تلوح في أفق العراق بروق ورعود تنذر بحرب أهلية – طائفية تصل بالمشروع الأميركي الذي بدأ في ذلك الربيع المشؤوم من عام 2003 إلى غاياته , فمع احتقان المشاعر الشعبية و تصاعد التوتر السياسي و سفور الوجه الطائفي القبيح والفاسد لأهل النظام سنّتهم وشيعتهم , انكشف الأمن الوطني العراقي وأصبحت شرارة واحدة كفيلة بتفجير البلد إلى شظايا تنتظر قوى اقليمية متربصة أن تتقدم لقضمها .
في مثل هذه الأجواء المكفهرة يتجاوز أستاذ جامعي مألوف صياغة أسئلة الامتحانات ليطرحها على الطلاب بصيغة تعمّد فيها استفزاز موروثهم الطائفي ومعتقداتهم الدينية , فالمعروف أن هكذا أسئلة امتحان في قانون العقوبات تأتي كما يلي : “ضبط شاب شقيقته في وضع متلبس مع شاب آخر فقام على الفور بقتلهما معاً , ما حكم القانون عليه ووفق أية مادة من قانون العقوبات ” , و بالقطع لم يكن هذا الأستاذ غافلا عن الايماءات الرخيصة الكامنة في صيغة أسئلته , وبالقطع لم يكن ليجرؤ على طرحها للطلاب لو لم يكن واثقاً من توافقها مع هوى العقرب الطائفي الأصفر الذي يتولى حقيبة وزارة التعليم العالي , وأنه سيوفيه حسن الجزاء و قد ” ينط ” بعدها إلى موقع أكاديمي أو وظيفي أرفع , ولعله ووزيره كانا ينتظران أن يعيد بعض الطلبة كردّة فعل عصبي صياغة السؤال مستخدمين أسماء آل بيت النبوة حتى تندلع مذبحة في الجامعة وتمتد الى محافظة ديالى ذات الأغلبية السنّية و منها إلى كل العراق ! .
ثم يخرج على الناس – حتى يزداد الظلام قتامة – معمّم نكرة يمنح نفسه بلا سند شرعي ولا أخلاقي ولا وطني حق تشكيل ميليشيا مسلحة ويجاهر بلا حياء أنها مكرّسة فقط لإبادة من أسماهم بالبعثيين ومعارضي الحكومة قاصداً بهم أهل السنّة تحديدا , و ليس من الحكمة التقليل من شأن وخطورة هذا الدعيّ , لأنه مع انتشار البطالة والأمية والجهل في العراق الجديد واليأس من غدٍ أفضل لدى الشباب , فإنه قادر على تنفيذ وعيده بمجرد أن يجد من يتبناه ويموّله من جهات لها مصلحة بتفتيت الكيان العراقي , ويأتي في أول القائمة الأكراد واسرائيل وقطر والسعودية ؛ و يكمل السيد نوري المالكي مهزلة البطاط فصولا بمناشدته المواطنين مساعدة أجهزة الأمن للقبض عليه وكأنه يريد أن يقنع الناس بأن دولته ذات المليون عسكري عاجزة عن اعتقال بلطجي تعرف طريق الوصول إليه وسائل الإعلام والفضائيات ! والحقيقة أن السيد المالكي يجد في هذا البطاط سنداً له في صراع الإرادات الذي يدور اليوم في العراق , فمع اتخاذ هذا الصراع وجهاً طائفيا سافراً , فهو بحاجة لكل معين في هذا المضمار سواء كان طائفياً متجملا كحسين الشهرستاني أو خالعاً لبرقع الحياء كالبطاط ! .
ومن سوء حظ العراق أن يتصدر مشهد الحراك الشعبي بمطالبه المشروعة أكثر شرائح العراقيين تخلفاً من شيوخ عشائر و معممين , وأن يجري سلخ الوجه الوطني لهذا الحراك وتمويهه بوجه طائفي يبرر طائفية الآخر ويمنحها شرعية , فمن ساحات الموصل والأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك وبغداد , لا تُسمع إلا أصوات شيوخ عشائر ممن يرتشون بوجبة عشاء أو معممين من الدرجة العاشرة ينعقون بخطاب ديني طائفي وكأنهم يتصدون لكفار قريش ! لا يجوز في بلد ذي وضع حساس كالعراق أن يتصدى معمم للحديث في السياسة مهما أوتي من حسن النية وارتفع فوق الشبهات , وأن يقود الناس في وقت حرج وخطر شيخ عشيرة مرتزق وجاهل , ثم إن الناس لم تخرج ضد حكومة مشركة بالله أو مجاهرة بالكفر ولا خرجت لنصرة الدين والجهاد في سبيله , لكن الناس خرجت ضد نظام فاسد عميل وعاجز وفاشل يقوده لصوص ينتمون لكل المذاهب والأديان , خرج الناس طلباً للعدل وحق المشاركة بثروات بلدها وبصنع القرار السياسي فيه ودفاعاً عن سيادته واستقلاله في وجه محاولات الهيمنة الايرانية والتركية , خرج الشباب العراقي بحثاً عن أمل بغدٍ أفضل وأكثر أماناً , وطلباً لضمان مستقبله بالعلم والعمل وحياة مستقرة في بلد تسمح امكانياته بتأمينها في ظل نظام حكم رشيد , وفي هذه الأحوال يجب أن يتصدر المشهد المثقفون الوطنيون وقادة الرأي الوطنيون المخلصون المنزهون عن الأمراض الطائفية والطمع بالمال العام , رجال من مثال محمد حديد وجعفر أبو التمن وناجي طالب والحكيم راجي التكريتي وأحمد الحبّوبي وعبد العزيز الدوري و خالد علي الصالح .
لم يكن تصدّر المعممين وشيوخ العشائر لمشهد الحراك الشعبي عشوائياً , لقد كان محسوباً ومعروفة نتائجه , بدا الأمر وكأن نصف الشعب العراقي قد سئم من تحكم واستئثار النصف الآخر بالسلطة والثروة , وأن خلاصه يكمن في استقلاله بكيانات طائفية يقولون له أنها سترفع عنه المعاناة وتجعله سيد قراره وسيتمرغ بنعيم ثروات اقليمه , ولكن الأمر ليس كذلك أبداً وليس على هذه الصورة الوردية الزائفة , لأنه سيبدأ بحرب مناطقية دامية لحسم الخلاف على حدود الاقليم , ثم سيتركز الخلاف ليصبح طائفياً بحتاً يتحكم بمساره قتلة تنظيمات القاعدة وأشباههم وعصابات جيش المهدي وفيلق بدر وآخر تقليعات الاجرام جيش المختار , وسوف يتقدم الأكراد بالدعم للفريقين ويستغلون انشغالهما بذبح بعضهما لانتزاع أكبر مساحة من أرض العراق بحماية تركيا والولايات المتحدة , ثم وبالضرورة سيقع كل جزء من العراق تحت وصاية قوة اقليمية تتجانس معه في رؤيته الطائفية ولكنها ستحوله الى تابعٍ ذليل وسوق مستهلك لسلعها , وكذلك يختفي العراق من خرائط الجغرافيا في الوقت الذي تحرص فيه دول مثل الصومال وجيبوتي وجزر القمر للحفاظ على كيانها , وكذلك تندثر من سجلات التاريخ صفحات شرف سطّرها العراقيون سواء في ثورتهم عام 1920 أو في حروبهم المجيدة في أعوام 1948 و 1973 و1980 , أو إبان نهضتهم الباهرة التي أوشكت أن تضعهم في مصاف الدول المتقدمة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي .