19 ديسمبر، 2024 4:04 ص

البحث عن المعنى المؤجل

البحث عن المعنى المؤجل

 تنصهر في كل مجموعة شعرية , رؤى الشاعر وتصوراته وتأملاته في الكون والعالم والأشياء المحيطة به , فتتشابك وتتفاعل فيما بينها , وتقدم عن طريق هذا التفاعل المنضبط رؤية للعالم , تضبط مسار التلقي , وتمنح القارئ حكماً على المقروء , يتسم هذا الحكم بالعمومية ؛ لأنه نتاج القراءة الشمولية لنصوص الديوان , فعنوان المجموعة ينبض بشكل خفي داخل النصوص , تنخفض درجة نبضه بين نص وآخر تبعاً لطبيعة المعنى المنبثق من النص , حتى لتغدو المجموعة الشعرية كلها نصاً واحداً .

  ففي اللحظة التي تخلّص بها الشعرُ من سطوة العمود الشعري , راحالشاعرُ الحديث يؤثث عوالماً شعريةً بعيدةً عن صخب الموسيقى , والخطابية المتولّدة من البناء العمودي , وصار الشعر أكثر حرية في الطواف حول المعنى , والاسترسال به , فما عادت القافية قيداً , أو إشارة حمراء يجب على الشاعر التوقف عند تخومها , صار الشعر يعتمد على التداعي الحر للألفاظ ,والدلالات, صار ضربا من الهيام الصوفي المعتمد على الموسيقى الداخلية التي يعزفها النصُّ حين ينصت ويتفاعل القارئ معه إنصاتاً ؛ بِغية العروج في ملكوت الشعر .

   بهذه المقدمة ندخل إلى ” المعنى المؤجل ” للشاعر نصير جابر , فقد اعتمد جابر في معناه المؤجل على نبذ القافية , وتخلى عن الوزن فتخلَّص من الخطابية وأثث معناه بسكونٍ شجي , وموسيقى هادئة تجعل اللفظ في استرسال دائم من العتبة الأولى حتى خاتمة النص .

   ولما كان المعنى المؤجل يوحي بتلازمٍ خفي بين النصوص , والعتبة الأولى للديوان تنبض داخل النصوص التي حوتها المجموعة كلها , ولا نغالي إذا ما قلنا : إن الإحساس الفجائعي , والحزن الشفيف , هما الهاجس المسيطر على فحوى الديوان بمجمله , فكلُّ نصوصه تكتنز بحمولات مأساوية , وعوالم من الشكوى والأنين, فالديوان بمجمله يمثّل نصاً واحداً بمعنى مؤجل , فإننا سنبحث عن المعنى المؤجل عبر استثمار البعد العلاماتي للعتبات , وإعادة تشكيلها بالشكل الذي يجعلها نصاً واحداً منفلتاً من حدود الوزن والقافية , ومعتمداً على الطاقة الإيحائية , والموسيقى الداخلية لألفاظ العتبات النصية , وهي تدخل في علاقة مع نظيراتها من ألفاظ العتبات الأخرى التي بُني عليها الديوان ؛ بغية اللحاق بالمعنى المؤجل المتواري في طيات النصوص .

   فالنص المرفق في أدناه هو مجموع العتبات النصية للديوان التي يبلغ عددها (20) عتبة , قمنا بإعادة تشكيلها وجعلها نصاً واحداً , عنوانه هو عنوان القصيدة الأولى في الديوان التي تحمل قصدية أراد بها جابر أن يطرق سمع المتلقي , فالنص بعد إعادة تشكيله برهنةٌ على كون الديوان يمثل رؤيةً للعالم صيغت بوصفها كتلة واحدة من مجموع النصوص التي تفيض بالحزن والأسى .

مرثية لعقيل علي المتواري في جنائنه

سألوحُ من بعيدٍ

تراتيلَ نهاراتِ التوقِ .

أهلي

خيبةُ صباحٍ ينطئُ.

زائرُ الليلِ ...شاعرةٌ ... هجرةُ ضفافٍ .

مذ ..ذاك الصدعُ

النخلةُ والصوفيّ تساؤلٌ عن تاريخِ الخبزِ .

مدينتي مصطبةٌ بلا ظلٍ .

أهلي الذوبانُ ...

المغمورُ

من هذيانات ابن بطوطةِ في رحلتِهِ حجرٌ كريمٌ .

 

    فالقراءة الأسلوبية لهذه العتبات , بعد إعادة تشكيلها وجعلها نصاً واحداً , تكشفُ عن حضورِ معجم الأسى : ( مرثية , خيبة , هجرة , ليل , المغمور , الذوبان , ينطفئ , بلا ظل , هذيان , الصدع ) هذا المعجم الدلالي للألفاظ يُنبِئ عن الرؤية المأساويَّة الحزينة المهيمنة على الذات الشاعرة , فالديوان كلّه مرثية , وما ” عقيل علي المتواري في جنائنه” إلا قناعاً لرثاء العالم والكون والأشياء , رثاء الأهل , والمدينة والزائرين , رثاء الروح والخيبات ,فــ(المعنى المؤجل) مرثية للذات وهي تعانق الآخر المتواري في جنائنه .

*. المعنى المؤجَّل : مجموعة شعرية للشاعر العراقي نصير جابر الفتلاوي , صادرة عن دار المدينة الفاضلة , الطبعة الأولى 2012م .

علي جواد عبادة

أحدث المقالات

أحدث المقالات