لعل أهم ما جاء به التسجيل الصوتي الأخير لنائب الرئيس العراقي الأسبق عزة الدوري اقراره بطريقة غير مباشرة بوجود تحالف بين مايسمى بالقيادة العليا للجهاد والتحرير التي يترأسها وبين تنظيم الدولة الاسلامية حيث لم تكن اشادته بمقاتلي الدولة الاسلامية أمرا غريبا أو حدثا عابرا بل كان دلالة قوية على حقيقة باتت دامغة في عقول العراقيين وهي أن هناك تحالفا سياسيا وعسكريا بين حزب البعث وتنظيم القاعدة يعود للعام 2003 وهو عام أجتياح العراق وسقوط حكم البعث من قبل القوات الأمريكية ، هذا التحالف الذي كان واضحا للعيان عراقيا وأقليميا ودوليا ولم يكن هناك من ينكره الأ البعثيون أنفسهم الذين سعوا مرارا وتكرارا الى النأي بأنفسهم عن التنظيمات الأصولية أبتداءا بتنظيم التوحيد والجهاد مرورا بدولة العراق الاسلامية وأنتهاءا بالدولة الاسلامية رغم وجود مؤشرات كثيرة على وجود هذه الصلات وتلك التحالفات ، وقد حاول الدوري من خلال تسجيله العمل على توحيد كلمة الفصائل المسلحة التي باتت تسيطر على أجزاء واسعة من شمال وغرب البلاد وصولا الى تخوم العاصمة بغداد (والتي شدد على قرب ساعة الحسم فيها) بعد نكسة الموصل أما الأمر المهم الثاني هو دعوته لأبناء الجنوب لتأجيل الخلافات والأنتفاضة على ماأسماه بالحكم العميل لايران .
وبنظرة موضوعية لأهم نقطتين في التسجيل الصوتي نجد أن السيد الدوري قد ناقض نفسه وبين ان قراءته للواقع العراقي غير سليمة ولاتزال مرتبطة بمفهوم الشعارات التي طالما رددها البعثيون طيلة 35 سنة هي سنوات حكمهم للعراق ودعونا نوضح بداية أنه في أوقات الطوارئ (الحروب والثورات) لايشترط لنشوء تحالف ما تطابق أيدولوجي وأنسجام عقائدي بين الأطراف المتحالفة أنما يكون المعيار الحاسم للتحالف هو التطابق في الأهداف ووحدة العدو ولنا في ذلك شواهد عديدة فقد تناسى الغرب الرأسمالي (بريطانيا والولايات المتحدة) عداءهم مع الشرق الأشتراكي (الأتحاد السوفيتي) وكونا جبهة واحدة لدحر العدو الأخطر والأكبر لهما وهي ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية ، كما تلاشت الأختلافات الأيدولوجية والسياسية وزالت الفوارق الأجتماعية بين الشيوعيون والقوميين والبعثيين والليبراليين وتحالفوا مع تنظيم الضباط الأحرار العسكري لغرض
الأطاحة بالنظام الملكي العراقي في ثورة 14 تموز 1958، ومن هنا يتضح أن التحالف بين البعثيين ووتنظيم الدولة هو أمر مقبول من الناحية السياسية فلا توافق بين الطرفين أيدولوجيا وعقائديا ولكن ثمة مايوحدهما وهو العدو المشترك لهما وهي حكومة السيد المالكي والعملية السياسية التي أقامها الأحتلال الأمريكي في العراق لكن هذا التحالف ان كان مقبولا سياسيا فهو مرفوض وطنيا وهي (أي الوطنية) تعتبر الشعار البراق الذي طالما رفعه البعثيون في وجه خصومهم السياسيين ووضعوها في أدبياتهم أساسا لنضالهم ضد الأحتلال وعملاؤه ومن هنا يأتي التناقض بين اقرار الدوري بتحالفه مع داعش وطلبه في ان واحد من أبناء الجنوب أن يثوروا وينتفضوا ضد الظلم والطغيان !!! فكيف يمكن لأبن الجنوب أن ينتفض ضد واقعه المرير وينضم الى تحالف سني يتصدره تنظيم أصولي متطرف يكفر أهل الجنوب وينعتهم بالروافض ويتوعد مدنهم بحساب عسير وقديم وبتدمير مراقدهم الدينية ناهيك عن سفكه لدمائهم طيلة السنوات الماضية بواسطة مئات السيارات المفخخة التي بثت الرعب وأسالت الدماء ومزقت الأشلاء في شوارع بغداد والمحافظات الجنوبية؟ وكيف يمكن له أن يثق بمن يطعن في دينه وعرضه وانتماؤه؟ وكيف له أن يعترف بمن يرفض الأعتراف به أصلا ولايرى وسيلة للتفاهم معه الأ بقتله ؟ فأذا كان السيد الدوري يرى أن هناك فرق بين الحكومة والجيش والأجهزة الامنية والميليشيات وبين العشائر العربية الأصيلة في الجنوب فأن هذه التفرقة لامكان لها في أدبيات داعش التي تهدر دم الشيعة الرافضة المشركين (حسب وصفها) عموما عربا أو فرسا أو كردا أو تركا وتختفي مفردة الوطنية من قاموسها ولاترى أي امكانية للقبول بهم ناهيك عن الحوار معهم . ان مثل هذه الدعوة هي نوع من العبث وضربا من ضروب الخيال فحتى العروبيون والليبراليون والعلمانيون واليساريون التقدميون من أبناء الطائفة الشيعية لايمكنهم التحالف مع داعش بحجة تغيير الوضع القائم وهو تغيير أن حصل فهو تغيير نحو الأسوء نظرا لظلامية ورجعية هذا التنظيم الذي أعلن قيام الخلافة الاسلامية قبل فترة بسيطة دون أن ننسى أن تحالف البعثيين مع داعش قد بني على أساس مذهبي طائفي لاشان لأبن الجنوب به شأنه في ذلك شأن التحالف المذهبي الطائفي الذي يجمع رئيس الحكومة السيد المالكي مع ايران ونظام الأسد في سوريا كما أغفل السيد الدوري وجود عقدة حقيقية في المجتمع العراقي ساهم الأحتلال في تأجيجها وهي الطائفية فعندما أنتفض الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال ضد نظام الرئيس الراحل صدام حسين في العام 1991 وقف السنة موقف المساند أنذاك للنظام مقتنعين بما كانت تردده أبواق النظام الأعلامية من ان مايحصل هي مؤامرة ايرانية ينفذها غوغاء وعملاء يريدون بالعراق الشر والحقيقة ان عدم تحرك السنة أنذاك كان نابعا من عدم رغبتهم في فقدان السلطة التي كانوا يشكلون عمودها الفقري وليس حبا في صدام وهاهو التاريخ يعيد نفسه فمشاركة الشيعة للعشائر السنية في أنتفاضتها يبدو أمرا صعبا ان لم يكن مستحيلا فهم في الغالب يصدقون ماتبثه لهم الأبواق الأعلامية للحكومة وحزب الدعوة من وجود مؤامرة سعودية قطرية تركية لتقسيم العراق واشعال نار الحرب الطائفية بأدوات بعثية وتكفيرية وللسبب ذاته هو عدم الرغبة في فقدان السلطة التي يشكل الشيعة أساسها وعمودها الفقري لأول مرة في تاريخهم السياسي وليس حبا أو ايمانا بشخص المالكي وللتاريخ نقول أن ماحصل في عام 1991 هو أنتفاضة شعبية ضد نظام مستبد دمر العراق بسياساته الحمقاء وكان يجب عليه التنحي والرحيل بعد الهزيمة العسكرية المدوية التي تعرض لها الجيش العراقي في حرب الخليج الثانية وانسحابه من الكويت لكن دخول الأحزاب الشيعية المعارضة الموجودة في ايران وركوبها موجة الأنتفاضة حرفها عن مسارها الوطني وجعلها تتخذ طابعا طائفيا دمويا انتقاميا وهو مامهد لفشلها ومايقال في ذلك الوقت يقال اليوم أيضا فقد
بدأ أبناء الطائفة السنية اعتصامات سلمية دستورية طالبوا من خلالها بحقوقهم المشروعة لمايزيد عن العام لكن مماطلة الحكومة في الاستجابة لمطالبهم والسياسات الاقصائية والانتقائية والطائفية الغبية دفعتهم لحمل السلاح بوجه الحكومة وهومامهد الطريق بدوره لتنظيم الدولة الاسلامية لركوب الموجة هو الأخر واعادة أحياء خلاياه النائمة وتصوير الأمر على أنه معركة طائفية مع الشيعة لاثورة وطنية لاستعادة الحقوق المسلوبة كما مثلت هذه الأحداث الفرصة الذهبية لعودة الحياة لأنصار النظام السابق .
ان السياسات الطائفية للسيد المالكي ضد الطائفة السنية هي مامكنت داعش من اعادة أستلام زمام المبادرة (بعد ماتلقت ضربات موجعة على يد مقاتلي الصحوات السنة في العامين 2007-2008) عبر الأستفادة من أخطائها السابقة وبناء تحالفات و صلات وثيقة مع البعثيين وضباط الجيش السابق ورجال العشائر وهو تحالف بات ممثلا حقيقيا وقويا للسنة لايمكن تجاهله اذا ماأريد الحفاظ على وحدة البلاد .
وهنا نود أن نوجه رسالة لأعضاء حزب البعث بأن سكوتكم في الماضي عن الأخطاء التي أرتكبتها قيادتكم أدت الى المأساة التي عصفت بالعراق وشعبه وبحزب البعث نفسه أملين منكم عدم السماح لقيادتكم الجديدة باعادة ارتكاب أخطاء قاتلة أخرى ستفضي الى تقسيم العراق على أسس طائفية لامحالة ولعل خطأ التحالف الطائفي مع تنظيم الدولة يمثل أولى تلك الأخطاء وأخطرها وأكبرها خصوصا اذا ماعلمنا بأن لهذا التحالف أنصار ومؤيدين في الموصل والرمادي والفلوجة وتكريت لكنه قطعا لن يكون الأمر كذلك في البصرة والسماوة والنجف وكربلاء والحلة والكوت وهو ماينبغي على الحزب مراجعته في ظل دعوته للثورة الوطنية تنقذ العراقيين جميعا بدون تمييز من مأسي العملية السياسية وظلم الحكومة وليحذو حذو المعارضة السورية التي على رغم من ضعفها الأ انها أكتسبت احترام الجميع عندما ثارت ضد ظلم الأسد لكنها في نفس الوقت تصدت وقاتلت ببسالة تنظيم الدولة ورفضت الخضوع له . وعلينا هنا أن ننبه البعثيون بأن عودة الأمور الى ماكانت عليه قبل 9-4-2003 يبدو سرابا لامجال له للوجود لأسباب عدة محلية وأقليمية ودولية وأن عليهم أختيار قيادة جديدة لهم تقوم بمراجعة حقيقية لسياسات الحزب وتقدم اعتذار علني وصريح لكافة أبناء الشعب العراقي عن كل الأخطاء والتجاوزات والجرائم التي أرتكبت على المستوى الداخلي والخارجي ودفع ثمنها الوطن والشعب العراقي طوال فترة حكمهم للعراق (1968-2003) وفي نفس الوقت فأن على قوى الاسلام السياسي الشيعي التي تسببت سياساتها الطائفية بهذه الكارثة الوطنية أن تعي جيدا بأن أستمرار العراق في ظل هذه العملية السياسية العقيمة هو أمر محال وبالتالي فأن حلنا الوحيد اذا ماأردنا بقاء هذا الوطن واحدا موحدا هو التلاقي وايجاد صيغة للعيش المشترك والسلم الأهلي في ظل نظام سياسي جديد لايفرق بين أبناء الوطن على أسس طائفية وعرقية .