12 أبريل، 2024 4:59 م
Search
Close this search box.

البعد الديني في ماضي حاضرنا

Facebook
Twitter
LinkedIn

لا نعتقد ان ثمة من يجرؤ على القول بوجود علاقة حضارية بين الفكر الاوروبي المعاصر والفكر الاوروبي قبل المسيحية كتلك العلاقة التي تربط بين حاضر العرب وماضيهم. ان العصر المسيحي في اوروبا والمقدر بـ (كذا) عام قد فصل بحدة بين ماضي اوروبا ومستقبلها حتى ان الواقع الاوروبي لم يستطع بناء شخصيته الحضارية المميزة علمانياً دون الاستعانة بروح الفكر العربي فلسفياً ولاهوتيا  ومادياً سواء أكانت هذه الاستعارة من المسيحية ذاتها او من الموسوية المصهينة او من المذاهب الاسلامية المبنية على مفاهيم الاعتقادين السابقين وكلها شكلت مجالاً خصباً للعقل الاوروبي لاستخراج نظريات يدعمها بقوة قهر العرب وسلبهم فرص البحث عن الوعي في الذات الايديولوجية، وهي نظريات مبنية على اساس رفض الهزيمة العرقية والعقائدية امام قوة العنصر والعقيدة العربية فكانت ضرورة نظريات عدائية للعرب غرزها الروح الصليبي العلماني الذي لم يكن اللاهوت الكاثوليكي لديه اكثر من حصان طروادة يعكس الصورة القديمة للصهيونية كما اثبتت محاكم التفتيش.
 ان البعد الديني يعكس بعداً فكرياً وسياسياً تتجاهله النظرية الديمقراطية والسياسيةوتطمسه كتب العلم والتاريخ الى اقصى حد ممكن كظاهرة وليس كمبادرة فردية، فهي تعكس من الناحية الدينية خلو المسيحية بطابعها الكاثوليكي من القواعد المتكاملة في معرفة وتنظيم العلاقة بين الفرد والمجتع وبين المجتمع والكون، اي فقدان الكاثوليكية للايديولوجية السياسية واعتمادها على الايديولوجية العقائدية العنيفة وقوتها اللاهوتية في ممارسة السلطة. اما من الناحية الفكرية فان صراع الكنيسة ضد طلائع عصر النهضة ونضال هذه الطلائع باسم (العلم) و (حرية التفكير) لدليل ثابت على الحدود الفكرية التي لا تسمح الكنيسة بتجاوزها. وهذه الحدود بقيت المانع الخفي الذي حال بين الاوروبيين وبين الالتصاق بالمسيحية الكاثوليكية التصاقاً ثقافياً يجعل منها سمة حضارية تربط بين الماضي والمستقبل الاوروبي بل على العكس ظهرت وكأنها اداة لفصل الارتباط بين الماضي والمستقبل بحيث رأى فيها الاوروبيون كديانة موضوعاً غيبياً يصلح للطمأنينة النفسية ولا يعبر عن طموح قومي او يملك حوافز سياسية سوى شعار (الحرب المقدسة) ضد العرب المسلمين والتي انتهت جميع محاولاتها الى الفشل.
 واذا تناول المفكرون الغربيون موضوع الدين من هذه الزاوية وقالوا انه غيبي فان هذا الرأي النابع من بيئة وتجارب معينة لسكان هذه البيئة لا ينطبق ضرورة على البيئة والواقع العربيين ومحاولة تعميمه على غير بيئته ضرب من الجهل اولاً ونفي والغاء لمعطياته الفكرية وعلميته البيئية من جهة ثانية، فالاوروبي قال عن الدين غيبيات من الواقع ما لديه وما عانى وليس من واقع المعرفة بطبيعة الدين وواقع الديانات، ولذا فقد كان يفتقر الى ايديولوجية ذات طابع سياسي وكان على استعداد لقبول اية نظرية، واذا رأى الاوروبي هذه الايديولوجية في الاسلام، فلا المسيحية ولا اليهودية ولا الصليبية كانت لتسمح للاسلام بالنفاذ الى اوروبا، فانفجرت نظرية الديمقراطية عبر الماغناكارتا ومضت في طريق التطور الى ان بلغت مرحلة الماركسية.
 ان هذا التمييز الفكري ضروري من الناحية السياسية للوطن العربي فليس العرب ولا المسلمون هم الذين قالوا ان الاسلام ظنون غيبية او افيون للشعوب ولا الاوربيون تجرأوا على قول هذا عن الاسلام، على الرغم من انتقادهم الحاد له، لكنهم قالوا الدين كما عرفوه في بيئتهم، وبعض المثقفين العرب هم الذين حملوا معنى الاطلاق على كلمة الدين وعمموها لعجزهم عن فهم طبيعة الدين في بيئتهم فهماً سياسياً وحضارياً.
 ولذا لا يجوز عربياً ترديد التحليلات الاجنبية التي تحدثت عن (عصر الايمان) و (عصر ايديولوجية)… فمثل هذا القول يتعلق بظاهرة طارئة على المجتمع وهو يشبه القول: عصر الاستعمار وعصر الاستقلال، اي المطالبة بأبعاد شكل واستبداله بآخر ربما كان اسوأ من سابقه، أفلا يفسر هذا التراجع الماركسية في صفوف العلماء والمفكرين الذين افضوا سنوات طويلة في الترويج لها والعمل على فرضها سياسياً؟ وهو تراجع انعكس حتى على صفوف الشباب الذي عاد الى تفضيل الفوضى والوثنيات والعدمية على الايديولوجية الماركسية في اوروبا.
 ان الصراع الذي تعانيه المنطقة العربية ضد الاخر المختلف يعبر تعبيراً صارخاً عن عنف الهجمة الرامية الى احداث شرخ هائل في الحضارة العربية عن طريق فصل ماضيها عن مستقبلها بتمييع حاضرها، وهذا الترابط الفريد في تاريخ الحضارات كان منذ القدم خط الدفاع الرئيس في وجه الغزوات والاقتحامات العقائدية الطارئة، انه تقليد حضاري في تاريخ العرب ومنطقتهم وهو نفسه الذي يتصدى للصهيونية والامبريالية كما تصدى للصليبية والمغولية وغيرها من قبل.
 تبقى قضية نفض التراكمات عن الايديولوجية العربية وليس زيادة هذه التراكمات فوقها امعاناً في طمسها. ان ما يعانيه الوجود العربي اليوم على مقربة من الاثر الحضاري الشاهد على منهجية الايديولوجية العربية ليؤكد ان الصهيونية التي اكتسحت الديانات والنظريات والافكار وهزمتها في اوربا وامريكا ما تزال عاجزة عن الحاق الهزيمة بالايديولوجية العربية، اللهم الا اذا تمكنت من اختراق الجدار العازل الذي يصل بين الحاضر والماضي والمستقبل، وهو جدار عندما فتحت فيه ثغرة تقسيم الوطن العربي ونزعات الاستقلال على الطريقة الاوربية ضيعت فلسطين وشردت شعبها… وتراكمت الخيبات تلو الخيبات…

[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب