19 ديسمبر، 2024 1:49 ص

قبل أن تبدأ الشمس بالمغيب ,يقفل عبد الحميد دكان التوابل,ثم يخطو بجسده الناحل عبر أزقة العشار الضيقة لغاية جامع الملاك الذي يطل بابه الرئيسي على خمسة سلالم يتوجب تسلقها بصعوبة ليسلك الزقاق الذي على يمينه والمؤدي إلى تفرع زقاقين يتجهان نحو محلة البجاري, الأول يبدأ ببيت المختار عبد الصمد والثاني يبدأ ببيت علي جان . وباطمئنان يمشي بأقدام ثقيلة, متأبطا سجادته الصغيرة حتى يبلغ باب الحاج يقظان ليجلس أمامه قبل أن يغرق الزقاق بالظلام ثم يقوم ليمشي خطوات لا تتجاوز العشرين خطوة من دون أن يلقى أحدا في هذه الساعة من آخر النهار حتى يصل إلى بيته وهو لاهث الأنفاس ومرهق العينين.

ولكن في منتصف شهر آب , من السنة الخامسة وهو تحت رعاية الحاج عباس العطار , حدث أن يرمق الباب نفسه الذي يقع في ركن الزقاقين من خلل عدسات نظارته البيضاء بأهدابه المرتجفة وأقدامه التي ناءت بحمله طويلا, ثم انتصب أمامه في صمت ورهبة يتأمل نقوشه العجيبة والمنجزة بمهنية وفنية ساحرة , ثم اقترب يتلمس ألواحه الخشبية المرصعة ببقايا من صفائح صغيرة من أصداف المحار وأخرى من النحاس , ثم انتقل عبد الحميد ببصره وهو يلتقط أنفاسه إلى أعلى الباب حيث يبرز نصب صغير لحصانين متقابلين وقد رفعا قائمتيهما لتحيطان بالتاج الملكي القديم كأنه في نهاية المطاف على شيء لا يعرف كنهه. فبدأ ينتزع نظارته بيده اليمنى ويضع سجادته كالعادة على الأرض بيده اليسرى ليجلس مستندا على ركن الحائط لتنهال عليه شظايا الماضي بحديث مع جاره أبو خضير العطار وهو يمسك بحلقة تشبه الركاب وقد تدلت بواسطة سير جلدي من سقف الدكان ليسند وقوفه بها ويخاطبه بلهجة يشوبها الجزع :

– قلت لك لا تذهب يا عبد الحميد من ناحية الجامع فأنت لا تقوى على صعود السلالم هناك , وان فعلت فسوف تتصلب أقدامك ويظهر عليك التعب فيترنح جسدك وأنت في زقاق المختار , ففي المرة السابقة كنت تتمايل حتى سقطت في الزبل, أتذكر ؟ ثم تشبثت بك المرأة التي تجلس وحيدة في زقاق علي جان فأخرجتك بصعوبة وفي الدقائق الأخيرة لأشعة الشمس وهي تمشي الهوينى الى الغروب. توقف أبو خضير وهو يرفع رأسه قليلا نحو السماء ليقول : ” آه يا ربي لو كان عندي ولدا لجعلته يرافق صديقي على مهل إلى بيته ثم يندفع جريا في العودة نحوي ليساعدني في إدخال التوابل . ثم يبدأ صوت أبو خضير بالتسلل كالهمس من بين شفتيه وهو يطأطئ برأسه محدقا إلى الأرض تساوره الشكوك , ثم تسقط يده من حلقة الركاب ليجلس هادئا بين توابله ليرد عليه عبد الحميد :

– لا تساورك الشكوك ياحاج , وأنا ممنون لك , ونحن أيضا سنمشي الهوينى ذات يوم وستفلت من أيدينا حلقات الركاب هذه ونسافر إلى قبورنا , وأنا كما تعلم اصعد السلالم لرغبتي بالتوقف أمام الجامع لأشم رائحة المصلين وهي تتدفق كالأمواج منه , وأمام باب الحاج يقظان متجنبا العالم كله لأنه أرجأ انشغاله بي , وهذا ما أفعله متعمدا لاحيا , أما أنت يا عباس فتختار لي طريق ناصر أبو الدراجات الذي تفوح منه رائحة الدهون والعجلات المطاطية المكدسة في دكانه منذ سنين ما تجعلني مثل جثة منقوعة برائحتها فأتعجل بالذهاب لأستحم لكي أسترد جسدي الحقيقي , وهذه استعدادات لم أعد أقدر عليها يوميا كما تعرف.

هدأت أنفاس عبد الحميد وسط صرخات العصافير وهي تمر من فوق رأسه فجأة آئبة إلى أعشاشها ثم بدأ يحدق إلى الباب ثانية الذي بدا أمامه مثل أبواب المدافن المرصعة بالغبار والعفن وهو يستحضر في مخيلته تلك الأيام التي كان فيها الحاج يقظان يفترش حصيرته الصغيرة المصنوعة من أعواد البردي وهو يخاطبه : أترى هذا الباب الذي أجلس أمامه يا عبد الحميد ؟

– بلى أراه يا حاج إنه في عز الشباب ولي رغبة أن يوديني إلى عتبة منه لبيتي .

تنبه الحاج يقظان إلى كلام عبد الحميد فرد عليه قائلا:

– هناك ما يسوغ حديثك لكنني سأحقق ما تسعى إليه على شرط أن تكون أفكارك من لحم وعظم وعسى أن يطابق نجمك نجمها, فتقدم يا بني وأمسك زمامك لأُدنيك منها.

ثم جلس عبد الحميد ليكمل الحديث مع الحاج يقظان وهو يغمغم مع نفسه: ” صبرا يا عبد الحميد فأني والله كنت سريعا إلى أباها بوعدي “, ثم وقّر ذلك في قلبه وهو يلتفت إلى الحاج ليستمع إليه:

– أنه من صنع الهنود ياعبد الحميد وقد ماتوا وقضي أمرهم لكنهم قالوا لي مرة: ” يا يقظان إذا شعرت بالضيق يوما في بيتك فأجلس أمام الباب وبيدك قدح من الشاي فإن فعلت سترى من الضيوف ما يسر بصرك وهم ينتصبون أمامك وستشعر بالضجر وهو ينسلّ من قلبك كما ينسل الغبار من بساط قديم ويعود فكرك إلى مكانه .

كانت الشمس في تلك اللحظة قد غربت لتوها عندما توقف عبد الحميد أمام الباب والأزقة تبعث برائحة النفايات المغروسة على جانبيها , فأشاح ببصره عن واجهة الباب جزعا ثم التفت بكامل جسمه إلى زقاق علي جان الذي مازال خاويا إلا من امرأة كانت تجلس على عتبة بيت الحاجة صفية التي تقع على يمين الزقاق , متلفعة بعباءتها كأنها غمامة سوداء وسط سحب بيضاء , ثم التفت نحو زقاق عبد الصمد وهو يحدث الباب بصوت عال :

– هذه آخر مرة أخاطبك من وراء الباب هذا بقلب كامل, فقد كنت على حق يا حاج يقظان عندما قلت ” عسى نجمك يطابق نجمها “ولكن زعزعتني رياحها حتى أصبحت شيخا مسنّا لا أقدر على حمل حقائبي حتى الموت, وها أنا , كما ترى , أمشي في أزقتنا , أتذكرها ؟ ولكن لا يأبه بي أحد بعد أن ضاع شبابي مع أبنتك كما ضاع وجه بابك الصبوح وأمست نقوشه كأنها حلقت في الرياح معك , فغدوت لا أذكر منها شيء سوى وقفتي كهذه أمام الباب الذي غدا كرغيف محروق وقد القي في مقبرة تفوح منها رائحة العفن بعد أن كانت نقوشه كحديقة مكتظة بالزهور وزاهية بخيوط الشمس وكنت أود لو أمسك بيدها ,ولكن بأس ذاك اليوم الذي أنكر فيه العهد والميثاق !

أعاد عبد الحميد وضع نظارته وكأنه يئس من رثاء حاله وهو يتقدم بخطوات مضطربة إلى بيت عبد الصمد المختار إلا أنه تراجع مستديرا نحو الباب ليستدرك حديثه مع الحاج يقظان وهو ينظر إلى تلك المرأة التي بدت عليها إمارات الاهتمام وهي تحدق بنصف وجه إليه :

– ولكنك , يا حاج , لم تخبرني أن قلب ابنتك كان بنصاعة الورد الأبيض ورقّة النسيم رغم أنها أبطأت في إظهار شيطانها الذي اختزنته , أما أنا فقد كان قلبي يجرني إليها كما تجر اللبوة الفريسة إلى عرينها, وكنت لها مثل قلعة مغلقة احتفظ بكل طلاسمها السحرية التي ماانفكت تدسّها في وسادتي وأحيانا تحت فراشي , وكنت لا أستطيع أن امسك بقرنيها مثلما لم يستطع موسى المسك بقرني اليهود , وكنت أعالجها من دون أن تشفى من إمارات التدهور العقلي ولا من مكائدها التي فاقت الخيال , وأود لو أستطيع أن أمزق جماجم اللواتي وضعن شفاههن وشعرهن الأشيب فوق عظام إذنها الصماء بأسناني , إذ ما من أحد , يا حاج , لم يلق عليها كلماته القذرة.

صمت عبد الحميد بعد أن استفزه الباب فعاد إليه ليلتصق به , وبإحساس حزين رفع كعبا قدميه ووضع يده على مكان مطرقة الباب الكبيرة التي لم يبق منها سوى طبلة الطرق فراح يتلمسها بحذر وهو يقول :كنت قد أقررت عيني في ذلك اليوم فأين أنت وقلبي اليوم مستفزا؟ أتدرين كم أمضيت من عمري حتى جاء اليوم الذي طرقت بك باب الحاج أول مرة ؟ كنت آنذاك أود لو أضع زهور الأرض كلها فوق هذا النصب والحناء على ألواحه الصاج إكراما ل ” عهد ” ولكلمة ” نعم ” التي نطقت بها أمام الشيخ في عصر يوم الخطبة ! لكنني لم افعل ذلك لانشغالي بمحنها وكنت كمن يعيش في عالم يفتقد الصدق والمروءة وليس في عالم السعادة . ثم دنا من ثقب الباب وحشر شفتيه فيه وبدأ يصرخ :

– لقد انضممت إلى قدرك يا حاج يقظان فأثقلت راسي بسوء الحظ ومللت نفسي ومكاني, ثم رفع يديه نحو السماء وهي ترتعش وبدا يهمس :

– جرني يارب من محنتي فقد بلغني من الخجل ما لم يبلغه إنسان .فعاد يقرفص وهو ينوء من شدة الوقوف .

ثم وضع كفا يديه تحت فكيه وجمد بلا حراك أمام الباب وهو يراقب الزقاقين وقد بدأت نسائم الغروب المعتدلة البرودة تهبط لتنخفض حرارة الطريق وبدأت الخفافيش تنطلق من شقوق الجدران , وفي هذه الأثناء دنت منه المرأة الجالسة في زقاق علي جان لتقف أمامه وهي تدمدم مقتربة من عتبة الباب فخاطبته بنبرة تشوبها العاطفة :

– الم تسمع عما حدث في هذا البيت ؟

نظر عبد الحميد إلى المرأة الواقفة وقد غطت نصف وجهها بعباءتها السوداء الكالحة وهي تتماوج مع حركة الريح الرقيقة فسألها وهو يرتعد:

– ومن أنت لتقولين لي هذا ؟ ثم أردف يقول : وهل تقيمين في هذا الطريق ؟

– أنا من هنا .. وقد عرفت أن ابنتهم الوحيدة قد مزقتها كلاب الليل وألقت بها أمام الجامع , فهرع الجيران إليها ليجدوا وجهها وقد امتلاء نورا يضيء في ظلمة الطريق الخالي وهي تحدق إلى باب الجامع المغلق . ثم اعتقد بعض الغرباء أنها امرأة ثملة وقد جاء يوم سقوطها ثم شاعت عنها روايات عديدة, فمنهم من قال أن اللصوص جردوها من مجوهرات أصابعها ومنهم من المح أن زوجها كان يعاقر الخمر فتركها ونبذها لأنها تبعت أهوائها !

– منذ متى حدث ذلك وهل هي متزوجة ؟ سألها عبد الحميد وهو يطلق تأوهاته ويحدق في عباءتها التي تحجب نصف وجهها.

– بلى , فقد هبّ إليها زوجها في تلك الليلة من ليالي نيسان سنة 1981 وجلس يمعن النظر في عينيها المفتوحتين , ثم نهض وركض سريعا وهو يصرخ : لا يا ربي .. لا تجعلني بلا ظل فأنا لم أفعل بآل آدم شيئا حتى تمرّغ أسمي بالوحل, وتتركني بعيدا عن جلال وجهك. ثم أضاف : ” لقد رفعت قيمتي بين قومي فلم تخدش صفاء وجهي , أما هذا فميقات سيظل كالنقش في قلبي ويُنشأ فيه طوفان الألم والحسرة ” . توقفت المرأة من دون أن يتوقف عبد الحميد عن التحديق إلى عينها ثم قالت:

– العجيب أن كلماته كانت عارمة بالحب والفخر, فقد وجدت فيها الدقة المتناهية في التعبير عن فقدانها أمام الملأ , ولم تعجز قدرته في ذلك . ثم استدركت تقول: ” لعلك لم تسمع بهذا الحدث أيها المتأمل الغريب وقد جعل الرجل مكان سقوطها شاهدا يجيل البصر فيه كل يوم حتى مماته ؟! “

– كلا, ولكنك سعيت لإخباري ويبدو أنك اختلقت قصة تورق السرور قبل الفخر في قلبك والحزن في قلبي لأنها تتقاطع مع ما رأيت بعينيّ في ذلك اليوم , ولم أزل أرى تلك الحادثة وكأنه حلما تضج من دبيبه ذاكرتي ولا تضج له روحي لموت من أعلنت الحرب على عقارب فتوتي وسعادتي وقضت عليهما في غمضة عين . ثم أضاف: ويخيل إلي انك امرأة مضطربة تجرين وترفعين بأفعال امرأتك كيفما تشائين وتلبسين ذلك اليوم ثوب العزّ والكبرياء وقد التبس عليك الواقع بالخيال وضج رأسك بهمس شتى وامتلأ عقلك برؤى مضطربة وترهات , واعلمي أن البنت كانت غير مملوءة بالفخر والكبرياء ما جعلها تتنازل لتجعل دمها المسفوح قريبا من المجاري لتشمشم فوقه الجرذان في ذلك الليل , وجعلت يديها تلامس قذارة الدرب في مشهد الغي فيه الضجيج والفرجة !

– كفى تصوغ حكمك أنت عليها وليس حكم الله أيها المعتوه ! صرخت بوجهه المرأة وانحنت تبحث عن حجر لتقذفه بوجهه لكنها تراجعت لتقترب عند الباب. فرد عليها عبد الحميد وهو يتأمل نصف وجهها قائلا:

– وهل تجبريني , أيتها البائسة , على قول كلام سطحي لا يمثل رأي بها ؟!

– لا.. بل ينبغي أن تصوغ كلاما يرضي الله !

– وهل تعرفين الله وأنت تتباهين بخيالك وتجهلين انك تطيرين بجناحين من الوهم , فالمرأة التي تتكلمين عنها هي امرأة عجوز طيبة عاشت وحيدة في بيتونة لأحد الشناشيل القديمة وقد انتابتها نوبة عصبية فأيقظت في عقلها ذكرى زوجها الذي فقد أثناء الحرب فاعتصرت الآلام نفسها في تلك الليلة التامة الظلمة لتسقط منها إلى الشارع من دون أن يعلم بها أحد, وبعد ساعات تفسخت جثتها لتحظى بها كلاب الليل لتجرها نحو سلالم الجامع وهي سادرة في تمزيق لحمها ولعق دمها وسط الفوضى التي حلت بالمدينة بعد أن ضرب عنق القانون ليبلغ ضحايا البشر في تلك السنة الكثير من الذين اكتسحتهم أجنحة الضغائن والكره المطحون بدمامل الخيانة , أما العجوز فقد ساقها قدرها لتكون موديلا للمجاعة ما جعلها تؤول إلى بطون تلك الكلاب الضّالة .

تسمّرت المرأة في مكانها وهي تلقي بنظرات مختلسة إلى كلا الزقاقين وإلى عبد الحميد وهي تتنهد , ثم قالت : ” أنت كمن يأكل التفاح ويمنح الحنظل إلى غيره !

– ماذا تقصدين ؟ تسائل عبد الحميد .

– أقصد أنك تختار لنفسك ما تصدقه وتعطي المرأة ما يجذبها إلى الحضيض , أما أنا فحكايتي حقيقية , وما أتيت إلى هنا إلا لأنني لا أفهم معنى وقوفك أو جلوسك أمام باب صامت أو رؤية أصابعك وهي تتلمس مطارقه وأنت تتهندم بذاكرتك التي زحف إليها التآكل وأنت في ردحك الأخير من العمر ثم تغادر وحيدا وأنت تبكي , إلا أمرا مجهولا. ثم تراجعت المرأة خطوة الى الوراء لتضيف بنبرة صوت خالية من العطف هذه المرة : ” فأنا اقتربت منك لأنبهك لتهتم بما يتعلق في أمورك الشخصية وليس بباب هذا المنزل الذي اخذ الدهر بأهله بعد أن سوّيت حسابك معهم” . ثم أزاحت المرأة العباءة عن وجهها ورفعت خصلات شعرها الفضي أمامه فنهض عبد الحميد فجأة مذعورا وقد اضطربت يده وهو يشير بسبابته إليها قائلا: “عهد ؟! “

– نعم عهد ..إذن تعرّفت عليّ أخيرا . ثم تابعت تقول : ” يتعين أن تقف بعيدا عن هذا الباب وتلم شتات عقلك , فقد تركتنا منذ الحرب وكنت لا تتذكر شيئا فأوصى أبي الحاج عباس عليك وأعطاك دكانه لتعمل به بعد أن دفعتك الحرب إلى الجنون وقمت تنسج الحكايات تلو الحكايات عني وجعلت من هذا الباب ملاذا للهمس والإشارات العقيمة كأنك معتكف على قبر ثم تعود إلى بيت خالك عزيز المهجور لتمضي فيه ليالي عمرك من دون أن تعرف أن امرأتك ذات الجمال الفتان قد اشتد عليها الدهر فحرمها من الأم والأب والأخوان وأنت لا تجد غير توفر الفرصة في الوقوف أمام الباب لتسرد الحكايات الخيالية أمامه وأمام الحاج عباس ومازلت تفعل ذلك لأنهم لا يعرفونك حق المعرفة .

ثم انتابت المرأة نوبة من البكاء فتوقفت عن الكلام بضعة لحظات ثم عادت تقول: نعم لدي الكثير لأقوله لك ولكن لا فائدة ثم مدت يدها إلى الباب ودفعته بقوة وكأنها لم تعد تملك القوة على فتحه. ذهل عبد الحميد وهو يرى عهد تدخل البيت وتخطو نحو الرواق, ثم عادت لتغلق الباب لتتركه في عتمة الزقاق , فوضع يداه فوق رأسه ليخفف من اثر الصدمة عليه وقال في نفسه : ” أنا لا أفهم ما يجري , إذ لم يخبرني الحاج عباس بحكاية هذه المرأة الحبلى بالأحداث غير أنها رفعتني من الزبل في يوم ما فحسب” . ثم رمق مكان المطرقة الكبيرة وهز رأسه واخذ يجول ببصره حتى امسك بالمطرقة الصغيرة وغمغم: ” هيا فلتخرج من البيت لأراها ثانية “, ثم استجمع قواه وطرق الباب ثم تنحى جانبا ليستند على الحائط.

اقترب الليل من الساعة العاشرة وعبد الحميد لم يزل في سجال مع المرأة, ثم جاءه صوتها من خلف الباب: من أنت أيتها المرأة ؟

– بل أنا عبد الحميد ! ثم بكى وهو يغمغم: ” من يرثيني في موتي يا رب وأنا أقاربه كالجمل البطيء ؟! ثم جاءه صوت امرأة أخرى يصدح من وراء الباب: ” لانفتح لأحد في الظلام, فما نحن إلا نسوة لا نقدر على دفع الضيم عن احد وليس فوقنا إلا الله بعد أن فقدنا الأرحام !

هبطت على عبد الحميد أعداد من الخفافيش وهي تؤوب إلى الشق المحاذي لبيت الحاج يقظان , فأنعطف إلى يمين الباب ليحدق في ظلمة الشق وهو يقول : ” ظلامك يمتد طويلا , لكنك تضج بأنساب الخفافيش وقومي في ظلامي قد صمتوا ؟! . ثم بدأ ينقل قدميه بتؤدة مبتعدا عن الباب وهو يتمتم : ” ترى هل يعرف أبو خضير بهذه الحكاية ولم يخبرني بها ؟! لا أذكر أنه حدثني بها .

تنهد عبد الحميد من دون أن يعي ما يقول لنفسه: بلى أذكر أنه قال: ” نعم يا عبد الحميد لقد قلت لي ذلك مرات عديدة ولكن ما الفائدة من الكلام ؟ وأذكر أيضا أنني تساءلت :

– أتريد أن أجانب هذه الحكاية , يا عباس , وهي تلتف حولي مثل نبات متسلق , حتى أن مغامس الكواز لم يكف عن معاتبتي وعيناه تقتحم عيناي من دون حياء وبلا توقف كلما أزوره في دكانه وهو نفسه يعلم أن مريود الحمال حاول مضاجعة أخته همّالة بالحرام عند سكة القطار وأمام كلب ظل ينبح عليهما وأذناه منتصبتان حتى كادت فكاه أن يسقطا فوق الأرض لشدة القبح الذي قاما به , ثم ملأ لباسها بالبول وجسمه متخشب في وحل المقبرة وهو يخرج معها وسط سباب وشتائم الصبية وهم يقذفون الحجارة فوق رأسيهما .

عاد عبد الحميد فحرك قدميه تاركا الشق ثم استجمع قواه واستدار نحو اليسار محدثا نفسه : ” أما عهد فلم تفعل مثل همّالة فالحيّز الذي احتلته همّالة لدى أهلها والجيران قد أصبح حكايتهم الأزلية ” .تأوه عبد الحميد كأنه يريد ترك الماضي بكل مواقفه السلبية , فهو وإن يتفكك في ذاكرته ولكن سرعان ما يؤجل الخوض فيه وكأنه لا يصلح لشيء . اجتاز منتصف الزقاق الضيق وقبل أن يصل إلى بيت عبد الصمد المختار وقف لحظة في مكانه , إذ في مثل هذه الساعة يدلهم الليل في الزقاق تماما ليصبح مع الأزقة الأخرى كالمتاهة فتتعطل لديه الفردية المأساوية وكأنه يضع كل ما في الكون على طاولة الشطب والتأجيل .

ثم واصل سيره إلى نهاية الزقاق وهناك أنبسط الطريق ليرفع رأسه مخاطبا السماء: ” ترى لماذا ياربي حيثما يجتمع النحل يجتمع الذباب ؟! فأنا في الخامسة والستين وغدوت مثل شجرة كالبتوس عارية لا يسمع صوتي أحد ؟! لكنني كشفت الغطاء للحاج بينما السنة الثرثارين مازالت تتقيا كلاما كنقيع العلقم وطبولها لا توقظ في نفسي غير الألم والحسرة !”.

وقبل أن تغزوا تباشير الصباح ليل الأزقة, وصل عبد الحميد إلى بيت خاله عزيز, واخرج مفتاحا من جيبه ليضعه في ثقب الباب ودفعه بقوة جسد منهار وأنفاس متقطعة وأصابع متخشبة وهو يمسح عرق جبهته بين الفينة والأخرى.

أحدث المقالات

أحدث المقالات