إن أهم وأبرز الفروق بين الديمقراطية والديكتاتورية أربعة.
في الأولى، يُنتخب الرئيس من قبل الشعب على أساس برامجه الانتخابية، وفي الثانية، يأتي بقوة العسكر أو المال أو الوراثة، ولا سلطة عليه لناخب.
وفي الأولى تحدد مدة رئاسة الرئيس بدورة انتخابية واحدة أو اثنتين، وفي أندر الأحوال بثلاث دورات، مدة كل واحدة ثلاث سنوات أو أربع، أما في الثانية فالمسألة تتوقف على شطارة الرئيس وقدرته على فرض سطوته المطلقة بحزبه وبأجهزة أمنه وجيشه وفساد معاونيه.
وفي الأولى يكون الرئيس والوزراء وقادة الشرطة والجيش والمخابرات موظفين لدى الشعب، يحاسبهم في البرلمان، ويملك القدرة على مكافأة المحسن منهم ومعاقبة المسيء، أما في الثانية فيكون الشعب هو الموظفَ الذليل لدى السيد الرئيس.
وفي الأولى يختار الرئيس كبار معاونيه ومستشاريه بموجب ضوابط وقواعد وقوانين صارمة تحددها الأمة، وللبرلمان حق الاعتراض أو الموافقة على اختياراته، أما في الثانية فللرئيس وحده حق الاختيار، يحيي ويميت، يعطي ويمنع، يُغني ويُفقر، وفق مزاجه وهواه، وعلى درجة الولاء، وليس على مقدار الكفاءة والخبرة والنزاهة وحسن السلوك. وقد يصبح جنديٌ كان يعمل سائق دراجة، مثلا، وزيرا للدفاع، وسمسارُ عقارات في لندن مستشارا أول للرئيس، ومعلم ابتدائية في قرية نائية وزيرا للتربية والتعليم، وسائسُ خيولٍ سابق وزيرا للثقافة، وصاحب محل صرافة وزيرا للزراعة، وبائع إطارات وقطع غيار سيارات سفيرا وواحدا من كبار الأثرياء.
والرئيس الديمقراطي يحكم بالشعب، وبحدود ما يعطيه من حقوق وما يضع عليه من واجبات. أما الحاكم الديكتاتور فيحكم بالبطانة. وأغلب الديكتاتوريين يضعون أنفسهم وبطاناتهم فوق الشعب والوطن، ويجعلون الخروج عليه أو عليها خيانة عظمى عقابها قطع الرقبة أو اللسان.
ومثلما تكون البطانة أداة حكم وطوق سلامة للحاكم فهي، نفسها، قد تصبح باب الجحيم الذي ينفتح عليه وعلى أهله فجأة ودون انتظار. وقد كانت البطانة، دائما وأبدا، هَمّا مقيما على قلوب الرؤساء، وعبئا ثقيلا يجعل يومهم مخاوف وليلهم كوابيس. والأمثلة كثيرة على أن صراع البطانة، وراء الأبواب المغلقة، كثيرا ما ينتهي بقطع الرؤوس بالسيوف، أو القتل بالسموم، أو الخنق بالوسائد والحبال. وتاريخنا العربي الطويل مليء بقصص وحكايات عن حريم خنقن أزواجهن الخلفاء والسلاطين والملوك.
وفي حالات عديدة تتضخم البطانة فتصبح القوة الفاعلة التي تدير دفة الحكم، نيابة عن الرئيس، بأمره أو بدون رضاه.
وما أكثر ما يتستر الحاكم الديكتاتور على معاونيه، ويداري فسادهم أو يبرره، طواعية أو اضطرارا، وذلك لأنهم يعرفون ما خفي من شؤونه وأمور حكمه وما ظهر، من ناحية، ولأنهم، من ناحية أخرى، سلاحُه الذي لا سلاح له سواه في مواجهة الطامعين والمعارضين. وهو، من أجل أن يحافظ على حب البطانة وإخلاصها، يغدق عليها بلا حساب، حتى وهو كارهٌ لسلوكها وأخلاقها، ومُستثقل وجوهَ عديدين من أفرادها.
ولكي تكون الصورة أوضح تعالوا نتأمل هذه الأمثلة. فالذي أسقط هتلر مساعدوه الذين كانوا عينه وأذنه ولسانه، مدنيين وعسكريين، وغوبلز أولهُم صاحبُ نظرية إكذب إكذب حتى يصدقك الناس. والذي أسقط شاوشيسكو زوجته وولدُه المدلل ومرافقوه. والذي أسقط بن علي زوجته وشقيقهُا ومن أحاط بهما من تجار الوطنية الكاذبة. والذي أسقط حسني مبارك ولداه ووزير داخليته حبيب العدلي ومستشاره الإعلامي صبري الشريف. والذي أسقط القذافي أولاده ومدير مخابراته ومعاونوه المقربون. ومن أسقط محمد مرسي مرشدُه محمد بديع وخيرت الشاطر ومحمد البلتاجي صقورُ جماعة الإخوان المسلمين الذين حاولوا أن يفعلوا بمصر ما فعله نوري المالكي بالعراق، فأسرعوا، فور فوزهم بالرئاسة، إلى (أخونة) القضاء والاقتصاد والإعلام والثقافة والأمن والشرطة والجيش، لكن الشعب المصري كان أذكى من شعبنا، وأكثر شجاعة، فلم يمهلهم طويلا، وخرجت ملايينه الغاضبة، وساندها الجيش، فأسقطت الرئيس وحزبه في أيام، وأعادت مصر إلى أهلها سالمة غانمة .
وفي العراق، أسقطت البطانة رئيسها عبد الرحمن محمد عارف، وهي من أهله وعشيرته، وأقربُ المقربين إليه. والذي وضع حبل المشنقة حول رقبة صدام حسين إخوته وولداه وعشيرته وأعوانه المقربون الذي زينوا له خطيئة حلبجة وحرب إيران وغزو الكويت. والبطانة أيضا هي التي ورطت نوري المالكي باحتكار السلطة، والسطو على الجيش والشرطة والأمن والمخابرات والقضاء والإعلام والثقافة والبنك المركزي والنفط والتربية والتعليم، وزينت له معاداة ملايين العراقيين، وهي التي نفخت فيه أعلى درجات الغرور، وهي التي جعلته سجينها، لا يرى ولا يسمع إلا ما تنقله إليه.
تأملوا الدائرة الضيقة المؤتمنة المحيطة به. دققوا في تواريخ الكبار من أفرادها، وثقافاتهم وأخلاقهم، واسمعوهم حين يهددون ويتوعدون، وفتشوا عن أملاكهم وأموالهم. وقديما قيل، قل لي من صديقك أقلْ لك من أنت. فالعاقل لا يصحب المجانين، والعادل لا يرافق الطغاة المتجبرين، والشريف لا يقرب السفهاء، والنزيه لا يطيق اللصوص.
دعونا نفترض أن المالكي أفاق ذات صباح وعاد له ضميره واستفاقت في نفسه وطنيته الضائعة فقرر أن يشن حربا نزيهة جادة شاملة على الفساد والمفسدين، ترى هل سيجرؤ على قطع يد سامي العسكري أوعزت الشابندر أو السنيد أو البياتي أو الموسوي أو ولده أحمد وابنته إسراء قبل عشرات الوزراء والمدراء والسفراء والقضاة وقادة الأمن والجيش والمخابرات الفاسدين المفسدين؟
وهل جاءكم هذا النبأ؟. لم يحدث في تاريخنا الطويل أن جاء العراق في أية مرتبة على قائمة أثرياء العالم. أما الآن، وبفضل حزب الدعوة وكرامات نوري المالكي، فقد صار لدينا أثرياء كبار، كما في السعودية والإمارات والكويت وقطر وأمريكا. فقد أعلنت مؤسسة (ويلث – إكس) المتخصصة بمتابعة أثرياء العالم أن العراق جاء بالمرتبة السادسة في قائمة أثرياء العالم لهذا العام، بمئة وخمسة وسبعين ثريا عراقيا قدرت ثرواتهم بخمسة عشر مليارا من الدولارات، في بلد تقول الأمم المتحدة إن 65 بالمئة من مواطنيه دون خط الفقر، وإنه في مقدمة الدول الموصومة بالفساد.
فمن أين؟ وكيف؟ ومن هم هؤلاء الأثرياء؟ أليسوا من حاشية الرئيس وبطانته الفاسدة؟
وما داموا قد كبروا إلى هذه الحد أليس من الطبيعي أن يصبحوا القوة النافذة في دولة القانون، ثم يصبح من الصعب، بل المستحيل، أن يجرؤ الرئيس على ردع أحد منهم ، غيرة على أموال العراقيين المساكين؟
فهل لديكم أيها العراقيون، بعد كل هذا، شك في أن هذه البطانة، وقد تجبرت وتجاوزت بفسادها وقلة أمانتها جميع الحدود، ستسقط المالكي وحزبه، وتلقي بهما، كما ألقت بغيرهما، تحت أقدام الجماهير الغاضبة، في نهاية المطاف؟