ندرك جميعاً وجود أزمة على صعيد تمويل المشاريع والأعمال الفنية والثقافية والأدبية بشكل ٍ عام والراقي منها بشكل ٍ خاص، والذي يحمل مضموناً أو يناقش قضايا المجتمع والإنسان بشكل ٍ واقعي، واعي، سلس، ومميز يساهم في الإرتقاء بذائقة وفكر المتلقي وتوسيع مداركه، كما يسلط الضوء على ما يعيشه دون افتعال أو مبالغة أو متاجرة من خلال تقديمه للفكرة أو الحالة مغلفةً بشحنةٍ عاطفية إنسانية تمس وجدانه فعلياً وتجعله يصدقها ويتماهى معها دون استدرار عواطفه ودموعه..
وفي ظل اكتساح الأعمال ذات المضمون السطحي والهابط والتجاري والمسف والمبتذل والمنقول والمكرر (دون تعميم) وتسيدها للمشهد رغبةً في تحقيق الكسب المادي السريع واستثماراً لحالة الجوع إلى الشهرة التي باتت ملحوظة بشكلٍ لا يحتاج إلى مناقشته، بات الكثير من المنتجين ورؤوس الأموال وبعض الباحثين عن الظهور الإعلامي بتمويل بعض هذه الأعمال طمعاً في المردود المادي والشهرة خاصةً على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي لتحقيق نسب مشاهدة مرتفعة تجتذب بدورها المعلنين وتساهم في نشر (أعمالهم) بصورة أكبر والدوران في حلقة مفرغة من التدني، فيما يصاب الكثير من الأسماء الراقية والمحترمة والمرموقة بالإحباط بين أجيال قدمت مسيرةً هامة، وأجيالٍ تحاول أن تحذو حذوها من المتواجدين أو الصاعدين الذين يقدمون نتاجهم بشكلٍ انتقائي ومدروس لإدراكها بحقيقة الوضع الحالي ومدى صعوبة مجاراته لتعارضه مع ما قدمته أو تحلم بتقديمه، وتناقضه مع رؤيتها وفكرها ونظرتها للحياة وقيمها التي تحملها، فتأبى أن تنساق خلف هذه الموجة رغم صعوبة هذا القرار وتبعاته القاسية عليها من كل النواحي..
لذا يكون الحل الأخير في معظم بلادنا والذي يبدو مغرياً (في بعض الأحيان) هو البحث عن تمويل غربي لهذه المشاريع والأعمال، فنجد على سبيل المثال في الحقل السينمائي عدداً من المؤسسات الإعلامية والثقافية التي تقوم بالمساهمة في إنتاج أفلام سينمائية من فلسطين ولبنان وسوريا وتونس والجزائر والمغرب والعراق والتي تتركز في أوروبا وبشكل ٍ خاص في فرنسا وألمانيا من خلال مؤسسات وقنوات تليفزيونية شهيرة تقوم بعرض هذه الأعمال على شاشاتها بعد صدورها، كما تمول أيضاً بشكلٍ مماثل أعمالاً فنية من دول أخرى في افريقيا أو آسيا أو أوروبا الشرقية، وتأتي المشاركة بعدها بشكل ٍ أقل من إيطاليا وسويسرا ودول أوروبية أو غربية أخرى مثل هولندا أو كندا، وأحياناً تشترك عدة مؤسسات من عدة دول في تمويل عمل واحد ليس لضخامته بل لمحدودية الميزانية المخصصة ولكثرة الطلبات القادمة من دولنا ودول أخرى قصدتهم بحثاً عن التمويل، وتأتي هذه المساهمات (المدروسة) بعد دراسة مستفيضة لمشروع العمل والقيام بأكثر من تعديل ومراجعة له على مدار أشهر وسنوات بين أخذ ورد ورفض وقبول.. ولكن بشروط..
ولا يحتاج الكثيرون سوى لمتابعة هذه الأعمال لفهم مضمونها وفهم سبب تمويل هذه المؤسسات لها حتى بشهادة فنانين عرب مقيمين في باريس أو برلين على سبيل المثال، كتصريحات المغني الجزائري الشهير رشيد طه (والذي رحل عام ٢٠١٨) مهاجماً في إحدى اطلالاته الأخيرة على إحدى وسائل الإعلام الفرنسية طريقة ظهور العرب في الإعلام الفرنسي قائلاً أن الإعلام لا يذكرنا إلا للحديث عن الإرهاب وطبق الكسكسي !! والذي أثار ضجة ً في حينها تناقلتها الصحافة الفرنسية..
وبالحديث عن هذه الأعمال فهي لا تضيف إلى المكتبة المحلية في أي بلد تمثله أو البلد الذي أنتجه أو ساهم في إنتاجه، ولا جديد فيها كونها عبارة عن نسخة منقولة عن الأعمال الفنية الأوروبية من حيث المعالجة والأداء ومختلف الخصائص التي يفترض أنها تميز (هوية) أي عمل حيث لا يربطها به سوى أنها ناطقة باللهجات العامية في بلادنا، فهي لا تتحدث عن قضايا تمس الحياة اليومية لأي مواطن، وتتحدث بإستمرار عن الإرهاب والتطرف والحرية الجنسية مع بعض اللمسات (المحلية) التي يتم تمريرها بشكل يفتقر إلى الذكاء والحرفية، ويتسم أحياناً بقدر كبير من السذاجة والركاكة إن كانت من ناحية الفكرة أو الأداء أو الكتابة أو الحوار لمحاولة (تذكير) المشاهد بأن هذه القصة تحدث في فلسطين أو لبنان أو تونس، وبرغم أن كل هذه الموضوعات تمت مناقشتها محلياً إلا أن إعادة طرحها بشكل فج وبتمويل غربي لا يخلو من شبهات، خاصةً وأن الكثير من التفاصيل تخضع للتهويل فيما يتم التعامل بسطحية مع المشاكل الحقيقية، ونذكر الأفلام الفلسطينية ذات التمويل الغربي على سبيل المثال والتي لا تقدم الواقع الفلسطيني تحت الإحتلال كما هو، بل يتم تمييعه من خلال قصص شخصية لأبطال العمل فيما لا تتم الإشارة فعلياً إلى ممارساته بشكل ٍ مباشر، ونرى نفس الأمر في أفلام تحدث في لبنان أو تونس والتي لا تشبهه أو تمثل واقع الشعبين على اختلاف فئاتهم، وكأن بعض القصص يتم تركيبها لتوافق ذوق الممولين وتطوف المهرجانات السينمائية العالمية تحت مسمى تقديم الواقع العربي، عدا عن وجود تداخل مباشر أو من خلف الكواليس من قبل منتجين ومخرجين صهاينة يشاركون في دعم بعض هذه الأعمال، كما يتواجدون بقوة في أروقة هذه المؤسسات وشاشاتها فيقدمون أعمالهم بحرية ويقدمون وجهة نظرهم التي تقوم بتلميع صورتهم من خلال حمل الكثير منهم لأكثر من جنسية إلى جانب (الجنسية الإسرائيلية)..
وهنا نتمنى عودة الدعم إلى الأعمال الفنية والثقافية والأدبية الراقية في بلادنا وتحلي العاملين في هذه الصناعة بالوعي والمسؤولية وفهم مدى خطورة وأهمية الدور الذي يقومون به وينعكس على المجتمع ككل، وعلينا أن نحكي ونقدم حكاياتنا بأنفسنا كي لا يقدمها غيرنا بطريقته وأسلوبه ووجهة نظره، وكي لا تتجه أسماء ومواهب رفيعة نعتز بها إلى مؤسسات غربية تحتفي بها وتعرف قيمة ما تقدمه، فيما يفسح المجال في بلادنا أمام أشخاص لا نعرف فعلاً من هم وماذا يقدمون وكيف ظهروا ولماذا لا زالوا مستمرين ؟