كان بإمكان مملكة البحرين، وهي الحديثة العهد بالنظام الملكي الدستوري، أن تنتفض ضد الديمقراطية و(تكفر) بها وبما لحقها من منظومة تختص بتحديد صلاحيات السلطات والفصل بينهما وتحديد الصلاحيات الملكية وتقييدها بالأطر الدستورية، من بعد أحداث 2011، وما سمي قسرًا (الربيع العربي).
كان بإمكانها أن تنتفض على كل القيود التي منعتها من مواجهة الإرهاب والإرهابيين الذين عاثوا في أمن الدولة فساداً متدثرين بالمنظومة الحقوقية للمدنيين التي منحها الدستور للمواطن والمقيم في مملكة البحرين.
فقد تم استغلال وتوظيف كل ما هو متاح من (نعيم) الديمقراطيات كحقوق الإنسان والحصانة البرلمانية للنواب المنتخبين، والدعم الذي لقيته المؤسسات المدنية من المجتمع المدني، والحريات الإعلامية والمدنية… إلخ… جميعها تم استغلاله وتوظيفه من قبل حزب الدعوة الشيعي للانقلاب على الدستور وعلى الملكية، لا سلماً، بل بالعنف وبالإرهاب، فقتل أكثر من عشرين رجل أمن وأصيب أكثر من 3000 منهم، وهوجمت مراكز الشرطة والسجون ولقيت هذه الأعمال الإرهابية غطاء ومظلة حقوقية لا محلية فحسب بل دولية كذلك، بحجة حماية الحقوق والحريات!!
لكن البحرين أبقت على خيارها وتمسكت بالأطر الدستورية، حتى حين أرادت إجراء تعديل دستوري يتيح للقضاء العسكري أن يحاكم (المدنيين) الذين يشنون أعمالاً إرهابية على القوات المسلحة وعلى المنشآت العسكرية، رغم كل الذي عانته البحرين من تغول في العنف من ميليشيات وتنظيمات مسلحة ممن اعتبر للسخرية (مدنياً)، وهو الذي تلقى تدريباً عسكرياً وحمل سلاحاً وتحرك ضمن خلايا تقاد بقيادة مركزية، فلم يبق من التسمية العسكرية إلا الاسم فقط، إلا أن حكومة البحرين لم تقم بالقفز على الصلاحيات والاختصاصات المحددة سلفاً بالدستور لجميع السلطات بما فيها السلطة القضائية وتداخلها مع السلطة التنفيذية، فقدمت طلبها وفق الإجراءات الدستورية المعتادة كمشروع بقانون للسلطة التشريعية ليدخل المشروع دورته الاعتيادية، فاجتمعت اللجنة التشريعية في الغرفة الأولى بوزير الدفاع واستمعت لمرئيات الوزارة ومسوغاتها التي تبرر هذا الطلب وقدمت تقريرها الذي جرى مناقشته في جلسة عمومية، وتم التصويت عليه ومر القانون، حتى وإن كان هناك ممتنعون وهناك معترضون فإن الغالبية كانت موافقة، وأحيل القانون للغرفة الثانية كي يأخذ دورته الاعتيادية.
البحرين إذن تتمسك بخيارها الدستوري وتعالج ما يمكن معالجته لمواجهة المتغيرات والمستجدات دون أن تنتفض على هذا الخيار وتنقلب عليه، رغم أن الانتفاضات على تلك المنظومة الليبرالية برمتها تسود العالم اليوم بعد المستجدات التي طرأت على الأمن والسلم، الانقلاب على تلك المنظومة يسود أمهاتها وعقر دارها.
فالمرشحون الذين يمثلون اليمين المتطرف في أوروبا أو في الولايات المتحدة والذين ينادون بالقيود على الهجرة وبتوسيع الصلاحيات الأمنية لا يفوزون عبثاً، ولا يتقدمون على منافسيهم دون دلالات على أن الشعوب الغربية التي اختارت الليبرالية فكراً ومنظومة للقيم على مدى أكثر من نصف قرن، هي التي بدأت تضيق ذرعاً بتغول تلك المنظومة على حساب الأمن الجماعي.
حتى محاولات التحايل على تلك القيود باءت بالفشل، فالسجون المتنقلة التي أنشأتها الولايات المتحدة خارج حدودها كي تتمكن من ملاحقة الإرهابيين وحماية أمنها القومي بعيداً عن قيود المنظومة الحقوقية المدنية الأميركية أغلقت وتمت ملاحقتها من قبل تلك المنظومة ورعاتها وحماتها.
في أوروبا يعاد النظر من جديد في كل التقاطعات الأمنية مع الحريات والحقوق المدنية، في التعبير وفي الهجرة وفي التنصت وفي التنقل، فلم تكن الحقوق والحريات سوى ثغرات استغلها الإرهاب للدخول وتهديد الأمن الجماعي بما فيها تهديد تلك المنظومة.
ما يفعله ترمب أو مارين لوبان أو الحزب البديل الألماني وكل من سمي ووصف بالتطرف اليميني أوروبياً كان أو أميركياً أنهم لا يتحايلون ولا يجاملون ولا يغيرون المسميات بل يتكلمون بصراحة، بأنه لا بد أن يكون للمنظومة الحقوقية حدود، فلا يجوز تغولها إلى الحد الذي وصلت إليه من تمدد أتاحت فيه حتى للإرهابي أن يعمل تحت مظلتها ويتظلل برعايتها ويحتمي بظلها، وجميعهم يؤكدون لأوروبا وأميركا أن التخوف على جميع تلك الإنجازات الحضارية التي يتمتع بها الغرب من (نعيم) تلك المنظومة لن تتغير من حقوق وحريات، لن تمس لكنها ستصبح أكثر ترشيداًّ!!
فإذا شهدنا مراجعة أم الديمقراطيات لحدود المنظومة الحقوقية التي ابتدعتها، وإذا رأينا بأم أعيننا كيف استغل الإرهاب مداخل ومخارج وثغرات تلك المنظومة ليضرب ضرباته ويستظل بها، فيحق للبحرين أن تفخر بأنها رغم هذه الفرصة التي أتيحت لنظامها أن ينسف وعوده ويتراجع عنها مستشهداً بالتراجعات الغربية ومتعذراً بالأخطار المهددة للمنطقة كلها، وللبحرين على وجه الخصوص، فإنه تمسك بخياره الديمقراطي ولم ينقلب عليه، وأجرى التعديل الدستوري من خلال سلطة تشريعية منتخبة وبضمانات حقوقية يوفرها القانون القضائي المدني والعسكري أينما كانت المحاكمة.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”