18 ديسمبر، 2024 9:11 م

البطولة – منتج الوهم صورة التجسّد

البطولة – منتج الوهم صورة التجسّد

البطولة: تلك المفردة التي نالت من التبجيل والمكانة ما لم تصله مفردة أخرى، عشقتها الشعوب فملأت الخيال ، ومجدّها التاريخ فزّين بها صفحاته وفصوله، وإن شهدت صوراً ومراتب اختلفت وتباينت حسب عصورها، لكن الأمم بقيت تحلّ أبطالها في مكانة رفيعة من ذاكرتها الجمعية ليكونوا من ثمّ مصدراً مهماً لتكوّنها النفسي و إثرّاءاً روحياً لأجيالها.
عُرفت البطولة لأول مرّة في مدونات العراق القديمة،فقد أوردتها ملحمة جلجامش في خطاب البطل الأسطوري وهو يؤنّب عشتار آلهة الحب (أنتِ قصر يتحطم داخله الأبطال) ثم في مورد آخر من الملحمة ذاتها (والتزم أبطال أوروك بيوتهم).
البطولة ضمن ذلك الإيراد، كانت تعني قوة الجسد وجرأة القلب التي تتجسد تجلّياً في ساحات الوغى ومواقع القتال، لذا لم تكن تطلق على كلّ من حمل سيفاً أو شارك في معركة،ولما كانت تلك الصفة لا تمنح إلا لمستحقيها ولا تتوفر من ثم لغيرهم، لذا فأنها تضع صاحبها في موقع متسام بين أقرانه حيث التميّز والرفعة.
في حضارة وادي الرافدين وماجاورها من حضارات، إرتبطت تلك المفردة بالحروب ومقتضياتها ما تفرّع عنها، لكن ومع الحضارة اليونانية لاحقاً، أدُخل مفهوم آخر للمعنى، فصارت تُطلق على الرياضيين البارزين، وإن لم تغادر مضمونها السابق، إذ أنها بإختصار جهد إستثنائي وقدرة كبيرة في مجال التفوق الجسدي.
في الحضارات التي عرفتْ معنى الدولة والقتال بنسق الجيوش، كانت هناك صورة أخرى للبطل الحربي، فهو إضافة إلى قدراته الخاصة وشجاعته، يمتاز كذلك بذكائه وفطنته التي تجعله يجيد قيادة الجيوش نحو النصر بإتقانه فنون القتال ومتغيرات ظروف المعركة وما تتطلبه من وضع الخطط والقيام بالمناورات والسيطرة والإدارة وسواها مما اشتهر به قادة الحروب على مرّ التاريخ.
مع ذلك، بقيت البطولة ذات طابع فردي عموماً، ولم تظهر إرهاصات البطولة الجمعية، إلا مع تفوق إسبارطة اليونانية التي جعلت من الشجاعة في الحرب شرطاً ملازماً للرجل الذي ينبغي ان يكون محارباً باسلاً، لذا كان من المعيب للإسبارطي أن يكون بطيناً أو مترهلاً، لأن الرشاقة صنو الحركة وبالتالي فهي من صفات المقاتل الجيد، وكان من تقديرهم المقدس للبطولة إن الأمّ الإسبارطية كانت تخاطب ولدها الذاهب إلى الحر ب: ( عد بدرعك، أو محمولاً عليه ) حيث تقتضي التقاليد أن المحارب الشجاع إذا سقط في القتال، يُحمل جثمانه على درعه الكبير والثقيل، أما في الإنتصار، فيعود المحارب بكامل أسلحته بما فيها درعه، ولاتتصور الأم ابنها المحارب بغير هذين الموقفين ( منتصراً أو قتيلاً )وهناك مايقابله عند الأم العراقية التي تخاطب ولدها : (ما ريد من جيبك فلوس – ولاريد من جدرك غموس – أريدك إلي هيبة وناموس ) ولايحفظ الهيبة والناموس سوى المحارب الشجاع .
في المقابل، ولما كانت أثينا مدينة العلم والفلاسفة، فقد أنتجت بطولة من نوع آخر مواز، حيث توّجت المجليّن في الألعاب الرياضية أبطالاً ترفع على هاماتهم اكأليل الغار، والبطل الرياضي، رشيق بدوره كما المقاتل الإسبارطي وان اختلفت المهمة، لذا كانت الرشاقة الجسدية صفة مطلوبة مازالت متبعة في كلّ جيوش العالم ورياضييه وعلى مرّالعصور.
ّ العرب بدورهم، مجدّوا البطولة الفردية ممثلة بصورة الفارس المدافع عن شرف القبيلة والذائد عن حياضها، وقد إمتلأت الذاكرة الشعبية بصورة الأبطال من هذا النوع كعنترة العبسي وأبو زيد الهلالي والزير سالم وغيرهم .
ونظراً لطبيعة الحياة القبلية وبساطة تركيبها الإجتماعي حيث الإنحدار من جذر واحد، إستمر هذا الشكل من البطولة مهيمناً الى حين ظهور الإسلام الذي إنتقل بالحياة العربية نحو تنظيم آخر هو بناء الدولة بكل ما ينبثق عنها أو يرافقها من تبدلات تطال بتأثيرها جوانب هامة للإجتماع السابق، عندها تزحزحت صورة البطل القبلي كحالة فردية، لتفسح المجال أمام مفهوم جمعي عن الأمة البطلة، الذي ينتج بدوره صورة مركبة للقائد العسكري والسياسي المؤهل لقيادة جيوش بمستويات متعددة وعلاقات متشابكة ومعقدة.
وهكذا ظهر الأبطال القادة، الذين لم يكتفوا بالصورة القديمة للبطل التقليدي بشجاعته الفردية، بل أضفوا إلى البطولة معانيَ جديدة ظهرت بصورة القائد المحنّك الذي يستطيع قيادة جيوش المسلمين نحو الفتوحات وفق قدراته وابتكاراته الحربية، بعد أن دخل العرب للمرّة الأولى طور الأمّة الناجزة أسوة بمن سبقهم .
إلى جانب ذلك، إخترع حكماء الهند لعبة ذات طابع حربي يتنافس فيها لاعبان في المهارة الحربية باستخدام أدوات الحرب القديمة ذاتها من دون حاجة لإراقة الدماء، فكان الشطرنج الذي وضعت له قوانين ونظم لاحقة وأقيمت له بطولات خاصّة توّج البارعون فيها أبطالاً للعالم.
في كلّ تلك العصور، كان الأبطال أشخاصاً حقيقيين يؤدون مهمات حقيقية فيتجلون فيها وينالون اللقب تبعاً لما أنجزوه، لكن ومع الثورة الصناعية الكبرى في الغرب، وإندلاع حروب دامية بين الدول الصناعية التي شهدت إختراع أدوات قتل مدمرة جعلت مستوى البطولة الفردية يهبط إلى مراتب دنيا،لذا ظهرت حركات وشخصيات سخرت من مفهوم البطولة القديم في محاولة لكسر ذلك التابو المقدس، فكان البطل / الصورة، الساخر ورشيق البنية.
حدث ذلك في بدايات ظهور السينما الصامتة، حيث عُرف شارلي شابلن بطلاً لتلك المرحلة بلا منازع، ثم تلته سلسلة من الأبطال الساخرين بأفلامهم الناطقة ـ نورمان وزدم ـ لوريل وهاردي ـ وغيرهم، والملفت إن هؤلاء جميعاً كانوا بمواصفات جسدية لا تتلاءم مع مواصفات الأبطال كما ترسّخت في المخيال الشعبي والموروث التاريخي على حدّ سواء.
لكن البطولة الصورية، سرعان ما انتقمت لنفسها، فأعادت نمطية البطل هائل الجسم مفتول العضلات، فكانت سلسلة أفلام ستيف ريفز وريك بارك وجوني ويسلموث، في هرقل وماشيستي وطرزان على التوالي، ثم أفلام البطل بقامته الفارعه ومسدسه سريع الطلقات، فظهر جون واين وكلينت إيستوود وإنتوني ستيفن وسواهم.
ثم دخلت بطولة الصورة طوراً آخر مع عصر التكنولوجيا المتطورة، فكان البطل الوسيم معشوق النساء في جيمس بوند، أو البطل الثائر في روبن هود، أو الشرطي الصالح أو البرىء المطارد كما في رامبو ليسلفستر ستالون أو أفلام آرنولد شوارزينغر وهكذا.
في مقابل ذلك، تنافس أبطال الرياضة ـ وهم أبطال حقيقيون ـ مع نجوم السينما، وهم ممثلون حقيقيون لبطولات وهمية، فتوزع إعجاب الناس بين الإثنين معاً جالباً لهم الشهرة والمال والنفوذ.
هذان النوعان من البطولة ـ الرياضة والتمثيل ـ يتطلبان مواهب خاصة وتدريباً متواصلاً وشاقاً، لكي يصل أبطالهما إلى درجة الإتقان، سواء في الأداء التمثيلي أو السبق الرياضي ، ولما لم يكن ذلك متاحاً للجميع، فيما نيل البطولة مطمح الجميع، فقد ابتكرت الأمم طرقاً أخرى للبطولة، فكانت مباريات شرب البيرة وصنع النبيذ، كذلك أطول قبلة أو أطول رقصة أو أطول ضحكة، وهكذا تبعثرت البطولة بمعناها التقليدي وفقدت هالتها المتوارثة بعد أن أصبحت بالمتناول على هذه الشاكلة أو تلك.
لكن ولما كانت أزمنة العرب قد تجمدت في أروقة التاريخ، فيما عجز الحاضر عن إنتاج أبطال بمستوى ما عرفه تاريخهم، ومع كثرة الفواصل والأحداث المريرة بنكساتها وخيباتها المتوالية، إستنجدت الأمة بمخيالها لينتج أبطالاً في الصورة غير المجسدة واقعاً، حتى لو كانوا أبطالاً وهميين.
وكما يتفاعل مشاهدو الأفلام مع أبطال الصورة رغم معرفتهم بزيف تلك المشاهد وفبركتها لمعنى البطولة، كذلك تفاعل العرب مع كلّ من أدّى أو إفتعل مشهداً شّممنا فيه رائحة (بطولة) مزعومة.
وعلى ذلك عُلّقت كرامة الأمة وكبرياؤها الجريح بشارب دكتاتور إسمه صدام حسين متوهمين فيه بطولة مفتقدة، ولما أزيح ذلك الوهم من دون مقاومة تليق بأنصاف الأبطال أوحتى أرباعهم، إزدادت الكبرياء جرحاً والعقل افتعالاً، فكثر الزعيق ودبجت المقالات والمقولات التي تبني مزاعم وتطلق خيالات عن (بطولة) متوهّمة.
الأمم التي لاتنتج أبطالاً، تشعر بالعقم والموات، لذا كان لابد للأزمنة العربية أن تنتج أبطالها، لكنهم هذه المرّة أبطال حقيقيون، وأعظم مافي بطولاتهم إنهم مجرد شباب في مقتبل العمر، عاديون تماماً، لاشيء يميزهم عن سواهم، لكنهم كمقاتلي إسبارطة، رشيقي الأجساد خفاف الحركة، مؤمنين بقضاياهم حدود التضحية،فيندفعون من أجلها متحدين آلات القتل وحراب الدكتاتوريات بصدروهم الغضّة ووجوههم الطافحة بالبشر فيعودون محمولين على الأكفّ بديلاً للدرع، ليسوا قادة ولارموزاً ولايطمحون أن يكونوا كذلك يوماً، كما انهم ليسوا موظفين يتقاضون رواتباً ولاجنوداً ينفذون أوامر ولا إرهابيين يسعون إلى الجنّة بقتل أكبر عدد من الأبرياء ، إنهم فقط محاربون من أجل الحرية، لايملكون سوى حناجرهم للهتاف وقبضاتهم لرفع الرايات المضرّجة بالأمل ، ذلك هو آخر وأعظم ما أنتجته مفردة البطولة في أرقى ماعرفته عبر عصورها مذ عرفت .