22 ديسمبر، 2024 11:12 م

البصرة ولملوم العشائر الدخيلة

البصرة ولملوم العشائر الدخيلة

لم تعرف البصرة يوميا بالعشائرية باستثناء الاقضية البعيدة عن مركز المدينة مثل قضاء القرنة والمدينة وانما البصرة معروفة بعوائلها العربية العريقة التي تمتد جذورهم الى القبائل العربية الأصيلة في نجد والحجاز واليمن وكانت العلاقات بين اغلب تلك العوائل متداخلة ويجمعهم النسب والمصاهرة والتزاوج وتميزهم العادات والتقاليد المشتركة، وبما ان البصرة تعتبر الميناء الكبير في منطقة الخليج العربي فتقصدها البواخر من مختلف ارجاء العالم لما يتمتع أهلها من علاقات تجارية مع الشرق والغرب وتربطهم صداقات مع العديد من تجار دول أوربا والهند والخليج العربي لتصدير البضائع والتمور والمنتوجات الزراعية واستيراد التوابل والسكر والشاي وغيرها من المواد .. بالاضافة الى وجود العديد من المحلات التجارية في البصرة التي تستورد ارقى الملابس والعطور من بريطانيا وفرنسا مثل محلات غنام وبشير عبودي ونأت للساعات المشهور في شارع الوطن التجاري الشهير فضلا عن التوكيلات الأجنبية مثل سبنس التي تأتي بضاعته بالطائرة من لندن .. كما يتصف المجتمع البصري بالتحضر والانفتاح والزيارات المتبادلة بين عوائل المدينة وهناك تقليد في المجتمع البصري بإقامة القبولات الدورية كل أسبوع بين النساء ويحضرها الكثير من سيدات المجتمع الذين لهم نشاطات اجتماعية في الهلال الأحمر وفي مراكز مساعدة العوائل الفقيرة ومراكز تعلم الخياطة والمهن الاخرى وكذلك للرجال نصيب من هذة القبولات التي يقيمها العديد من وجهاء المدينة بالتناوب شهرياً ويحضرها ايضاً شخصيات معروفة من كبار موظفي المدينة، وهناك العديد من النوادي المشهورة كنادي الميناء البورت كلاب ويعد من ارقى النوادي في الشرق الأوسط وبني على الطراز البريطاني في منطقة المعقل ويحوي على قاعات كبيرة واخرى صغيرة مخصصة لنشاطات ثقافية واجتماعية ومطاعم متنوعة وبارات للكبار والأجانب وقاعة للبلياردو وساحات للتنس بالاضافة الى المسبح والسينما الصيفي والشتوي والحدائق الغناء ولعبة الدنبلة كل يوم خميس فضلا عن النوادي الرياضية والاجتماعية الاخرى كنادي الميناء الرياضي ونادي النفط علاوة على الحدائق العامة والمكان الترفيهية الجميلة كجزيرة السندباد بالاضافة الى الفنادق الراقية والمطاعم الفاخرة التي يرتادها الزبائن من التجار والسواح من كافة دول العالم وخصوصا الخليج العربي .. كما ان اغلب العوائل البصرية تحبذ السفر وتقضي فصل الصيف الحار في لبنان وسوريا والقاهرة ولندن .. ولكن للاسف بعد الثورات المتتالية التي حلت بالعراق بدأت البصرة في تراجع بسبب التخطيط العشوائي الذي ادى الى هجرة كبيرة من أبناء العمارة والناصرية ومناطق اخرى من جنوب العراق الى البصرة بسبب انشاء معمل الاسمدة ومعمل البتروكيمياويات الضخم وكذلك معمل الورق الأكبر في العراق وذلك في ستينات القرن الماضي دون مراعات للطبيعة الزراعية التي تتصف بها المدينة حتى جاءت العمالة من كل حدب وصوب فضلا عن الهجرة من الريف الى المدينة للاشتغال في تلك المصانع مما كان السبب في انحسار الوضع الزراعي وتردي المحاصيل الزراعية التي كانت تشتهر بها البصرة وخصوصاً الفواكه النادرة والمتنوعة ومنها المنكا حتى ضاقت المدينة بالوافدين فقام المرحوم محمد الحياني متصرف البصرة ببناء منطقة الحيانية بشكل عشوائي لإسكانهم فيها والذي بلغ عدد نفوسها اكثر من نصف مليون غريب عن البصرة واصبحت بؤرة للمشاكل والحوادث المستمرة لحد هذا اليوم .. ولم يتوقف هذا التراجع الذي حل على هذة المدينة العريقة بل زادت الحرب العراقية الايرانية الطين بلة ونالت البصرة القسط الأكبر من المعاناة عن بقية المدن العراقية نتيجة القصف العشوائي المستمر على المدينة الذي كان يعرف بحرب المدن لقربها من ايران بالاضافة الى حرق الأشجار والنخيل وتهديم البيوت نتيجة القصف الإيراني فضلا عن جرف البساتين الواقعة على شط العرب وتحويلها الى أراضي قاحلة لتكون سواتر حربية ومواقع عسكرية للجيش العراقي بعد نزوح الأهالي والفلاحين وتجريد تلك الاراضي من الأشجار والنخيل التي كانت مصدر الرزق الوحيد لأهالي المدينة دون اي تعويض مما ادى ذلك الى هجرة السكان الأصليين الى عدة دول ومنها دول الخليج لانقطاع مصدر رزقهم من تلك البساتين والأراضي، والتي عرفت بالهجرة الاولى لاهالي البصرة .. وهكذا بقيت البصرة مهملة في كل مراحل العهد الجمهوري واصبحت المائدة التي تطعم العراق واهلها جياع فضلا عن تهميش ابنائها من المواقع القيادية في الدولة العراقية ومن الوظائف العليا في المدينة نفسها بالرغم من كفاءة العديد من ابنائها وحصولهم على اعلى الشهادات ومن ارقى الجامعات العالمية .. وبعد الاحتلال الامريكي تضاعفت المعانات واصبحت البصرة الجميلة لا يطاق العيش فيها خصوصاً بعد دخول ايران بكل ثقلها ونفوذها من احزاب وميليشيات موالية لها اكثر من اي مدينة اخرى في العراق مما قامت تلك الاحزاب والميليشيات بتدمير النسيج الاجتماعي للبصرة واصبح التنكيل والتهجير والاقتيالات على الاسم والهوية حتى هيمن الدخلاء على المدينة لأغراض طائفية وسياسية واصبحت العملة الأيرانية تتداول بجانب العملة العراقية والغالبية يتحدث اللغة الايرانية لان نقاط الحدود ما بين البصرة والمحمرة وعبادان باتت مفتوحة على مصرعيها .. والأكثر من ذلك تم تهديد المتبقي من أبناء المدينة من اصحاب الاراضي والبساتين وتخيرهم ما بين بيعها في أرخص الاثمان او اما التهجير او القتل مما ادى ذلك الى الهجرة القسرية الثانية لسكان المدينة ليبلغ التغيير السكاني والديمغرافي مداه لان طبيعة البصاروة الأصليين هم اصحاب أراضي وأملاك وبساتين وكان من لا يملك بستان لم يعتبر بصراوي اصيل وخصوصا أهالي ابو الخصيب المشهورين بتجارة التمور الذين لم يحبذ ابنائهم الانخراط في العمل بالدوائر الحكومية لما يتمتعون به من خيرات ودخل جيد بسبب ريع تلك البساتين التي دمر اغلبها وتم الاستيلاء على القسم الاخر منها من قبل الميليشيات وقادتهم المعممين الذين اعتبروا من قتل وهجر خونة وأملاكهم مباحة .. وهناك قضاء الزبير الذي يتميز الأهالي فية بعقلية تجارية فائقة وكانوا يعتبرون من تجار العراق الكبار الذين يرفدون الاسواق التجارية العراقية بالسكر والشاي والمواد الغذائية والمنزلية الاخرى وغالبيتهم تمتد جذورهم الى الخليج كالسعودية والكويت وايضاً تم شمول هذا القضاء بالاستيطان والغزو من قبل المحافظات المجاورة ونال السكان الأصلين قسط لا يحسد علية من التنكيل والتهجير لغرض تغيير النسيج الاجتماعي لكامل مناطق واحياء مدينة البصرة بعد ان هيمنت ايران والاحزاب والميليشيات الموالية لها وبروز الظاهرة العشائرية الدخيلة على أهالي البصرة واصبح كل من هب ودب يدعي انه رئيس العشيرة الفلانية والفخذ الفلاني وينسب نفسه الى البصرة وجلهم ليس من مواليد البصرة ولا يعرف عن طبيعتها الاجتماعية شيئاً سوى التلون والارتماء في احضان الاحزاب والميليشيات من اجل الحصول على المال والسلاح والنفوذ والسطو والاسترزاق الغير مشروع حتى انتقل هذا الوضع الشاذ لأغلب محافظات الجنوب وانحسار دور الشيوخ الاصلاء واصبح حالهم مشابهة لحال هذة المدينة المنكوبة حتى بات من يسمون انفسهم بالشيوخ يتصدرون المشهد في كل مناسبة ويتجملون في الزِّي العربي العباءة والعقال زوراً وبهتاناً مستغلين ضعف الدولة وانحسار دور الحكومة المركزية الذي ادى ذلك الى سمو الاعراف العشائرية على قوانين الدولة حتى اصبح أعالي القوم أسفلها وأسفل القوم عاليها .. هذا ما خلفه الاحتلالين الامريكي والايراني من معاناة ومأسي .. والخطورة الأكبر تكمن فيما نشاهدة اليوم من محاولة احتواء هؤلاء أنصاف الشيوخ للحراك الشعبي في البصرة الذي قام به نخبة من الشباب الشجعان نتيجة تردي اوضاع الخدمات والانقطاع المستمر للكهرباء وشحة المياه واذا بهؤلاء الشيوخ يتصدرون المشهد بعد ان كانوا نيام في احضان التزلف والتملق للفاسدين المتنفذين من السياسيين والاحزاب والميليشيات .. بمعنى ان هذا النمط العشائري غير امين في قيادة الحراك الشعبي في البصرة والمحافظات الاخرى ونحذر من الالتفاف على المتظاهرين مثلما تم الالتفاف على الحراك ضد الفساد من قبل واصبح الشعب هو الفاسد وهم النجباء ..
واخيراً نقول ان الذين يضعوا امالهم على انتفاضة تنطلق من الجنوب فأن عشائر الجنوب اليوم ليس هم عشائر ثورة العشرين لذلك نهيب بشباب محافظة البصرة والمحافظات الأخرى بمنع الدخلاء من اختراق صفوفهم واختيار من بينهم قيادة شابة وطنية تتولى امر هذا الحراك الوطني والمظاهرات السلمية النظيفة بالتنسيق مع أبناء المحافظات الاخرى بعيدا عن السياسيين والأحزاب والميليشيات وشيوخ الصدفة لمنع احتوائها من قبل الدخلاء ..
طلال بركات
Sent from my iPhone