26 نوفمبر، 2024 10:17 ص
Search
Close this search box.

البحث عن كائن لغوي..في (هدوء الفضة )

البحث عن كائن لغوي..في (هدوء الفضة )

صدرت عن دار ضفاف للطباعة والنشر ، المجموعة الشعرية الخامسة للشاعر العراقي مقداد مسعود (هدوء الفضة) . بعد مجاميعه الأربع ( حافة كوب أزرق) الذي صدر عام 2012و ( ما يختصره الكحل يتوسع فيه الزبيب ) عام2013و ( جياد من ريش نسور) في نفس العام و ( يدي تنسى كثيرأ) في عام 2014 . والمجموعات الخمس صدرت في بحر سنوات ثلاث ،مما يثير الدهشة والغرابة من هذا الإنهمار الشعري المكثف ، لمثقف استطاع أن ْ يصقل وعيه الفكري ويشذب ذائقته الشعرية .على مرور سنوات من مواكبة الأدب والذوبان فيه . فهو ناقد وكاتب موسوعي . اعني بالموسوعية ، الكتابة في مجالات شتى .كما يوحي بعمق إنشغالاته ، وطاقته في إنجاز هذا المشروع الشعري التأملي .وكأني به وهو الذي يُقر إنحيازه الى المعتزلة ، الذين تجاوزوا عصرهم بتعرضهم لأشكاليات حادة وضعتهم في خانة التمرد على المألوف .وهو يفخر بانه يعتبر نفسه معتزليا معاصرا . وإذا كان الإعتزال الحديث يكمن فصدرت عن دار ضفاف للطباعة والنشر ، المجموعة الشعرية الخامسة للشاعر العراقي مقداد مسعود (هدوء الفضة) . بعد مجاميعه الأربع ( حافة كوب أزرق) الذي صدر عام 2012و ( ما يختصره الكحل يتوسع فيه الزبيب ) عام2013و ( جياد من ريش نسور) في نفس العام و ( يدي تنسى كثيرأ) في عام 2014 . والمجموعات الخمس صدرت في بحر سنوات ثلاث ،مما يثير الدهشة والغرابة من هذا الإنهمار الشعري المكثف ، لمثقف استطاع أن ْ يصقل وعيه الفكري ويشذب ذائقته الشعرية .على مرور سنوات من مواكبة الأدب والذوبان فيه . فهو ناقد وكاتب موسوعي . اعني بالموسوعية ، الكتابة في مجالات شتى .كما يوحي بعمق إنشغالاته ، وطاقته في إنجاز هذا المشروع الشعري التأملي .وكأني به وهو الذي يُقر إنحيازه الى المعتزلة ، الذين تجاوزوا عصرهم بتعرضهم لأشكاليات حادة وضعتهم في خانة التمرد على المألوف .وهو يفخر بانه يعتبر نفسه معتزليا معاصرا . وإذا كان الإعتزال الحديث يكمن في تتبع الفكر التنويري للمعتزلة ، فهذا شرف يتمناه الكثيرون ، ولقد ذكر الباحث العراقي رشيد خيون عن المعتزلة مايفهم ” أنه لو تسنى لهذه الفرقة – ويعني المعتزلة – الإستمرار ، لدام تطور العلوم والإختراعات ” . والأعتزال بغض النظر عن أصل التسمية ، سواء أكان السبب في كون واصل بن عطاء قد إعتزل منهج الحسن البصري .أولأسباب أخرى تطرق اليها الباحثون في الفرق والحركات الأسلامية . ولكن الذي يعنينا هو أن هذا البصري المعاصر المدعو مقداد بن مسعود ، يقترح فهما آخر لمسلمات ورثناها ونحن نهيم في وسط عتمة فكرية ومرحلة ظلامية ، أزاحت العقل وحاولت إعتقاله وتجهيله . لذا فقد إنسحب الشاعر مقداد داخل دهاليز الذات المتشظية ، للبحث-عن طريق الشعر- عن جوهر الأشياء ، كي يتلمس ملامحها بهدوء وحرص . لعله يعيد إليها شيئا من بهائها الذي فقدته .إنه البحث عن العقلانية في تأمل المحسوس، ومحاولة إستخلاص جوهره ومكنونه ، او هكذا أظن رغم أنّ بعض الظن إثم ! مجموعته الشعرية ( هدوء الفضة) ، تفتح بابا للتساؤل ، وهو الذي يقول عنها : ” هل هي محاولتي في إجتراح كائن لغوي يتصدى بعزيمة طفل لكل ما يجري من أسلاك ” وإذا كان الشاعر يقصد الأسلاك اللغوية السائدة ، فقد حاول أن يتحداها ، مبرزا بعض المفردات والألفاظ التي تشاكس المعيار القاموسي المألوف . كقوله ( زورقت طفولتي محطة لك ، رخّ الماء في العجين ، لاتكيف بكيف ولاتؤين بأين ، والمتشائب …الخ ) وهذا يضعنا امام إشكالية اللغة ، وعلاقتها بالمعاني ، من حيث أيهما وعاء للأخر .المعنى أوالإشارة اللغوية ولكنني أرى أن الشاعر يعني ماوراء اللغة من تشفير وترميز قد لاتتحمله اللغة الفصحى ، ولكن اللهجة الدارجة قادرة على إستيعابه .لذلك فقد استخدم مفردات لغوية محكية ومفهومة ولكنها تنتمي الى الدارج من الكلام (الستريج البيزون ستن الكودري والشيفون والفرفوري والصندل وكفشة مريم ومكياج ومحلات الأنتيكا..الخ) . مما له دلالة على إنشغالات الشاعر بالدلالة والإيحاء اللغوي، حتى وإن إستعاره من اللفظ المتداول في الحياة اليومية .ولكنه لجأ احيانا الى إستخدام بعض المفردات الفصيحة وغير المتداولة” فرأيتهم يساقون مهطعين الى قعر الوادي”
وكان باستطاعته ان يصفهم بالذل ولكنه استخدم بدلا منها اللفظة الفصيحة والمهجورة! . كانت الفضة – كمفردة مجردة- لولبا لجميع قصائد المجموعة السبع والأربعين .وكأنّ الشاعر قد جعلها لافتة وثيمة وقصدا ،أو كأنه يتعمد أنْ يرصّع بها مقاطع االقصيدة . فتنعش النص ،وتشكل عمود بناءه الفني والفكري . أو تكون جزءً من النص في احيان اخرى . وكأني بالشاعر قد كرس المجموعة لهذه القيمة العليا التي تمثلها الفضة . ويعتقد البعض بان الفضة تشكلت من تفاعلات الغبار الذري ، الذي تكونت منه المجموعة الشمسية ، وهي معدن ثمين فقد أكتشف في الألف الرابع قبل الميلاد . وهو ذو لون رمادي فاتح ، يميل الى البياض . وفي حالة صقل السطح يصبح بملمس زجاجي . وإنها – اي الفضة – تعكس نسبة كبيرة من الضوء الساقط عليها فتصبح كالمرآة . وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة الإنسان ” ويطاف عليهم بآنية من فضة ، وأكواب كانت قوارير ” كما ورد في الشعر العربي أمثلة كثيرة عن الفضة واللجين . وللشاعر الراحل نزار قباني بيت جميل يتضمن الفضة “أيتها الأنثى التي في صوتها تمتزج الفضة بالنبيذ بالأمطار ومن مرايا ركبتيها يطلع النهار .” ولايخفى على الشاعرمقداد مسعود أنّ للفضة مرادفات غير قليلة ( اللجين والورق والصريف ) ولكنه أصر على استخدام الفضة فقط . ربما لما تتركه من ايحاءات وإشارات ورموز ،وربما لشهرة التسمية . وأمازيغ المغرب يسمونها (النُقرة) ويقيمون لها مهرجانا سنويا ، تلبس النسوة فيه كل المصوغات الفضية البراقة وذات الأشكال التقليدية ولاسيما مصوغة( الْخُلالة ). حفلت قصائد مجموعته الشعرية ( هدوء الفضة) بهذه المفردة ، من بدايتها الى آخر قصيدة . وهذا يوحي للقاريء بحجم إنشغالات شاعرنا الفكرية ، فإضافة الى كونه شاعرا فهو أديب وناقد ومفكر . ولاتخلو كتاباته من نفحة تأملية تتجلى في كتاباته التي تميل الى تحليل الظواهر المختلفة في الأدب والحياة ، وقد إنسحب هذا الهاجس التأملي على شعره . فحالما يلتقط المعنى ، حتى يذوب فيه . وقد كانت قصائده حافلة في هوس تأملي ، يقترب الى الحلول في الظاهرة والتفاعل معها وإبراز صفاتها ونكهتها وتأثيراتها وعمق أسرارها . وكأنه يغوص في الفضة مثلا ، ويصبح جزءً منها ويحاول أنْ يحتكم بينها وبين كل الظواهر المحيطة ، وكأنها جوهركل شيء. ” إنّ كتابة صابرة إنتظرت ..خطوي ، لأقرأ ..فضتها ” ولكنها لاتأتي على نسق متشابه ، بل انها تختلف أو تتشابه او تتشابك في المعنى حتى حد التناحر . وكأنها تعكس العالم المحيط بها والمشحون بالمتغيرات . ولكن التوصيف الأول لهذه الفضة يختلف ويتقافز كأنه المد الذي يحمل زبد البحر . فهي ظل إمرأة ،ووردة تعرت من رائحتها ، وليلة ثلجية .ولكن هذه الفضة التي تتراءى في كل شيء وكأنها متاحة للجميع ، تبدو عصية و عسيرة على المنال . في قصيدة ( غيرة الشيفون ) يستغرق في عوالم فضية ، بحيث يتحول الليل الى شيء متألق لامع . فيبدا العشق الذي يحوّل زبد الموج الى حجل فضي ،حتى تتحول تلك المرأة الى رحيق يتعالى وكأنها نجمة خائفة مما يحيطها من رهبة التعقب ” برحيقك عالية . يانجمة من سلافة الأزهار. يداك شمسان ، نبضك فضة ، إنهم يتعقبون قلبك ” ص11 وهنا يبدأ حوار شجي بين صوتين – بدلالة كاف المخاطبة- فهي تحمّلُه اقتسام أزقة الطيور، والدوران
على أباريق الكروم . ولكن جوابه يرتقي الى الذوبان في المعشوق من خلال استخدامات لغوية لتجعل الصورة مابين التجريد والرومانسية . انها صورة الهيام في اقصى حالاته : ” في المطر أنا الجوّاب ، سأتقوس مظلة وأنا اسرق قدميك من أحذيتها كلها مطري لايبلل سواك .. في شرشفك أنبض نجمةً صحراوية اللهاث ” ص13 وتستمر القصيدة على هذا المنوال ، وأعتقد أنها من القصائد التي تحمل مشروع الشاعر مقداد مسعود لجعل الشعرجسرا للتأمل والتسامي .وذلك من خلال الحوار الذي هو أفرب الى الحلم منه الى الواقع . للبصرة كمدينة عشق لدى الشاعر ، فهي فضاؤه ، وفضته ، يتأملها بعمق ويسكب عليها حزنه . ولكنها تبقى البصرة التي يذوب فيها ويخشى عليها ويتعبد في محرابها ” لاتخافي على مجذوم ، يصليك ركعتين في سراجه ..وبحمدك يسبّح “ص20 ومع أنه يقر بان المدينة أصبحت غريبة ومحاطة بالألوان العدائية ، الا ان لديه أملا ، بان البصرة ستستعيد ألقها وستشرق عليها الفضة من جديد . وفي قصيدته ( بلم عشاري) تتحد صورة المرأة بالمدينة . فكلتاهما متحد بالآخر ، وتتحول البصرة الى مياه مفضضة بالبريق ، تحتضن البلم العشاري الذي يذوب رقة بين مويجات المدينة وصدى ذكريات دروبها . الشاعر /البلام يندمج في سحر المدينة ، وسيرى مالايراه الآخرون عنها .ستعود البصرة كمكتبة تشع العلم الى العالم “يطبق كفيه على المردي ، فتنبجس الفضة : كتبا جارية البلام بحياء بصري يصوب عينيه الى نقطة لايراها سواه ” وتبقى البصرة في قصائد الشاعر ،ظلا عاليا يطل علينا في مقاطع او في قصائد كاملة ، من خلال أحيائها وأزقتها وحواريها وانهارها وسواقيها . ومن المناطق والأحياء ، تطل علينا ( بريهة) التي تتحول الى حلم فردوسي يتخلله الماء الرقراق والحور العين . وهي جزء من البصرة الكبيرة ، بحدائقها ومعالم أسواقها وكنائسها ومساجدها واسواقها المعروفة ولاسيما سوق الصاغة من المندائيين ،وهجرتهم التعسفية الى بلدان الشتات . والذي ورد في قصيدة( زهرون) وهو الصائغ الصابئي الذي غادر البصرة مرغما ، ويعيش مابين البصرة الذاكرة ومولمو المهجر ،وقد افصحت هذه القصيدة عن اوجاع الهجرة لدى مكوناتنا العراقية بفعل العنف والأرهاب وضياع الدولة . لم تقل القصيدة ذلك ولكنها بإشارة موجزة تستطيع أنْ تفصح عما تريده . أما قصيدة حدائق الداكير . فرغم عوامل الإحباط المحيط بالبصرة ، فقد حملت شحنات من التفاؤل بحيث تجد أن ثمة امتزاجا جميلا مابين المدينة والحبيبة ، فكل منهما يسكن الآخر : ” الزوارق تنتظر وكذلك شط العرب حديقة الداكير كلها، لك ولك ايضا الكراسي كلها وهي المناضد ، وهذا الأخضر الصامت.. أغمرك بإخضراري المرتبك تحضنني فضة عينيك ..” يتحول اللون في المجموعة الشعرية الى لغة ، لها دلالاتها ، فقد أثبت الشاعر مقداد أنه فنان يمزج الألوان وينغمر فيها ، مما وسع من قدرات النص على تحمّل الدلالات الرمزية ، حتى أنه جعل للعطر لونا
وللمساء لونا وكذلك الليل .ولايكتفي بتنفيذ اللون بل يحاول ان يجانس بينه وبين نقيضه . وقصائده تزخر بالأمثلة (ليلة بياضها ثلج/ الأصفر يطوق الأرجواني / في كوبي الأزرق / للقشطة المخضوضرة / نظارتها البصلية / الأصابع زرقاء الغصون) الخ من الأمثلة التي يزخر بها النص . كما ان نصوصه تنضح بالروائح والعطور التي يسعى اليها : ” سأقتفي ظل العطور في سلطان آباد أراك أبحث عن دكانة ذلك الأعمى ..” في أغلب قصائد مجموعته الشعرية يتناول الشاعر مقداد مسعود ادوات ومفردات يومية قد لاتثير انتباه الناس العاديين ، ولكنه يلبسها معان عميقة مثل قصيدة الخيط التي يبدأ بها من مفردة الخيط ، وينتهى بمسألة الخياط وهو الكادح والمنتج ، مرورا بحركة الخيط الشاقولية التي تجعل الشاعر يبحر الى الحسابات الهندسية والى حركات الدلاء في البئر . انه استطراد شعري يشحن القصيدة بالرؤى ، ويحملها بالمعاني . وكأنه يمسك عصاه الفنية ليضرب بها الأشياء برفق . ويجعلها تتعرى عن قشورها ، لتظهر الفضة/ الجوهر .ولاشيء غير الجوهر . هدوء الفضة قصائد تبحث عن البديل. قصائد تتكأ على العقل اوتاوةي تتبع الفكر التنويري للمعتزلة ، فهذا شرف يتمناه الكثيرون ، ولقد ذكر الباحث العراقي رشيد خيون عن المعتزلة مايفهم ” أنه لو تسنى لهذه الفرقة – ويعني المعتزلة – الإستمرار ، لدام تطور العلوم والإختراعات ” . والأعتزال بغض النظر عن أصل التسمية ، سواء أكان السبب في كون واصل بن عطاء قد إعتزل منهج الحسن البصري .أولأسباب أخرى تطرق اليها الباحثون في الفرق والحركات الأسلامية . ولكن الذي يعنينا هو أن هذا البصري المعاصر المدعو مقداد بن مسعود ، يقترح فهما آخر لمسلمات ورثناها ونحن نهيم في وسط عتمة فكرية ومرحلة ظلامية ، أزاحت العقل وحاولت إعتقاله وتجهيله . لذا فقد إنسحب الشاعر مقداد داخل دهاليز الذات المتشظية ، للبحث-عن طريق الشعر- عن جوهر الأشياء ، كي يتلمس ملامحها بهدوء وحرص . لعله يعيد إليها شيئا من بهائها الذي فقدته .إنه البحث عن العقلانية في تأمل المحسوس، ومحاولة إستخلاص جوهره ومكنونه ، او هكذا أظن رغم أنّ بعض الظن إثم ! مجموعته الشعرية ( هدوء الفضة) ، تفتح بابا للتساؤل ، وهو الذي يقول عنها : ” هل هي محاولتي في إجتراح كائن لغوي يتصدى بعزيمة طفل لكل ما يجري من أسلاك ” وإذا كان الشاعر يقصد الأسلاك اللغوية السائدة ، فقد حاول أن يتحداها ، مبرزا بعض المفردات والألفاظ التي تشاكس المعيار القاموسي المألوف . كقوله ( زورقت طفولتي محطة لك ، رخّ الماء في العجين ، لاتكيف بكيف ولاتؤين بأين ، والمتشائب …الخ ) وهذا يضعنا امام إشكالية اللغة ، وعلاقتها بالمعاني ، من حيث أيهما وعاء للأخر .المعنى أوالإشارة اللغوية ولكنني أرى أن الشاعر يعني ماوراء اللغة من تشفير وترميز قد لاتتحمله اللغة الفصحى ، ولكن اللهجة الدارجة قادرة على إستيعابه .لذلك فقد استخدم مفردات لغوية محكية ومفهومة ولكنها تنتمي الى الدارج من الكلام (الستريج البيزون ستن الكودري والشيفون والفرفوري والصندل وكفشة مريم ومكياج ومحلات الأنتيكا..الخ) . مما له دلالة على إنشغالات الشاعر بالدلالة والإيحاء اللغوي، حتى وإن إستعاره من اللفظ المتداول في الحياة اليومية .ولكنه لجأ احيانا الى إستخدام بعض المفردات الفصيحة وغير المتداولة” فرأيتهم يساقون مهطعين الى قعر الوادي”
وكان باستطاعته ان يصفهم بالذل ولكنه استخدم بدلا منها اللفظة الفصيحة والمهجورة! . كانت الفضة – كمفردة مجردة- لولبا لجميع قصائد المجموعة السبع والأربعين .وكأنّ الشاعر قد جعلها لافتة وثيمة وقصدا ،أو كأنه يتعمد أنْ يرصّع بها مقاطع االقصيدة . فتنعش النص ،وتشكل عمود بناءه الفني والفكري . أو تكون جزءً من النص في احيان اخرى . وكأني بالشاعر قد كرس المجموعة لهذه القيمة العليا التي تمثلها الفضة . ويعتقد البعض بان الفضة تشكلت من تفاعلات الغبار الذري ، الذي تكونت منه المجموعة الشمسية ، وهي معدن ثمين فقد أكتشف في الألف الرابع قبل الميلاد . وهو ذو لون رمادي فاتح ، يميل الى البياض . وفي حالة صقل السطح يصبح بملمس زجاجي . وإنها – اي الفضة – تعكس نسبة كبيرة من الضوء الساقط عليها فتصبح كالمرآة . وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة الإنسان ” ويطاف عليهم بآنية من فضة ، وأكواب كانت قوارير ” كما ورد في الشعر العربي أمثلة كثيرة عن الفضة واللجين . وللشاعر الراحل نزار قباني بيت جميل يتضمن الفضة “أيتها الأنثى التي في صوتها تمتزج الفضة بالنبيذ بالأمطار ومن مرايا ركبتيها يطلع النهار .” ولايخفى على الشاعرمقداد مسعود أنّ للفضة مرادفات غير قليلة ( اللجين والورق والصريف ) ولكنه أصر على استخدام الفضة فقط . ربما لما تتركه من ايحاءات وإشارات ورموز ،وربما لشهرة التسمية . وأمازيغ المغرب يسمونها (النُقرة) ويقيمون لها مهرجانا سنويا ، تلبس النسوة فيه كل المصوغات الفضية البراقة وذات الأشكال التقليدية ولاسيما مصوغة( الْخُلالة ). حفلت قصائد مجموعته الشعرية ( هدوء الفضة) بهذه المفردة ، من بدايتها الى آخر قصيدة . وهذا يوحي للقاريء بحجم إنشغالات شاعرنا الفكرية ، فإضافة الى كونه شاعرا فهو أديب وناقد ومفكر . ولاتخلو كتاباته من نفحة تأملية تتجلى في كتاباته التي تميل الى تحليل الظواهر المختلفة في الأدب والحياة ، وقد إنسحب هذا الهاجس التأملي على شعره . فحالما يلتقط المعنى ، حتى يذوب فيه . وقد كانت قصائده حافلة في هوس تأملي ، يقترب الى الحلول في الظاهرة والتفاعل معها وإبراز صفاتها ونكهتها وتأثيراتها وعمق أسرارها . وكأنه يغوص في الفضة مثلا ، ويصبح جزءً منها ويحاول أنْ يحتكم بينها وبين كل الظواهر المحيطة ، وكأنها جوهركل شيء. ” إنّ كتابة صابرة إنتظرت ..خطوي ، لأقرأ ..فضتها ” ولكنها لاتأتي على نسق متشابه ، بل انها تختلف أو تتشابه او تتشابك في المعنى حتى حد التناحر . وكأنها تعكس العالم المحيط بها والمشحون بالمتغيرات . ولكن التوصيف الأول لهذه الفضة يختلف ويتقافز كأنه المد الذي يحمل زبد البحر . فهي ظل إمرأة ،ووردة تعرت من رائحتها ، وليلة ثلجية .ولكن هذه الفضة التي تتراءى في كل شيء وكأنها متاحة للجميع ، تبدو عصية و عسيرة على المنال . في قصيدة ( غيرة الشيفون ) يستغرق في عوالم فضية ، بحيث يتحول الليل الى شيء متألق لامع . فيبدا العشق الذي يحوّل زبد الموج الى حجل فضي ،حتى تتحول تلك المرأة الى رحيق يتعالى وكأنها نجمة خائفة مما يحيطها من رهبة التعقب ” برحيقك عالية . يانجمة من سلافة الأزهار. يداك شمسان ، نبضك فضة ، إنهم يتعقبون قلبك ” ص11 وهنا يبدأ حوار شجي بين صوتين – بدلالة كاف المخاطبة- فهي تحمّلُه اقتسام أزقة الطيور، والدوران
على أباريق الكروم . ولكن جوابه يرتقي الى الذوبان في المعشوق من خلال استخدامات لغوية لتجعل الصورة مابين التجريد والرومانسية . انها صورة الهيام في اقصى حالاته : ” في المطر أنا الجوّاب ، سأتقوس مظلة وأنا اسرق قدميك من أحذيتها كلها مطري لايبلل سواك .. في شرشفك أنبض نجمةً صحراوية اللهاث ” ص13 وتستمر القصيدة على هذا المنوال ، وأعتقد أنها من القصائد التي تحمل مشروع الشاعر مقداد مسعود لجعل الشعرجسرا للتأمل والتسامي .وذلك من خلال الحوار الذي هو أفرب الى الحلم منه الى الواقع . للبصرة كمدينة عشق لدى الشاعر ، فهي فضاؤه ، وفضته ، يتأملها بعمق ويسكب عليها حزنه . ولكنها تبقى البصرة التي يذوب فيها ويخشى عليها ويتعبد في محرابها ” لاتخافي على مجذوم ، يصليك ركعتين في سراجه ..وبحمدك يسبّح “ص20 ومع أنه يقر بان المدينة أصبحت غريبة ومحاطة بالألوان العدائية ، الا ان لديه أملا ، بان البصرة ستستعيد ألقها وستشرق عليها الفضة من جديد . وفي قصيدته ( بلم عشاري) تتحد صورة المرأة بالمدينة . فكلتاهما متحد بالآخر ، وتتحول البصرة الى مياه مفضضة بالبريق ، تحتضن البلم العشاري الذي يذوب رقة بين مويجات المدينة وصدى ذكريات دروبها . الشاعر /البلام يندمج في سحر المدينة ، وسيرى مالايراه الآخرون عنها .ستعود البصرة كمكتبة تشع العلم الى العالم “يطبق كفيه على المردي ، فتنبجس الفضة : كتبا جارية البلام بحياء بصري يصوب عينيه الى نقطة لايراها سواه ” وتبقى البصرة في قصائد الشاعر ،ظلا عاليا يطل علينا في مقاطع او في قصائد كاملة ، من خلال أحيائها وأزقتها وحواريها وانهارها وسواقيها . ومن المناطق والأحياء ، تطل علينا ( بريهة) التي تتحول الى حلم فردوسي يتخلله الماء الرقراق والحور العين . وهي جزء من البصرة الكبيرة ، بحدائقها ومعالم أسواقها وكنائسها ومساجدها واسواقها المعروفة ولاسيما سوق الصاغة من المندائيين ،وهجرتهم التعسفية الى بلدان الشتات . والذي ورد في قصيدة( زهرون) وهو الصائغ الصابئي الذي غادر البصرة مرغما ، ويعيش مابين البصرة الذاكرة ومولمو المهجر ،وقد افصحت هذه القصيدة عن اوجاع الهجرة لدى مكوناتنا العراقية بفعل العنف والأرهاب وضياع الدولة . لم تقل القصيدة ذلك ولكنها بإشارة موجزة تستطيع أنْ تفصح عما تريده . أما قصيدة حدائق الداكير . فرغم عوامل الإحباط المحيط بالبصرة ، فقد حملت شحنات من التفاؤل بحيث تجد أن ثمة امتزاجا جميلا مابين المدينة والحبيبة ، فكل منهما يسكن الآخر : ” الزوارق تنتظر وكذلك شط العرب حديقة الداكير كلها، لك ولك ايضا الكراسي كلها وهي المناضد ، وهذا الأخضر الصامت.. أغمرك بإخضراري المرتبك تحضنني فضة عينيك ..” يتحول اللون في المجموعة الشعرية الى لغة ، لها دلالاتها ، فقد أثبت الشاعر مقداد أنه فنان يمزج الألوان وينغمر فيها ، مما وسع من قدرات النص على تحمّل الدلالات الرمزية ، حتى أنه جعل للعطر لونا
وللمساء لونا وكذلك الليل .ولايكتفي بتنفيذ اللون بل يحاول ان يجانس بينه وبين نقيضه . وقصائده تزخر بالأمثلة (ليلة بياضها ثلج/ الأصفر يطوق الأرجواني / في كوبي الأزرق / للقشطة المخضوضرة / نظارتها البصلية / الأصابع زرقاء الغصون) الخ من الأمثلة التي يزخر بها النص . كما ان نصوصه تنضح بالروائح والعطور التي يسعى اليها : ” سأقتفي ظل العطور في سلطان آباد أراك أبحث عن دكانة ذلك الأعمى ..” في أغلب قصائد مجموعته الشعرية يتناول الشاعر مقداد مسعود ادوات ومفردات يومية قد لاتثير انتباه الناس العاديين ، ولكنه يلبسها معان عميقة مثل قصيدة الخيط التي يبدأ بها من مفردة الخيط ، وينتهى بمسألة الخياط وهو الكادح والمنتج ، مرورا بحركة الخيط الشاقولية التي تجعل الشاعر يبحر الى الحسابات الهندسية والى حركات الدلاء في البئر . انه استطراد شعري يشحن القصيدة بالرؤى ، ويحملها بالمعاني . وكأنه يمسك عصاه الفنية ليضرب بها الأشياء برفق . ويجعلها تتعرى عن قشورها ، لتظهر الفضة/ الجوهر .ولاشيء غير الجوهر . هدوء الفضة قصائد تبحث عن البديل. قصائد تتكأ على العقل اوتاوة

أحدث المقالات