18 ديسمبر، 2024 8:53 م

الايمان العجائزي والتدين الجنائزي

الايمان العجائزي والتدين الجنائزي

لا أعرف ما هي القيمة المعرفية والروحية والفكرية والدينية الايجابية التي تحققها مقولة ( اللهم ايمان كإيمان العجائز)، ولا أعرف ايضاً ما مدى مصداق نسبتها الى الخليفة عمر بن الخطاب أو الى غيره من الصحابة والعلماء والأولياء الصالحين، أتعني المقولة حسن التوكل على الله تعالى وحسن الظن والاعتقاد به سبحانه، أم تعني الاعتماد على الفطرة السليمة في معرفة الامور دون التعمق في مسائل وأمور فلسفية وعلمية وفكرية ووجودية تعمق الفكر وتلقي به في متاهات الأسئلة ودهشتها وباطنها، أم تعني الانقياد وراء صوت القلب ونور الروح ولذة العواطف، بدلاً عن صوت العقل وتعب الفكر وأدلة الفلاسفة في البحث العميق عن الله تعالى وأدلة وجوده والعالم والانسان ؟ أم ان هذه المقولة تجعل الكثيرين منا متقاعسين ومتواكلين وعاجزين عن التدبر والنظر والتفكر، والسير وراء أهواء ورغبات النفس والآخرين، ممن يريدون تزييف أفكارنا وتشويه صورة الحقيقة ولاعتماد على ما يراه هو ويغذينا به، دون الدعوة للتفكير وطرح الاسئلة؟ التفكير الذي أمر الله تعالى به الانسان وحث عليه في القرآن الكريم، وما آيات (أفلم يتدبروا، أفلا ينظروا، أفلم يتفكروا، أفلا يعقلون…الخ) الا دليل واضح على تلك الدعوة الكبيرة للتفكر في الكثير من الأمور الدنيوية والاخروية، في عالم الغيب والشهادة، وترك مسألة التقليد الأعمى الذي سار عليه الناس، في تقليد آبائهم وأجدادهم. وعلى هذا الأساس سار عليه النبي الأكرم محمد (ص) والائمة والصحابة في بناء حياتهم وفكرهم، وكما قال (ص) في أحاديث كثيرة مضمونها (ان التفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة)، فلماذا اذن كل هذا الاصرار من قبل الكثيرين على البقاء (الاعمى) في متاهات الجهل والتزمت والانغلاق على الذات والتسليم المطلق لإرادات الآخرين في تحريف وتزييف الفكر والحياة، تحت ذريعة (حطها براس عالم وأطلع منها سالم)، ليغنيك هذا العالم عن كل الاسئلة وأجاباتها ويعطيك الجواب المناسب وتحقيق راحتك من عناء الاسئلة والتفكير، أنه منطق الجهل والاستكانة والتواكل، بدلاً عن منطق التساؤل والتفكير الذي رسمه الله تعالى للناس أجمعين.
والعجيب الغريب، والغريب العجيب، أن هذا المنطق الايماني (العجائزي) الذي يسير عليه الكثير من الناس قد أسس لنوع من التدين في مجتمعاتنا سائد ومنتشر بكثرة بيننا هو نمط التدين (الجنائزي)، هذا التدين الأعمى المتزمت الذي لا يعرف منطق التساؤل والتفكير، التدين السلبي الذي هو يقلد الآخرين كالببغاء في ممارسة تدينه وبناء معتقده وتفكيره، دون اعمال العقل والتفكير في ذلك التدين، كما أمر به الله تعالى في كتابه الكريم، الدعوة للـ(تدين الايجابي) الذي يحتاج الى بذل المجهود في تحصيله استناداً على العلم والمعرفة والقراءة والتثقيف، ولكن مما يؤسف له أن هذا النوع من التدين أسس لـ (تدين النخبة) من أهل العلم والفكر والحكمة، ومما يؤسف له أيضاً أن البعض من هؤلاء لا ينير الطريق للآخرين وانما يجعلهم عبيد له يسيرون خلف فكره وحكمته، كما هو الحال مع الشيخ والمريد، والمعلم وتلاميذه، والفقيه وطلّابه، وقد يصل الأمر بالبعض الى التزمت بل والدعوة للألوهية كما في حال فرعون حين قال : (أنا ربكم الأعلى) و (ما أريكم الا ما أرى)، معتقداً في نفسه انه المسيطر على أمور الناس ودينهم ودنياهم، حين جمع في يديه السلطتين (الدينية والسياسية)، وعندها أرتفع به منسوب الطغيان والتكبر والتجبر مدعياً انه الاله وأنه واهب كل شيء، وعلى الناس أن يسيروا خلف دعوته وفكره ومعتقده، وتحول الانسان، المخلوق، الفاني، النسبي، الى صورة الاله المطلق الذي ليس كمثله شيء، الاله (البشري) الذي حول الناس جميعاً الى عبيد خاضعين لأرادته ورغبته وشهواته، وفق ايمان عجائزي أعمى ودين كهنوتي جنائزي متسلط، هذا التدين الذي حاربه أبو التدين (العقلاني) نبي الله أبراهيم الخليل (ع) حين حطم جميع أصنام (قبيلته) وقومه وجماعته، ليرشد الناس لعبادة النور والحياة والجمال، بدلاً من السير وراء سراب خادع كاذب، يا لها من لقطة فنية مثيرة حين جعل (الفأس) في يد أو رأس كبيرهم (الاصنام)، عالماً بجواب قومه حين سألهم (أسألوه) فهو من حطم أصنامكم وآلهتكم، ولكنهم أدركوا جهلهم وغيهم وتعصبهم وأنقيادهم الاعمى وراء قادتهم وكبرائهم من أئمة الجور والضلال، لقد أراد الخليل (ع) تحطيم ذلك النسق الاعمى من الايمان والعبادة والتدين، وامعان العقل في التفكير والتدين، للوصول الى الحقيقة بجهد جهيد وليس باتباع وتقليد، وعلى هذا الاساس سار جمع من الأنبياء (ع) لتحطيم الالهة المزيفة والتدين السلبي والايمان العجائزي، ودعوة الناس للنظر العقلي والتفكر في كل شيء، كي لا يقعوا في العمى والزيغ والضلال.
ما نعيشه اليوم في مجتمعاتنا هو انتشار كبير للتدين السلبي، وعودة (صحوية) جديدة نحو الأصول والسلف، مما حقق نزعة (أصولية وسلفية) قوية بين الناس والمجتمعات، وكل يدعو لما يعتقد ويتأدلج به من أفكار ومعتقدات، دون امعان واعمال العقل والتفكير، مما ولدّ وأنتج خطاباً دينياً متطرفاً، قاد الى العنف والارهاب والكراهية داخل مجتمعاتنا، وكل (يغني على ليلاه)، ويسهر ليله ونهاره حاملاً أسلحته للدفاع عن مقدساته، فهو حارس بوابة السماء، والناطق الرسمي باسم قبيلته وقومه ومعتقده، بما أوتي من سلاح ومنطق وحجج جهادية وجدلية دامغة، تواجه الآخر بأنه (الحق) وغيره (الباطل)، فإما أن تعتقد وتؤمن بما أعتقد به، واما أن يُفصل رأسك عن جسدك، وترسل روحك الى حيث ترسل مع السابقين واللاحقين، وعندها لا تنفع شفاعة الشافعين ولا رحمة السائلين، ففتوى (الفقيه الأمير، والأمير الفقيه) حكم مطلق يجب تنفيذه بحق كل من يخالف حقيقة الدين، (دين الفقيه) لا دين الله الذي دخله الناس أفواجاً، والناس اليوم كلها جنود مجندة للدفاع عن دينها ومذهبها وطائفتها ومعتقدها بالغالي والنفيس لأنها تعتقد انها مع الحق، ومن المنطقي على الجميع أن يقف مع الحق، ولا نعرف أي حق يجب أن يتبع؟ ما دام الناس تعبد الهة متعددة (بشرية وسماوية)، الهة قومية وقبلية وحزبية ومناطقية وعشائرية، دينية وسياسية، كلها تدعو للحق وتّدعيه، ولكن الناس حاروا في أمرهم، وتحيروا في أمر دينهم ودنياهم، لأن رجال الدين والسياسة والعشيرة كلهم يقول (الحق معي)، وعليه يجب الوقوف معي للدفاع عن القضية، وتحقيق النصر المؤزر، والفتح الأعظم، الذي بُني على الدم والجماجم.
ان ما نعيشه اليوم من عمى وجهل ديني وتخلف روحي جعل الكثيرين منا في زمن (الجهل المقدس) زمن دين بلا ثقافة، كما أسماه أوليفيه روا في كتابه الذي يحمل هذا العنوان، نحن ندافع عن أيديولوجياتنا ومعتقداتنا ومكاسبنا الشخصية والحزبية والقومية، معتقدين اننا ندافع عن الشريعة والسماء والدين الذي ننتسب له، لقد رحل ومات (الدين السماوي) النبوي، الاصلاحي التغييري، النهضوي، (بلغة علي الوردي)، ليحل محله (التدين الكهاني)، القومي، الحزبي، المصلحي، الوعظي، الذي هرب الناس منه أفواجاً، هذا التدين الذي أسس لأيديولوجيا السلطة والحاكم والملك المتجبر الطاغية المتكبر، الذي جاء التدين النبوي للقضاء عليه ومحاربته، ولكنه للأسف لم ينتصر، وأنتصر تدين الالهة المزيفة (التدين الجنائزي) الذي بني على أساس ايمان العجائز، وعدم طرح الاسئلة والتفكير ومواجهة الآخرين.
اذن نحن أسرى لنمط من التدين، مرهون بنمط من الايمان التقليدي، الذي يخدم الجهات التي تدعو له وتدين به، وبالتالي ليس ديننا وفقهنا ومذهبنا مرهون بهذا التفكير، بل جميع منظوماتنا الفكرية والمعرفية والحياتية والثقافية مرهونة وفق هذا النمط من التدين والتفكير، بل حتى صورة الاله الخالق والمدبر لهذا العالم قد خُلقت صورته وفق هذا المعتقد ونمط التدين الذي ندين به، فهناك من جعل صورة الله شبيهة بصورة البشر (خلق الله آدم على صورته)، وهناك من جعل البشر على صورة الله (عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون)، ووفق تلك الافكار والمعتقدات نشأت فرقاً ومذاهب كثيرة، وفقاً لقياس (الشاهد على الغائب)، وقياس (الغائب على الشاهد)، وتم تأسيس فقه لكل جماعة ومذهب يختلف عن الآخر، وتحول (دين الله) الى بضاعة وتجارة لن تبور، لكثير من أصحاب الفرق والعقائد والملل والنحل، هذه التجارة التي روجت لأفكار (الفرقة الناجية) وكتب (الانتصار)، التي لا تؤمن بالاختلاف والتنوع ولا تدين به، وانما تؤمن بمنطق (الأنا) وتحقيق الوصاية المطلقة على الآخرين، ولا وجود لمناطق حرة ومعتدلة بين (الأنا) و(الآخر)، وبين منطقة ومنطقة، فأنت اما معي واما ضدي، وغابت المناطق المحايدة والمختلفة تماماً عن نمط تفكيرنا وحياتنا وتديننا، لأننا حُقنّا من قبل جماعتنا بنمط من التفكير يعادي كل مختلف عنا، ولا نؤمن الا بما تم وضعه سلفاً في ذاكرة موروثاتنا وتاريخنا وأيديولوجيا جماعتنا التي ننتمي لها، وهذا ما يقودنا الى مزيد من العنف والتطرف والكراهية فيما بيننا، لأننا لا نسير على هدى عقل ومعرفة، وانما نسير على هدى الجهل المقدس الذي يقتل بعضنا بعضاً وفق نزعة شرانية تدميرية هائلة لا تعرف الرحمة والغفران أبداً.