منذ الوهلة الاولى يضعنا الشاعر فاضل عزيز فرمان امام بصيص أمل للتفاؤل حينما يجعل من دمشق واحة خضراء تكفكف من دموعه التي وصفها بأنها : (دموع الجمل) كناية عن موقف متناقض يجمع بين الانكسار والاعتداد بالنفس ، وقد دفعه ذلك الى ان يعنون المجموعة كلها بإسم هذه القصيدة (دموع الجمل) .
ويبدو ان الشاعر في قصائده ــ الاثنتين والثلاثين ــ حاول بأسلوبه الشعري المعروف عنه ان يرسم لوحة لذاته الشعرية قد تبدو من اللحظة الاولى متجانسة لكنما ما ان نخضع كلماته لقليل من التأمل حتى نصاب بالذهول لما في هذه اللوحة من فجائع وآهات وآمال وضحكات ، جمعت كلها في بودقة شعرية عكست بصدق نفسية شاعرنا ، وهمومه التي تجلت واضحة ، منذ ان اقتبس مدخل مجموعته من دعبل الخزاعي في قوله :
اني لأفتح عينيي حين افتحها على كثير ولكن لا ارى احدا
وهو بهذا يعلن اغترابه منذ الوهلة الاولى ، والشاعر بوصفه ذاتا طالما شعرت بالعلو الميتافيزيقي يخوض تجربته الذاتية وهو محمل بأعباء الصراع الوجودي بين ما هو كائن في العالم الواقعي وما هو قيمة عليا يأمل ان تتجسد يوما ما ، واعتقد ان اجمل ما في الشاعر هو هذا الصراع ، وها هو فاضل عزيز فرمان يختصر لنا تلك المسافة في احدى صوره الشعرية التي يقول فيها :
عندها
يا صاحبي لا ترتجي غير الدمع
مدرارا على ضد الكمات
ويضع قوله هذا بعد ان يقرر مفهوم اللا جدوى بمفردة (عندما) ثمان مرات .
وبذلك يرسم لنا الشاعر خطاطة غير محددة بزمن لهيكلة روحه التي اضناها النزيف المتعاقب في زمن اقل ما يجود به للشاعر ان يجعل منه كائنا مركونا في احدى زوايا النسيان ، وهل هناك نسيانا اكثر من يكون كل ما حولك اعمى لا يرى معاناتك ، يقول الشاعر :
من ترى
في زمن الطرشان
والعميان
من يذكره
من يسأل
وبهذا فان الشاعر ــ بوصفه ذاتا متعالية ــ قد يصعب على الزمن الواقعي امتصاصه ، لذلك فليس امامه من المسالك الا هوة العدم ، هذه الهوة السحيقة ، قد تتمثل بالضياع في قصيدته : محاولات لرسم صورة الوحشة ، ففيها يتجسد ضياع الكائن الذي يضع نفسه ازاء محنة الوجود ، على الرغم من انطلاق الوحشة وتجسيدها عند الشاعر في قصيدته كان من ليل بغداد بوصفه مكانا تحول في عين الشاعر من الألفة الى الغرابة اذ ان :
وحشة ليل بغداد
أم المحبة
من دون عشق
ولاعا شقين
وقد يتمثل العدم عند الشاعر في صورة التعبير عن اللاجدوى التي تربك الكائن لنجعل منه ذاتا حائرة بين التسليم بعبثية الوجود واللجوء الى معاتب الذات الالهية ، ويبدو اننا نجد ذلك واضحا في احدى مزامير داود حينما يناجي ربه فيقول : الهي لماذا تركتني بعيدا بعيدا عن خلاصي … في النهار ادعوا فلا تستجيب ، في لليل ادعو فلا هدو لي ، كالماء ينسكب , هذا التساؤل الانجيلي يصوغه فاضل عزيز فرمان بطريقته فيقول :
ما سر ذاك النهر
قد يبست
شطآنه
وبكى به الوشل
فالشاعر وان جسد لنا اللا جدوى فإنه في الوقت ذاته يقر بأن هناك عالما قد تم نسيانه ، عالم الجمال ، العالم الذي ينشده , بدليل ان النهر لا يمكن ان تجف شطآنه وببكي به الوشل الا بعد حالة كانت فيها المياه جارية ، وهكذا هو وجود الشاعر فلا بد انه اشاح بوجهه بعد ان كان مقبلا .
وعلى الرغم من كثرة المواقف الجمالية بين الذات الشاعرة الطامحة لعالم منشود ، او الباكية على عالم مفقود وبين ما هو مفتقد في مجموعة (دموع الجمل) فإننا يمكن ان نقول اخيرا ــ ان شاعرنا في مجموعته هذه بما ان الشعر ــ قد اضناه فأنه دون ادنى شك سوف يضع القارئ في مواجهه الجمال ، ذلك الجمال المنبثق من رحم المعاناة ، ويا لها من مفارقة ساحرة .