23 ديسمبر، 2024 10:33 ص

(البدون) واغتراب الهوية

(البدون) واغتراب الهوية

تلامس رواية (أصفاد من ورق) للروائي يوسف هداي ميس موضوعة إشكالية الأثنوغرافيا العربية، وهي موضوعة (البدون) في الكويت، التي تحولت إلى موضوعة إنسانية وأخلاقية وتوصيفية، مثلما أسهمت في إيجاد نوع من الإغتراب الداخلي، ذلك تحول إلى هاجس ضاغط بالطرد والتهميش والغياب.
 
تنسيقات مضمرة:
  عنونة الرواية تحمل معها حافزها السيميائي الباعث على استكناه حمولاتها الرمزية، وعلى فضح الكثير من التنسيقات المضمرة، تلك التي تتعالق مع محنة الهوية، ومع فوبيا رهابها الاجتماعي والسياسي والنفسي منذ العام 1920 ولغاية 1990 الذي هو صورة لرهاب الهوية الذي تعيشه العديد من المكونات والجماعات العربية. مشكلة الهوية هي جوهر التوصيف لـ(البدون) إذ هم لا يحملون الوثائق الرسمية التي تعرفهم في المجتمع، ولا يملكون المدينة التي تدمجهم في المنظومة الحقوقية والمجتمعية، بما فيها حق المواطنة والزواج والحصول على الرخص الرسمية للسياقة والسفر وغيرها، وهذا ما يجعل القوانين الحكومية (أصفاد من ورق) تنحبس تحت توصيفاتها وأحكامها شريحة مهمة من شرائح المجتمع. شخصية (مهند) التي يفتتح بها الروائي ترسيمته للحدث الروائي في السجن، تضعنا عند العتبة السردية لصراعات حيوات تعيش هاجس الطرد والكراهية والموت، إذ يمقت تسمية (الخليجيين) الذين استوطنوا مدينة الناصرية بعد تهجيرهم من الكويت جراء غزو نظام صدام المقبور لها، وأحدثوا (هذا التغيير الذي طرأ على الوضع الاقتصادي)، ص8 فضلا عن التغيير العاطفي الذي عاش تداعياته النفسية بسبب عزوف حبيبته المتخيلة(نهلة) واختيارها لـ (فهد فرحان) المهجر من الكويت، الذي هو ضحية أخرى من ضحايا الحرب والهوية.  
اغتراب إنساني:
جريمة قتل فهد، التي ارتكبها مهند تتحول إلى عتبة التفجير في الرواية، إذ تكشف عن العوالم العميقة لحيوات مضطربة ومسكونة برعب الاغتراب الوجودي والإنساني، مثلما يتبدى من خلالها منظور الروائي ومهارته في رصد علائق الشخصيات الشوهاء مع بعضها البعض، وعن تشيؤها داخل معادلة سردية تقوم على ثنائية الوجود والمحو، وبما يجعل هذه العلائق موجهات لتركيب الحدث الروائي، على مستوى وظائفية الزمن، وعلى مستوى بناء الشخصيات،فضلا عن توصيف المكان بوصفه مكانا معاديا..الزمن السردي في الرواية يتمثل تعبيريا هذه العلائق التي تشكل بنى الفضاء الروائي، وما يمكن أن يحمله من معان، أو ما يشكله من خطاب سيميائي، له القدرة على توسيع مساحات الحدث الرئيس، وما يمكنه أن يشفعها أيضا بأحداث مجاورة يختلط فيها العاطفي واليومي، تلك التي تتقاطع مع قوننة الأصفاد التي يفرضها القانون الرسمي الحاكم، والشرعة النفسية التي يصطنعها التهميش الاجتماعي لـ(البدون).
   يوظف الروائي عين الكاميرا لتتبع تلك الأحداث من خلال آليات الكشف عن الجريمة، والرغبة في التعرف على شخصية فهد ونهلة، مثلما يوظف تقانة (الميتا سرد) وتعني التحقق السردي في ثيمة حكائية/نص مجاور تصوره (رزم من الأوراق أشبه بالمذكرات) ص67 التي تركها فهد الفرحان في صندوقه الشخصي عند زوجته نهلة إذ تحفل_ هذه الأوراق_ بما يشبه السيرة الذاتية لعالم (البدون) في وسط اجتماعي تحكمه (أصفاد من ورق) تلك التي تتحول إلى موجه سردية لمحنة الشخصية الوجودية والنفسية والعاطفية، وهو ما يشحن الوحدات السردية للرواية بنوع من المونتاج السيمي، تتراكب وحداته التصويرية، لتفسر تصاعد البنية الصراعية للشخصيات، وبما يجعل هذه البنية هي منطقة التبئير التي يتجوهر فيها المسرود الحكائي ليوميات فهد، وهو يبحث عن وجوده  وهويته وأنويته كأنموذج لـ(لبدون) مع صديقه عبدالله الذي يشاطره يوميات المدينة الفاجعة، ويكمل ما تحمله من مفارقة واحتيال على أصفاد الورق، وصولا إلى خديعته العاطفية مع حبيبته المسيحية كارولين.. تصميم الشخصيات في الرواية أكسبها أوسع مساحة في المتن الروائي، إذ يسبغ على شخصية فهد توصيفا له بعد تعويضي ورمزي، تجسد نقائضه مع الواقع ومع الآخرين، وذلك لحظة رفض قبوله في كلية الطب من قبل المؤسسة الجامعية، ولحظة رغبته في الكشف عن شخصيته مع حبيبته كارولين خشية أن تفضح شخصيته وضعفه. مثلما هو تصميمه لشخصية عبدالله وتقديمه كصورة للشاطر في العمل وتجاوز أنظمة الدولة، فضلا عن تصميمه لشخصيات أبي فهد، وأبي عبدالله كصور مسلكية خاضعة للنظام الإجتماعي، وعلى الرغم من عملها في المؤسسات الرسمية، إلا أن ذلك لا يشفع لهما شرعنة الاندماج في المجتمع الرسمي.
توتر سردي:
   وحتى تصميم الشخصيات النسائية في الرواية يتشكل وفق طبيعة التوتر السردي في الرواية فابنة العم ترفض لأنه من(البدون) وأخت فهد تمارس أوهامها من خلال الإفراط في توصيف نقائضها بالجمال والوقاحة، وشخصية الحبيبة كارولين تعيش وهم هوية حبيبها فهد، كما شخصية نهلة العراقية تتناغم مع مركب النقص الذي تعاني منه شخصية فهد بوصفها شخصية إشباعية، مثلما هي الشخصية الإغوائية التي تدفعه للموت مقتولا.. علاقات هذه الشخصيات مع المكان تنطوي على مستوى عال من الضدية، لأن هذا المكان يفقد حميميته مع تحوله إلى مكان معاد_وفق التوصيف الباشلاري_ وبما يجعله أكثر تمثيلا لهواجس الشخصية المطرودة، وأكثر تعبيرا عن مشكلة الهوية المقتولة كما يصفها أمين معلوف.
 
لبوس سياسي:
  الزمن الواقعي للأحداث يتناسب طرديا مع الزمن السردي، إذ مع تأزم مشكلة الشخصية وعلاقتها مع القوانين الطاردة، ومع الهوية المطرودة، يأخذ الزمن السردي بعدا تعبيريا له مديات نفسية مشوهة تتبدى عنها عزلة البطل/ فهد وتهجير صديقه عبدالله، وامتناع ابنة عمه خلود عن الزواج به، وكذلك فقدانه لحبيبته، وانتهاء بتهجيره على الحدود مع عائلته.. كما أن الزمن الواقعي يتلبس لبوسا سياسيا مع أحداث غزو النظام السابق للكويت، ومشاركة فهد في المقاومة الكويتية، إلا أن امتناعه عن إلصاق بعض البوسترات يضعه خارج السياق، بل يجد فيه مجالا تعويضيا للتعبير عن أزمته مع النظام الاجتماعي والسياسي..
هذه الرواية_رغم واقعيتها_ إلا أن سحريتها ورمزيتها تكمن في الخطاب السردي الذي تصفه، والذي يتحول إلى معادل تدويني لنسق من(المسكوت عنه) إذ يتمثل لتاريخ وسيرة جماعة تعيش محنة وجودها وهويتها في المجتمع، مثلما تعيش أزمة حرمانها بسبب الفقد الذي يجعلها مسلوبة الحريات والحقوق.