كثيراً ما نسمع عن البصيرة في مجالس ومحاضر الحديث وخاصة بعد بروز حالات الانحراف بين الناس، و سقوط بعضه في مرديات الهاوية.
نريد أن نطرح معنى بحثنا ومحوره ” البصيرة ” بعيداً عن التكلف والاستغراق والإطناب في المصطحات والكلمات والمعاني، بحيث يفهمها اغلب شرائح حواضرنا، وهي الفئة الغير الأكاديمية والحوزوية, والبعيدة كل البعد عن اللغة وتفرعاتها، الطبقة الكادحة والغارقة في محال البيع والتسوق والمنشغلة بين اصلاح عطب او تشغيل عطل الأجهزة ومكائن النقل وغيرها، والتي سقطت تحت فنون التضليل الإعلامي والتجهيل المتعمد من السلطات والحكومات المتداولة على مجتمعاتنا المسلمة، حتى أصبح لها لهجة خاصة بالسوق، من حيث اللفظ والإيحاءات، كأنها لغتها الأم، واللغة العربية غريبة الذكر والمضمون فيهم.
العصر الذي نعيش فيه هو زمن الفتن أو ما يصطلح عليه بخلط الأوراق والتباس الأمور، ويعبر عنه بعض الفضلاء بزمن “سوء الظن” وليس حسن الظن، لشدة الافتتان وتعقيدات اوضاع المعيشة التي اجبرنا عليها، وتلون المتلبسين بثياب الصالحين، والمدعين لعلوم الدين والفقه والسياسة والسوق” الاقتصاد ” حيث وصل الالتباس والاختلاط لأهم أجزاء الحياة الاجتماعية وأخطرها, ألا وهي الأسرية والتلاعب بأمزجة البنت والولد والام، بعد أن أحكم الجهل قبضته على الشارع, واخذ يضرب به حيث يهوى ويريد، وحاصر عوائلنا في مدارسها ومواضع عملها ومواقع تواصلها, الى ان وصلنا الى مراحل الدفاع في اخر معاقلنا ومحيطاتنا وهي بيوتنا.
بعد ما تقدم اعلاه حول فكرة البصيرة وسبب البحث فيها, وكما اسماها غالبية الباحثين بالسلاح, ويبدو اصل التسمية جاءت لأهمية هذه القدرة والقوة في الانسان, واسماها اخرين بالفراسة, فيمكن تعريف البصيرة باختصار كما نوهنا في العرض بعيدا عن التكلف: (هي بواطن او خفايا الاشياء, التي هي انعكاس لظواهرها) أي هي الوجه الحقيقي للحدث او الشيء, ومن الامثلة المادية على ذلك, عند مرورك في طريق الانارة فيه ضعيفة, وتشاهد رجلا جالس في زاوية وبيده قنينة كأنه يحتسي شيئا, فالرؤية الظاهرية توحي ان الرجل قد يشرب خمرا, وهو مجرد ظن, وسببه يعود لانتشار هذه الظاهرة, والصورة المخفية او الباطنية, هي قد يكون يشرب ماء او دواء او فعلا يكون محرما, اذن البصيرة في هذا الحدث او المثال, ان تعرف الصورة الحقيقية لهذا الشخص المنفرد في ركن الطريق.
هنا يمكن القول ان البصيرة, هي عبارة عن هدف وغاية لا يمكن تحققها الا بمجموع عدة آليات ومسارات لتنجح فيها ولا تظلم احدا, كما في الرجل الذي استشهدنا به في معرض الحديث, ولتكون البصيرة ملكة في نفس الانسان, ومنها ان تكون لك عقيدة في الله جل وعلى, والايمان بالنبي وآله الاطهار صلوات الله وسلامه عليهم, والاستشهاد بهم مع كل حدث, والمرجعية الدينية الحقة التي هي امتداد لذلك الخط الالهي الشريف, بالإضافة لذلك هناك مجسات اخرى, وهي عدم استحضار الصورة الاولى او الاولية مطلقا, بسبب كثرة المشاهد المتلاطمة حولنا والتي قد تمنع الوصول الى الغاية, والانتظار بعد تحقق الهدف, أي عدم اطلاق الحكم قبل دراسة الحدث.
وردت آيات قرآنية عدة في البصيرة منها قوله تعالى ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وقوله ﴿ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ في مقام دور البصيرة في الهداية، فعن الإمام الصادق عليه السلام: “العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعدًا” وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “ذهاب البصر خير من عمى البصيرة” وفي مقام الدعاء لله تعالى، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “اللهم إنّي أسالك…أن تجعل النور في بصري، والبصيرة في ديني، واليقين في قلبي” وجاء أنّ الإمام الحسين عليه السلام ورد أنّه كان يقول في قنوته: “…واجعل على البصيرة مدرجتي، وعلى الهداية محجّتي…” كذلك في بيان كونها غاية للتفقّه في الدين، وينقل في الحديث عن الإمام الكاظم عليه السلام: “تفقّهوا في دين الله، فإنّ الفقه مفتاح البصيرة…” وفي مقام الحديث عن فضل من يتصفون بها، ففي حديث الإمام علي عليه السلام، في صفة من يحفظ الله بهم حججه وبيّناته “هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين…”
البصيرة ليس فقط هو القدرة في الفصل في الامور والاحداث, بل ان تعرف ان هناك قيادة مفروضة الطاعة, وهي المتمثلة بالقيادة الدينية بريادة سماحة السيد السيستاني والقيادة السياسية المتصدرة بالسيد الخامنئي حفظهما تعالى.