19 ديسمبر، 2024 12:03 ص

البخل تاج المعائب

البخل تاج المعائب

ما أسعدك ياابن آدم إن قلت معائبك وكثرت خصالك المحمودة! وكما قال علي بن الجهم:
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تُعد معايبه
الإيفاء بالمواعيد، والالتزام بتنفيذها، خصلة تضاف الى الخصال الحميدة التي من المفترض أن يتحلى بها الإنسان السوي، لاسيما إذا كان الموعودون رعية يتحتم على الراعي مداراة واجباته تجاههم، فهو أولا وأخيرا مسؤول عن رعيته. ولايخفى أن العراقيين قد تعودوا على عدم الاكتراث بمواعيد ساستهم وعهودهم التي يعدونهم بها، حتى غدت خصلة نقض العهود سمة بارزة يتسم بها ساسة عراقنا الجديد، بل زادوها خبثا بالتفاخر بالبخل والتبجح به، الى حد بات المواطن يناشدهم بملء فيه ببيت الشعر:
لاتدعني ككمون بمزرعة ​
​ إن فاته الماء أغنته المواعيد
وقد وصل المواطن الى يقين تام بأن التأخير في تنفيذ الوعود ليس عفويا ولا مصادفة ولا ظرفا طارئا، بل هو مقصود ومتعمد. وقد مل العراقيون سماع مفردات التصبير والتطمين الكاذبة التي يواري الساسة بها أخطاءهم، ولطالما كانت سياسات النظام السابق الشماعة التي يعلق عليها السياسي اللاحق تقصيره وتماهله وإهماله وتلكؤه، ويتضح لأي متتبع للأخبار السياسية في عراق مابعد عام 2003، ان تلك المفردات تشعبت كثيرا في خطابات الساسة والمسؤولين وتصريحاتهم في دورات مجالسنا السابقة، فكانت الكلمات المستخدمة والجارية على ألسنتهم، محفوظة واسطوانة مشروخة في أذن المواطن، فكأنهم قرروا وعزموا على ان لايقدموا شيئا يخدم البلاد والعباد، مقابل أعذار جاهزة، وهم ظنوا ان اتباعهم هذا السلوك في التملص من إتمام المسؤوليات الملقاة على عاتقهم، ينجيهم من وضعهم في قفص الاتهام عاجلا او آجلا، وقطعا هذا ناتج عن أمنهم واطمئنانهم من سوء العاقبة والعقاب، فقد قيل سابقا؛ (من أمن العقاب ساء الأدب). فكأن المماطلة والتسويف في المواعيد والعهود، صار ديدن من يتبوأ مقعدا في منصب حساس، لاسيما مناصب صنع القرار والبت فيه وتشريع مايخدم المواطن والمصلحة العامة. في الوقت الذي كان حريا بمن يتسنم موقعا كهذا، ان يسخِّر طاقاته لاختزال مايمكن اختزاله من الزمن، من أجل اللحاق بالأمم التي سبقتنا بالتحضر زمانا ومكانا ومكانة. اليوم ونحن كما نقول (ولد اليوم) لدينا ساسة منتخبون في بلد يزعم أنه ديمقراطي، ومن المفترض ان يخرجوا من صومعة سلبيات من سبقهم، وعليهم استبدال الطالح من الأعمال بالصالح منها، وكذلك السيئ بالجيد، و (الشين بالزين)، وأن لايبخلوا على مواطنيهم بإتمام ماوعدوهم به، فهل هم فاعلون هذا؟ وهل يغيرون الصورة الموحشة التي تعكس بخل السابقين على المواطن حتى بالإيفاء بقسمهم على أتم وجه؟
يذكرني بخل ساستنا بأداء كل شيء -حتى واجبهم- بنادرة رويت عن أحد البخلاء، الذي نزل عنده ضيف يوما، فنادى ولده قائلا: يابني، اذهب الى السوق واجلب لنا أحسن قطعة لحم عند الجزار، فاليوم حل عندنا ضيف عزيز على قلبي. فذهب الولد الى السوق، والضيف متأمل عودته بفارغ الصبر والجوع يأخذ منه مأخذه. وبعد مضي وقت طويل رجع الابن.. ويداه خاليتان، فسأله أبوه: أين اللحم ياولدي؟ قال الولد -والضيف يسمع-: ياأبتِ قلت للجزار: أعطني أحسن ما عندك من اللحم، قال لي: سأعطيك لحما كأنه زبدة. فشاورت عقلي: لِمَ لاأشتري الزبدة بدل اللحم؟ فرحت للبقال وقلت له: أعطني أحسن ما عندك من زبدة. قال لي البقال: سأعطيك زبدة كأنها دبس من حلاوتها. وشاورت عقلي أيضا: إذا كان الأمر هكذا.. لِمَ لاأشتري الدبس بدل الزبدة؟ فرحت لراعي الدبس وقلت له: أعطني أحسن ما عندك من الدبس. فقال الرجل: سأعطيك دبسا كأنه الماء الصافي. فقلت لنفسي: لِمَ التبذير؟! عندنا ماء صافٍ في البيت، لذا رجعت من دون أن أشتري شيئا.
أظن ساستنا الجاثمين على صدورنا منذ أربعة عشر عاما، قد نحوا منحى ابن صاحبنا، وغلوا أيديهم الى أعناقهم، وبخلوا بكل مايعود للمواطن بالنفع والفائدة، والبخل كما معلوم أدنى درجات المعائب، وقد توجوا به باقي الدرجات التي حققوها باستحقاق منقطع النظير.
[email protected]