23 ديسمبر، 2024 3:11 ص

البصرة..مدينة البترول والفساد

البصرة..مدينة البترول والفساد

في العام 2005، تعرض مجموعة من طلبة كلية الهندسة، بجامعة البصرة، الى اعتداء وضرب من قبل عصابة تابعة لحزب إسلامي، أثناء سفرة طلابية في احد متنزهات المدينة، بحجة ان هناك اختلاط ومخالف للشريعة، وفي العام الذي تلاه، ظهرت حكاية سيارة “البطة” التي يتذكرها البصريون جيدا، والتي نفذت اغتيالات وقتل وتسليب بحق شخصيات أكاديمية وعلمية وأناس بسطاء، بشكل علني.

ترك هذان المشهدان، أثرا واضحا في تاريخ المدينة، وسّجل بذلك حضورا واضحا للعنف والفوضى، وأعطى صورة قاتمة للحياة المقبلة فيها، كونها تمثل شريانا حيويا ورئيسيا للعراق، وايضا شكلت مفارقة بالنسبة لنا نحن الطلبة القادمين للدراسة بجامعاتها، بعد ان كنا نرى فيها مدينة عريقة وموغلة في التاريخ طويلا.

ورغم ان البصرة، تشكل صورة ثقافية وحضارية، وهوية مهمة للعراق، على طول تاريخه المرهق، إلا ان السنوات التي أعقبت سقوط نظام صدام، قد كشفت عن انقطاع كامل لهذه الصورة التي كنا نتخيلها، وكشف بذلك عورة ما يسمى بالنخب السياسية التي مسكت السلطة، فيما بعد.

انقطعت هذه المدينة، تماما عن أي تواصل بين تاريخها وسجلها المدني الحافل، وبين النظام الجديد، الذي تبنى صناعة الفوضى والأزمات، وتحولت الى مدينة بلا روح أو قيمة تذكر، بعد ان صعقها الفساد صعقة، أرداها جثة هامدة، لا احد يمكنه ان يجرأ على إنعاشها.

ومنذ 2003 تحولت البصرة بشكل رسمي الى مدينة للبترول والفساد فقط، وتراجعت الحياة المدنية والثقافية والاجتماعية بشكل واضح، وبزوغ سلطة الأحزاب التي سيطرت على المقدرات الاقتصادية، واستحوذت على المنافذ الحدودية والموانئ، وعلى المشاريع النفطية، والتحكم بعائدات النفط التي تسربت بفعلها ملايين الدولارات الى جيوب الفاسدين واللصوص، والجميع يعرف من كان يقف خلف كل ذلك .

والى جانب شفط أموال النفط والمنافذ والموانئ، نشطت الجماعات المسلحة وعصابات الجريمة المنظمة، واستهترت بعض العشائر وارتفعت بذلك النزاعات، التي بدت سمة واضحة على المدينة في السنوات القليلة الماضية، وجاء ذلك بسبب الفساد الواضح في الأجهزة الأمنية التي تم توزيعها على أساس سلطة وحجم نفوذ الأحزاب.

وبالرغم من حجم المشاكل التي تعانيها البصرة، لكن حظها سيء مع المحافظين والحكومات المحلية التي وصلت السلطة، بدءا من حسن الراشد وزير الاتصالات الحالي، حينما كان محافظا للبصرة بعد السقوط، وليس انتهاءا بماجد النصراوي الذي دمرها بصفقات ورشاوى وعمولات فاسدة.

وحتى لو افترضنا جدلا، ان هنالك نزيها، سيقود حملة تطهير المدينة من الفساد، سيواجه مصيرا اسودا، أهونها الإقالة السريعة من المنصب، ثم انه لا احد يستطيع ايقاف العمولات والصفقات والنسب بين الاحزاب، والتي قضت سنوات طويلة كي تصل لهذه المرحلة.

تشير سرعة الأحداث في البصرة، الا انها قد تطول هذه الفوضى السياسية والاقتصادية والامنية فيها، بحكم موقعها الجغرافي الاستثنائي الذي يشكل تنافسا قويا للسيطرة عليها بأي شكل من الاشكال، في الوقت الذي تحولت فيها المدن التي هي على غرار موقع البصرة، حواضر معمارية وسياحية مهمة، تشكل موارد إضافية اليها.

الحقيقة المرة التي نحن إزائها اليوم، هو ان هذه المدينة التي تهمنا جميعا، سوف لن تكون حاضرة في المستقبل القريب، طالما ان هولاء، حولوها الى “بقرة حلوب”، استنزفوها كثيرا، دون ان يعطوا فرصة لبنائها، حيث لا فرص عمل ولا مشاريع بنى تحتية حقيقية ولا معالجة لمشاكل وازمات السكن ولا توفير حياة وبيئة امنة للناس.

لكن للبصرة خصوصية، واضحة، كان الاجدر من الحكومات المتعاقبة، ان تراعي موقعها وظرفها وان تكون هنالك حماية استثنائية قصوى، وان تمنع سيطرة اي احزاب على اي نفوذ هناك، كان الأجدر ان تكون سلطات أممية كي نحافظ على هذه المدينة التي ينخر فيها الفساد من جميع الاتجاهات .

لقد كتب على البصرة، مثلما كتب على مصير المدن التي استنزفتها الحروب والموت، فهي لا تستحق كل ذلك الذي يحصل بها، هي مدينة مفرطة بالطيبة والمحبة، تعطي من روحها كي تمد بلدا كاملا مثل العراق بالحياة وتنعشه، مثل الأم التي تضحي بنفسها لإسعاد أولادها، لكنها تبقي نفسها محرومة من كل شيء.

مرت هذه المدينة بتجارب مؤلمة، توقفت فيها الحياة كثيرا، وتأخرت كثيرا عن ركب العالم، لكنها اليوم تحولت لمدينة على غرار ما يمكن مشاهدتها من مدن نهاية العالم، التي تعرضها أفلام الاكشن، وإزاء كل ذلك، يجب ان تكون هناك همة وطنية خالصة، تسعى لتخليصها من هذه الأغلال التي ارتبطت بها.