ان إبرام الاتفاقيات بين طرفين أو اكثر تدل بوضوح على وجود أزمة او مشكلة بين هذه الاطراف و تحتاج الى حلول و ان ابرامها هي ثمرة جهود حثيثة و أجتماعات و جلسات طويلة و متعددة بين كر و فر محاولاً كل منهم تثبيت حقوقه في بنوده لعلمهم بأنها ستصبح وثيقة تاريخية و قانونية يمكن الاستناد اليها في المستقبل و الاعتماد عليه في المحافل الدولية و أروقة القضاء و ما أكثر هذه الاتفاقيات بين ما يمس حقوق مواطن او شعب بأكمله و في أحيان كثيرة يستعمل المفاوضات من أجل توقيع اتفاقية معينة بهدف كسب الوقت و اعادة الهيكلة و التنظيم دون ان يبالي ذلك الطرف الى أهمية موضوع الاتفاقية وان كان هذا احد أغراض الاتفاقيات إلا أنها توجد اهداف اخرى اقتصادية و سياسية و اجتماعية و أمنية .
ان الشعب الكوردي من الشعوب القديمة ان لم يكن من اعرقها في المنطقة و تدل الشواهد التاريخية على ذلك من أثار و مخطوطات .. و ان تاريخه مليئ بالثورات و الانتفاضات من أجل حقوقه المشروعة لأنه شعب يتحلى بالشجاعة و الجراءة و عدم التنازل ناهيك عن الكرم و حب السلام و العيش مع غيره وفق أسس حسن الحوار و المصالح المشتركة … هذا الشعب الذي الحق جزءاً منه عنوة بدولة العراق الحديث النشئ في بداية القرن الماضي و رغم ارادته فوجد نفسه مسلوب الحرية و الحقوق على أيدي الانظمة الحاكمة رغم كل محاولاته بالحصول على ذلك عن طريق الحوار فاضطر الى الثورة و الانتفاضة على هذه الحكومات من ملكية و اخرى جمهورية (بمراحلها المختلفة) و كلما فتحت الحكومات ابوابها للحوار امام القيادة السياسية الكوردية سارعت الوفود ذهاباً و اياباً من أجل وقف نزيف الدم لأيمانها بضرورة الحوار و العيش بسلام و لكن كانت دون جدوى .
ان أتفاقية الحادى عشر من أذار عام (1970) المبرمة بين الحزب الديمقراطي الكوردستانى و النظام العراقي كانت في مضمونها من أعظم المنجزات التاريخية في الدولة العراقية منذ تأسيسها عام (1921) و تعتبر اول وثيقة قانونية و مفصلية تضمنت فقراتها و بنودها كافة القضايا الجوهرية التي كان يتطلع لتحقيقها الشعب الكوردي لنيل كافة حقوقه القومية و الثقافية المشروعة و ان هذه الاتفاقية لم تكن وليدة ذلك اليوم و انما نتاج مباحثات طويلة و بذل جهود كبيرة اضطر النظام العراقي الى الرضوخ لمطالب الشعب الكوردي لقوة و تأثير ثورة ايلول الكبرى والمشاركة الجماهيرية الواسعة في هذه الثورة بقيادة (البارزانيى الخالد) هذه الثورة التى وحدت صفوف الشعب الكوردستانى بمجمله صنع منه صفاً واحداً للدفاع عن أرض كوردستان و مقدساته ضد الظلم و الطغيان لقد كتب الكثير عن هذه الاتفاقية التاريخية و من كل الجوانب و تم تناول أبعادها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية باسهاب من قبل ذوي الاختصاص و المفكرين و لكن البعد الامني لهذه الاتفاقية لم يتم التطرق اليها على الرغم من أهمية هذا البعد بل يمكن القول بأنه الهدف الرئيسي لأبرام هذه الاتفاقية و يمكننا بيان البعد الامني لأتفاقية (11) اذار عام (1970) بالنقاط التالية :-
1. نتيجة قيام ثورة ايلول الكبرى لأسباب معروفة منها عدم استجابة الحكومة العراقية وقت ذلك الى مطالب الشعب الكوردي حيث كانت المعارك مستمرة و فتحت جبهات للقتال على طول الحدود مع الحزب الديمقراطي الكوردستاني من زاخو حتى خانقين و استخدمت شتى انواع الاسلحة و الطائرات فلا يكاد تخلو قرية من قرى كوردستان إلا و كان لها نصيب من القصف و التدمير و القتل فلم يكن الشعب في مأمن عن حياته و ممتلكاته بل كان الخوف سائداً لهمجية الانظمة الحاكمة و لكن بابرام الاتفاقية ساد السلام و ازال الخوف من النفوس و بدأت الحياة تعود الى مجاريها من بناء و تنمية و تعليم و يمكن اعتبار هذا البعد اساساً لتنفيذ كل بنود الاتفاقية فلا يمكن للتعليم او الاقتصاد او غيرها ان تجد النور دون توفير الامان.
2. أن هذه الاتفاقية أصبحت الاطار الامني لحماية حقوق الشعب الكوردي حيث نصت في بنود عديدة منها على ضرورة حماية (حق التعليم و العمل و التوظيف و غيرها) دون خوف من السلطات الحاكمة التي كانت تتعامل مع هذا الشعب بالحديد و النار و كانت أجهزتها الأمنية أداة قمعية رهيبة تمارس شتى أنواع التعذيب بحق أبناء الشعب الكوردي و لكن بابرام هذه الاتفاقية وضعت حداً لتعسف السلطة و أنتهاكها لحقوق و حرياته هذا الشعب .
3. بابرام هذه الاتفاقية بداء أبناء الشعب الكوردي بالانخراط في صفوف الأجهزة الأمنية من الشرطة و المرور و شاركوا في حماية حياة المواطنين و ممتلكاتهم بعد ان كانت هذه الاجهزة تدار من قبل منتسبى من الوسط و الجنوب .
4. نصت الاتفاقية في بنودها على حماية حقوق الاقليات المتعايشة في كوردستان حيث اصرت القيادة الكوردية على أهمية تأمين حقوق الاقليات ايماناً منها بأن امن المنطقة لايأمن عقباه اذا كانت الحقوق منتهكة و لايمكن ان تتعامل مع هذه الاقليات مثلما تعاملت الانظمة العراقية مع القومية الكوردية لأن هذه الاقليات عاشت منذ زمن طويل في هذه المنطقة و شاركت الكورد معاناتهم و انتصاراتهم وقدمت التضحيات في سبيل ذلك .
ان الاتفاقية على الرغم من نص العديد من بنودها على المركزية و ضرورة اصدار القرارات من المركز كانت اتفاقية مهمة حيث اعاد للشعب الكوردي هيبتها و للقيادة السياسية حكمتها و قدرتها و ان النوايا السيئة للنظام الحاكم من وراء الابرام جعل عمرها لاتتجاوز سنوات و خلال هذه السنوات القليلة كانت تفعل فعلتها بالتدمير و الترحيل و دس المؤامرات ضد القيادة الكوردية و خاصة شخص البارزانى الخالد عن طريق عدد من رجال الدين . حتى سنحت لها الفرصة بتوقيع اتفاقية جزائر المشؤمة في (6/3/1975)