسنى لنا من أمنيات.
بالنسبة لي لم أتمنَ بعد حصولي على البكالوريوس أكثر من الزواج بمن عشقتُ منذ كنت في المرحلة الثانوية، عملتُ منذ ذلك الحين بشتى المهن حتى استقررتُ في عملي برصف بلاط الحمّامات، لكني أبدًا لم أرَ مثل البلاط المستورد من أجل الحمّامات الجديدة للعهد الميمون زاهي الوعود، ليس فقط من حيث نوعيته ومتانته، إنما أيضًا لأن صورة القائد الثوري المظفر متماهية فيه بطريقة شديدة الإتقان، وكأن الزعيم بنفسه يطالع كل ما يمكن أن يحدث في كل حمّام من كل الزوايا، بوجوهٍ متعددة، ومن الأسفل المحاذي الأرض حتى بلوغ السقف، مما أوجب عليَ التعامل مع كل بلاطة بوَجل يتناسب مع سلطان المقام الرفيع طيلة الوقت.
حكيتُ هذا لبعض أصدقائي فانفجروا بالقهقهة طويلًا، وكل ظنهم أني صرت أميل إلى فبركة القصص من أجل اضحاكهم، فلزمتُ الصمت الحذِر خشية أن يأتي اسمي في تقرير يتهمني بالتهكم من سيادة القائد الجديد للبلاد، والتقارير لدينا على خلاف القصور، تبقى ذاتها سِمة كل عهد، مع اختلاف بسيط في الدباجة واستخدام بعض المفردات، كما أبقى من أكثر الشاكرين هبة كل تغيير يمكن أن ينجدني من البطالة التي أواجهها كل فترة، دون أن أتطلع أكثر من اللازم إلى عالم الفردوس الذي يستحقه رجال حملوا أرواحهم فوق أكفهم من أجل مستقبل ليس لي إلا البحث عما يخصني منه، فلا أجرؤ على المقارنة بين عليائه وما أعيشه ومن معي بمجرد مغادرتنا بوابة المجمع المعزول دومًا عن بقية أحياء العاصمة، والتي تقام قبل البدء بأي إعمار لا بد أن يتم بأفضل صورة ممكنة، نحو البيوت مستمرة التداعي بتزايد عدد القصور والمجمعات الرئاسية هنا وهناك.
كان هذا سبب آخر، بالإضافة إلى قبض المزيد من نقود المناوبات الليلية، كي نتبع مختلف السبل من أجل التسابق على المبيت داخل تلك الحصون المنيعة التي تفوح منها رائحة الأمان وشموخ من يمتلك كل شيء، بعد أن جرّد الآخرين كل شيء، وكم تمنيت لو كان بإمكاني وحبيبتي إمضاء ليلة العرس في أحد الأجنحة المنتهية حديثًا، مؤكَد أن حتى للشهوة في مثل هذه الأجواء نشوة لا تدركها حواس العامة، الفقراء منهم على نحو خاص.
بالتأكيد لن أخبرها عن شطحات هذياني لئلا تظن بي الجنون من كثرة تنقلي بين عالمين مختلفين تمام الاختلاف في ذات البلد والمدينة المشدودة على الدوام نحو ما يمكن أن يحصل داخل الأروقة التي لن ترَحب بأمثالي بمجرد انتهاء العمل ووضع آخر بلاطة تحمل وجه من تهتف الملايين باسمه، في آخر حمام (سيادي) سوف تطلى قبضات الحنفيات داخله وأبوابه بالذهب.
ما لم يأتِ به الظن أبدًا أن يحدث انقلاب آخر بهذه السرعة الخاطفة، بينما كنت أقوم بمهمة تبليط أرضية أحد الحمامات.
بدأ ترامِ القصف من كافة الجهات، والمكان يضم آلاف الحرفيين في مختلف الأشغال، فأخذتُ احتمي بوجوه السيد الرئيس المنقوشة على البلاط حتى تفتتت جميعها وصارت هشيمًا، وأنا ما بين محاولة الانقلاب ونجاح الثورة، وقد تساقط أمامي الكثير من الأصدقاء ورفاق العمل الشاق صرعى رغبة التغيير المسترسل في تاريخ البلاد، مثلها مثل نزعة البقاء الساكنة أنفاسنا حتى الرمق الأخير.
راوغتُ وهج الرصاص وهدير القاذفات المزلزِل الأرض من تحت قدميَ حتى سكنت أصوات الموت تمامًا، مخلِفةً شتى الصرخات ونداءات الاستغاثة التي كانت بمثابة نهاية عهد وبدء آخر، كنتُ ومن تبقى معي على قيد الحياة من أوائل معتقليه حتى تم إثبات براءة كلٍ منا من تهمة مساندة النظام السابق، بينما تزوجتْ حبيبتي من عامل بناء في مجمع رئاسي جديد، تقرر تشييده بطراز مختلف تمامًا عن كل ما مضى من قبل، وأنا رهن التحقيق.