في مشهدٍ قد يمزج بين اللامبالاة والمأساة، وفي لحظةٍ كاشفةٍ تجمع بين السخرية المرة والمفارقة المؤلمة، وفي زمن تتقاطع فيه المفارقات بين التبجيل المزيف للمسؤولية والإسراف المقيت على حساب الشعب، يبرز المشهد العراقي كمثال صارخ للتناقض المؤلم بين الواجب العام وشهوة السلطة. بينما يعيش العراقيون تحت وطأة الفقر وانعدام معظم الخدمات الأساسية إن لم نقل معظمها ، ما تزال تتحول حمايات المسؤولين العراقيين إلى مسرح عبثي يفوق الخيال، ولننظر إلى مفارقة أخرى أكثر إيلامًا : علماء الذرة الإيرانيون، الذين يحملون على عاتقهم مشروعًا علميًا يتحدى العالم، يعيشون في شقق متواضعة، أثاثها بسيط كأنه ينتمي إلى بيوت الطبقة الوسطى في أحسن أحوالها . كاميرات الصحافة والإعلام نقلت هذا التواضع المذهل بعد استهدافهم في حرب إسرائيل على إيران التي استمرت 12 يومًا . هؤلاء العلماء، بمكانتهم المرموقة، لم يطالبوا قصور فارهة أو أثاث فاخر، بل كان همهم العلم والتقدم خدمة لوطنهم . في المقابل، ماذا نرى في العراق؟ مسؤول بسيط في دائرة متواضعة خدمية وفور ان يتسلم منصبه، فيهرع فورًا إلى تغيير موكب سيارته الحكومية وأثاث مكتبه الجديد تمامًا، وكأن العجلات والأثاث القديم يحمل وصمة العار أو ينتقص من هيبته المصطنعة. إنفاقٌ لا مبرر له سوى نزوة التباهي والاستعلاء، في بلد يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة المعيشية الكريمة.
كشف تعطل سيارة الرئيس الإيراني الدكتور “مسعود بزشكيان “بسبب بنزين مغشوش بالماء عن حقيقةٍ عارية: أن السلطة، حتى في دولةٍ تتحدى العالم بنهضتها النووية، قد تخضع لتواضع الظروف أو تقصير غير المتعمد في الإدارة. لكن، في العراق، حيث يفترض أن تكون السلطة أمانة لخدمة شعبٍ منهك، يتحول المنصب الحكومي إلى قناعٍ يتستر خلفه المسؤولون ليمعنوا في نهب الموارد وتكريس لسردية الامتيازات والمخصصات في العقل الجمعي العراقي، في تناقضٍ صارخ مع أبسط معايير المسؤولية. بينما يعيش الرئيس الإيراني لحظة إحراجٍ عابرة على الطريق وفي حدث خلال جولته لزيارة مدينة تبريز، بعد أن وقع موكبه ضحية وقود مغشوش بالماء في محافظة قزوين، ما تسبب في تعطل المركبات في وقت واحد، ليستقل بزشكيان في النهاية مركبة أجرة . الواقعة المثيرة التي تناقلتها مختلف وسائل الإعلام الإيرانية وانتشرت افلامها المصورة على مواقع التواصل الاجتماعي والتي تظهر على وجه الرئيس علامات الذهول والمفاجئ من هذا الحدث وتختلط بالرضى والابتسامات وليس الغضب والعصبية , حينما كانت 3 مركبات تقل الرئيس ومرافقيه متجهة من قزوين نحو مدينة تبريز، مسقط رأس الرئيس وبدوره لم يتواصل الرئيس بعد الحادثة مع المحافظة ويتم تعنيفه بأشد العبارات، ولم يتخذ أي إجراء رسمي ضده، بل كان على بساطته أن استقل سيارة أجرة خاصة وأكمل مسيره وتوجه بها إلى محافظة تبريز؟ تصور رئيس دولة مهمة ومستهدف من قبل قوى الاستكبار العالمي موكبه من ثلاث سيارات عادية جدا !. والآن من فضلك لنعكس الصورة قليلا الى الجانب الأخر في العراق ولو تعرض ابسط مسؤول لمثل هذا الموقف يا ترى ماذا تكون ردة فعله على المواطن قبل الموظف المسؤول البسيط , ولدينا على منصات التواصل الاجتماعي منذ عام 2003 ولغاية الإن ليس عشرات بل مئات الأفلام المصورة والتي يتنقل المسؤول العراقي في مواكب مدرعة تضاهي جيوشًا صغيرة، وكأن العراق في حالة حربٍ دائمة ضد مواطنيه. هذه المواكب، التي تُكلف خزينة الدولة ملايين الدولارات، ليست مجرد وسيلة حماية، بل رمزٌ لاستبدادٍ يتفنن في إذلال الشعب. ففي الوقت الذي يعاني فيه العراقيون من انقطاع الكهرباء والماء، ونقص الخدمات الصحية، وتردي التعليم، يُصر المسؤولون على إحاطة أنفسهم بجيوشٍ من الحراس، وسياراتٍ مصفحة، وأثاثٍ مكتبيٍ جديد يُستبدل مع كل منصبٍ جديد، حتى لو كان الأثاث السابق في أفضل حالاته. هذا الإسراف المقيت ليس سوى دليلٍ على أن المنصب، في عيون هؤلاء، ليس تكليفًا للخدمة العامة، بل تشريفٌ للتفاخر واستعراضٌ للنفوذ. هذا الاستهتار بموارد الدولة، في بلدٍ يفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة، ليس سوى خيانةٍ للأمانة واستهانةٍ بمعاناة الشعب. والأدهى من ذلك هو منظومة الحمايات الأمنية، التي تكشف عن عمق الفساد والمحسوبية. ففي العراق، حيث الأعراف السياسية تطغى على القوانين، يحظى المسؤولون الحاليون والسابقون، وقادة الأحزاب المتنفذة، بحماياتٍ مبالغ فيها تُستنزف منها موارد الأجهزة الأمنية. عناصر الحماية، التي غالبًا ما تكون من أقرباء المسؤولين أو أعضاء أحزابهم، تُنسَّب من مواقعها الأصلية إلى مكاتب الأحزاب، في تعدٍ صارخٍ على القانون وإرهاقٍ للميزانية الوطنية. رؤساء حكومات سابقون، يحيطون أنفسهم بحراسٍ من أبناء عشائرهم، في مشهدٍ يعيدنا إلى العصور الإقطاعية، حيث الولاء للزعيم يحل محل الولاء للوطن. هذا العرف السياسي المشؤوم، المتجذر منذ 2003، يجعل من تقليص هذه الحمايات مهمةً شبه مستحيلة، رغم محاولات الحكومة البائسة التي تنتهي دائمًا بالفشل. في النفوذ الذي يتمتع به المستفيدون من هذه الامتيازات يحول القرارات الإصلاحية إلى مجرد شعاراتٍ جوفاء. إنها فضيحةٌ وطنية: دولةٌ تُدار بعقلية الأحزاب والعشائر، ومسؤولون يرون في المنصب فرصةً للترف والاستعلاء، لا واجبًا لخدمة شعبٍ يستحق الأفضل. إن تعطل موكب الرئيس الإيراني، رغم إحراجه، يحمل درسًا عميقًا: أن القائد الحقيقي لا يحتاج إلى مواكب فخمة أو أثاثٍ جديد ليثبت قيمته، بل إلى تفانٍ في خدمة شعبه. في المقابل، يستمر المسؤول العراقي في التخفي خلف ورقة المنصب، متوهمًا أن موكبه المدرع ومكتبه الفاخر سيخفيان فشله واستهتاره. لكن هذه الورقة قد سقطت، وبانت بوضوح عورة حقيقتهم وسرقتهم لموارد الدولة ولم يعد بإمكان الشعب العراقي تحمل هذا العبث. حان الوقت لمحاسبةٍ جذرية، المسؤولين يدركون أن المنصب تكليفٌ وليس تشريفًا، وأن العراق يستحق قادةً يضعون الوطن فوق أنفسهم، لا العكس.
هذا العرف السياسي المشؤوم، يضمن استمرار هذا النهب الممنهج تحت مسمى “الحماية”. مسؤولون حاليون وسابقون، وقادة أحزاب متنفذة، يتمتعون بأجهزة أمنية مدربة تُكلف الخزينة ملايين، بينما المستشفيات تفتقر للأدوية والمدارس تنهار. إنها فضيحة بكل المقاييس: دولة يحكمها عرفٌ يقدس الامتيازات على حساب الشعب، ومسؤولون يتفننون في استغلال السلطة لتعزيز نفوذهم الشخصي. قرارات تقليص الحمايات، رغم أهميتها، تبقى حبرًا على ورق في مواجهة هذا الجدار المنيع من الفساد والنفوذ. إن ما نشهده ليس مجرد فشل إداري، بل جريمة وطنية تُرتكب يوميًا بحق شعب يستحق قيادة تخدمه، لا أن تسرقه. متى ستتوقف هذه المسرحية العبثية؟ متى سينتهي هذا الاستهتار بمقدرات العراق؟ إن الصمت على هذا الواقع هو تواطؤ، والحل الوحيد هو محاسبة صارمة وجذرية لهؤلاء الذين يحولون الدولة إلى مزرعة خاصة تخدم مصالحهم وأحزابهم. العراق يستحق أفضل من هذا العبث، والشعب يستحق قادة يضعون الوطن فوق أنفسهم، لا العكس.
هذا المشهد ليس مجرد انتقاد، بل صرخة غضب ضد ثقافة الاستبداد بالسلطة والإسراف على حساب الشعب. إن العراق يستحق قادة يضعون مصلحة الوطن فوق نزواته الشخصية، قادة يستلهمون من بساطة العلماء وتفانيهم، لا من ترف السلطة ووهم العظمة. فمتى يستفيق المسؤول العراقي من سكرة السلطة، ويعي أن قيمته ليست في موكبه أو أثاث مكتبه، بل في خدمة شعب يستحق الحياة الكريمة؟ وفي العراق، يتحول المنصب الحكومي في يد المسؤول إلى وسامٍ للتفاخر ومظهرٍ للتعالي على الأقران، بدلاً من أن يكون تكليفاً مقدساً لخدمة المواطن. بينما تتسابق الدول التي تحترم شعوبها لتقديم أفضل الخدمات، وتعمل بجدٍ لتذليل العقبات أمام رفاهية مواطنيها المعيشية والخدمية، يبقى المسؤول العراقي أسير نزوات السلطة، يرى في منصبه تاجاً يزين به جبينه، لا أمانةً لتحسين حياة شعبٍ منهك.
إن تعطل موكب الرئيس الإيراني الدكتور “بزشكيان” رغم إحراجه، يكشف عن درسٍ عميق: القائد الحقيقي لا يحتاج إلى مواكب فخمة أو أثاثٍ جديد ليثبت قيمته، بل إلى التزامٍ بخدمة شعبه. الرئيس جراح القلب المخضرم، أظهر مثالاً نادرًا للتواضع والتفاني عندما سارع لإجراء عملية جراحية دقيقة استجابةً لنداء إنساني عاجل، حيث أجرى بنفسه عمليتي جراحة قلب مفتوح في مستشفى الشهيد “مدني بتبريز” وهذا الموقف، الذي يعكس التزامه العميق بخدمة المحتاجين، يكشف عن جانبٍ إنساني استثنائي لدى رجلٍ يشغل أعلى منصب في الدولة. رغم ثقل المسؤوليات السياسية التي تُلقى على عاتقه كالجبال، اختار “بزشكيان” أن يضع نداء الإنسانية والواجب الطبي فوق هيبة منصبه، مؤكدًا أن قيمة القائد تكمن في خدمته للناس، لا في زيف السلطة. وقبل أن يتبوأ الرئيس الإيراني منصب الرئاسة، كان جراح قلبٍ بارع، يحمل في يديه مهارةً أنقذت أرواحًا لا تُعد . واليوم، في خطوةٍ غير مسبوقة لرئيس دولة، أثبت “بزشكيان” أن التزامه الإنساني والأخلاقي الذي تمليه عليه مهنته كطبيب يتجاوز حدود السياسة. هذا العمل، الذي يعكس تواضعًا نادرًا وتفانيًا استثنائيًا، يبرز التزامه بخدمة الناس، مؤكدًا أن قيمة القائد لا تُقاس بفخامة منصبه، بل بقدرته على الإجابة لنداء الواجب الإنساني، حتى وسط أعباء الرئاسة.
على النقيض فأن المسؤولين العراقيين بعد 2003 غالبًا ما ارتبطوا بممارسات الترف والاستغلال المنصب للثراء الفاحش بعد ان كانوا معدمين بل ان بعضهم لا يملكون حتى قوت يومهم ، واليوم نراهم يتباهون بكثرة العجلات المدرعة والحمايات المبالغ فيها وتغيير الأثاث المكتبي دون داعٍ، بدلاً من إظهار تفانٍ إنساني مباشر مثل إجراء عمليات جراحية. هذا يبرز الفارق الكبير بين سلوك الرئيس الإيراني وبين الثقافة السياسية السائدة في العراق، حيث الأعراف السياسية غالباً ما تطغى على القوانين وتُعيق الإصلاحات.لكن المسؤولين السياسيين غالبًا ما يرتبطون بممارسات بعيدة عن هذا النوع من التفاني. فإن ورقة عورة المنصب قد سقطت، مكشوفةً زيف المسؤول الذي يتستر خلف مواكبه المدرعة ومكاتبه الفاخرة ليخفي فشله واستهتاره. هذا العبث لم يعد يحتمل. حان الوقت لمحاسبةٍ جذرية، المسؤولين يدركون أن المنصب تكليفٌ وليس تشريفًا، وأن العراق يستحق قادةً يضعون الشعب فوق أنفسهم. فمتى تنتهي هذه المسرحية المقيتة، ويعود العراق إلى شعبه؟
هذا التناقض الصارخ يكشف عن أزمة عميقة في مفهوم المسؤولية، حيث يُستبدل الواجب الوطني بشهوة التميز الشخصي، تاركاً المواطن العراقي يصارع واقعاً متردياً دون أملٍ حقيقي في التغيير.