18 ديسمبر، 2024 7:16 م

الايديولوجيا تُسهم في تزوير معظم التراث وتزييفه

الايديولوجيا تُسهم في تزوير معظم التراث وتزييفه

كيف يمكن ان نطمئن لتراث يحتوي على مغالطات وتناقضات يرفضها العقل وتلفظها مناهج البحث العلمي الرصين؟ وكيف يمكن قبول ذلك الحجم الهائل من التزوير والتزييف الذي لم يستثن فرعا من فروع المعرفة فضلا عن علوم القران والحديث؟ ان معظم نصوص التراث التي وصلت الينا بحاجة الى اعادة قراءة لكشف الزيف والتشويه اللذين وقعا فيها . فحجم التزييف اصبح متراكما بعدما قطع شوطا عبر اجيال وانظمة سياسية ومؤسسات دينية مدعومة من السلطة. ولا أظن ان هناك وجود نية صادقة لدى اصحاب القرار العربي في تشكيل مؤسسات علمية بحثية يمكن ان تعيد قراءة التراث لتخليصه من التشويه الايديولوجي الذي تراكم عبر الاجيال. كذلك سيكون الامر صعبا على الافراد من الباحثين لكي يقوموا بتحقيق تلك المهمة ، بيد ان ذلك لا يمنع من الكتابة للتنويه والتنبيه على مواطن الخلل ربما يلتفت الدارسون والباحثون لاحقا الى ذلك.

ولكي تكون الرؤية واضحة نأخذ مثالا لكشف التزييف في نصوص قالها كتاب ومؤرخون وشعراء وادباء حيث يكاد لا يخلو كتاب او مؤلف قديم من وجود امثلة على التشويه والتحريف لدوافع ايديولوجية. ولنضرب مثلا – وما اكثر الامثال لمن يبحث عنها في كنز من التراث الذي يتطلب اجيالا لفحصه وتنقيته – على كيفية تشويه النصوص وتحريفها ابيات قالها الخليل بن احمد الفراهيدي تذكرها مختلف المصادر دون الاشارة الى المناسبة التي قيلت فيها. النص الاول مقتبس من كتاب طبقات النحويين للزبيدي والثاني من أحد كتب ابن عبد البر، اما الثالث فهو نص مقتبس من ديوانه المحقق والمنشور في عام 1973.

النص الاول :

لا يَكُونُ السَّرِيُّ مِثْلَ الدَّنِيِّ ——–لَا وَلَا ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ الْغَبِيِّ

قيمَةُ الْمَرْءِ كُلُّ مَا يُحْسِنُ الْمَرْ——-ءُ قَضَاءً مِنَ الْإِمَامِ عَلَيَّ

لَا يَكُونُ الْأَلَدُّ ذُو الْمَقُولِ الْمُر——-ْهَفِ عِنْدَ الْحِجَاجِ مِثْلَ الْعَيِيِّ

أَيُّ شَيْءٍ مِنَ اللِّبَاسِ عَلَى ذِي السِّر——روَ أَبْهَى مِنَ اللِّسَانِ الْبَهِيِّ

يَنْظُمُ الْحُجَّةَ الشَّتِيتَةَ فِي السِّلْ ——- كِ مِنَ الْقَوْلِ مِثْلَ عِقْدِ الْهَدِيِّ

وَتَرَى اللَّحْنَ بِالْحَسِيبِ أَخِي الْهَي —– ْئَةِ مِثْلَ الصَّدَى عَلَى الْمَشْرَفِيِّ

فَاطْلُبِ النَّحْوَ لِلْحَدِيثِ وَلِلشِّعْ ———- رِ مُقِيمًا وَالْمُسْنَدِ الْمَرْوِيِّ

وَارْفُضِ الْقَوْلَ عَنْ طَغَامٍ جَفَوْا —– عنه فعادوه نصبةً لِلنَّبِيِّ

النص الثاني:

لَا يَكُونُ السَّرِيُّ مِثْلَ الدَّنِيِّ ——- لَا وَلَا ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ الْغَبِيِّ

لَا يَكُونُ الْأَلَدُّ ذُو الْمَقُولِ الْمُرْ——هَفِ عِنْدَ الْحِجَاجِ مِثْلَ الْعَيِيِّ

قيمَةُ الْمَرْءِ كُلُّ مَا يُحْسِنُ الْمَر——–ْءُ قَضَاءً مِنَ الْإِمَامِ عَلَيَّ

أَيُّ شَيْءٍ مِنَ اللِّبَاسِ عَلَى ذِي السّ —–ِ رِّو َأَبْهَى مِنَ اللِّسَانِ الْبَهِيِّ

يَنْظُمُ الْحُجَّةَ الشَّتِيتَةَ فِي السِّلْ ——- كِ مِنَ الْقَوْلِ مِثْلَ عِقْدِ الْهَدِيِّ

وَتَرَى اللَّحْنَ بِالْحَسِيبِ أَخِي الْهَيْ— ئَةِ مِثْلَ الصَّدَى عَلَى الْمَشْرَفِيِّ

فَاطْلُبِ النَّحْوَ لِلْحَدِيثِ وَلِلشّ ———–ِعْرِ مُقِيمًا وَالْمُسْنَدِ الْمَرْوِيِّ

وَارْفُضِ الْقَوْلَ عَنْ طَغَامٍ جَفَوْا ——- عَنْهُ وَعَابُوهُ بُغضَةً لِلنَّبِيِّ

النص الثالث:

لا يكون السري مثل الدني *** لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي

لا يكون الألد ذو المقول المر *** هف عند القياس مثل العيي

أي شيء من اللباس على ذي السـ *** ـرو أبهى من اللسان البهي

ينظم الحجة السنية في السلـ *** ك مقيما والمسند المروي

وترى اللحن بالحسيب أخي الهيـ *** ـئة مثل الصدا على المشرفي

فاطلب النحو للحجاج وللشعـ *** ـر مقيما والمسند المروي

والخطاب البليغ عند جواب الـ *** ـقول تزهى بمثله في الندي

وارفض القول من طغام جفـــوا *** عنـه فقادوا بعضه للنسي

قيمة المرء كل ما يحسن المر *** ء قضاء من الإمام علي

ان القراءة الاولية للنصوص تكشف وجود اختلاف في الروايات فيما يتعلق بمكان بيت واحد بين الابيات الاخرى وهو: (قيمة المرء كل ما يحسن المر………..ء قضاء من الإمام علي) ، فضلا عن الاختلاف في رواية الشطر الثاني من البيت الذي يقول : (وَارْفُضِ الْقَوْلَ عَنْ طَغَامٍ جَفَوْا —– عنه فعادوه نصبةً لِلنَّبِيِّ ). وهذا الاختلاف يعطي القارئ انطباعا اوليا ان هناك تلاعبا في ترتيب الابيات الاخرى تقديما وتاخيرا لتعمية النص كاملا. النص الاول والثاني متطابقان من حيث المعنى على الرغم من الاختلاف في رواية المفردات التي وردت في شطر البيت في النص الاول والقائل : (عنه فعادوه نصبةً لِلنَّبِيِّ) مع شطر البيت نفسه برواية : (عَنْهُ وَعَابُوهُ بُغضَةً لِلنَّبِيِّ). وكما هو واضح فمعنى الشطر يفضي الى ان هناك شخصا قد عابه قوم بغضا للنبي. وفي هذه الحالة يستطيع القارئ ان يربط بسهولة بين ذكراسم الامام علي (ع) في البيت الذي اختلف موقعه في الروايات الثلاث والشخص الذي عابه القوم. أما النص الثالث فقد عمد الراوي الى التعمية اكثر حين غير المفردات معنى ومبنى. فضاعت قليلا على القارئ فرصة الربط بين اسم الامام (ع) ومعنى هذا البيت. وبسبب ان الراوي لا يستطيع ان يشوه ويحرف مجمل الابيات بالفاظها ومعانيها فقد ترك ثغرة في هذا الشطر يمكن الدخول منها لتفكيك وكشف موطن التزوير عندما ابقى شبه الجملة (عنه) على حالها. وهنا يطرح السؤال الاتي: على من يعود الضمير في شبه الجملة (عنه) ؟ وبالرجوع الى النص الاول نستطيع بسهولة اكتشاف ان الضمير يعود على اسم الامام علي (ع) ليكون نثر البيت : وارفض قول الطغام الذين جافوا عليا بغضا / نصبا للنبي. وباعادة النظر في ترتيب الابيات وتفحص دلالاتها واسلوبها يتضح ان هذه الابيات قيلت للمقارنة بين شخصين ، احدهما الامام علي (ع) ، وهو ما لم يذكره الرواة جميعا. البيتان ادناه يمكن ان يكونا دليلا على معنى المقارنة:

لا يَكُونُ السَّرِيُّ مِثْلَ الدَّنِيِّ ——–لَا وَلَا ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ الْغَبِيِّ

لَا يَكُونُ الْأَلَدُّ ذُو الْمَقُولِ الْمُر——-ْهَفِ عِنْدَ الْحِجَاجِ مِثْلَ الْعَيِيِّ

وكما هو واضح فان الغرض من نظم الابيات هو المقارنة بين صفات لشخصين: (سري واخر دنيء ، ذكي وغبي ، مفوه وعيي). وكذلك يمكن توجيه رواية الابيات الاخرى على انها مقارنة بين اثنين. وما البيت الذي يرد فيه ذكر( النحو) الا اشارة اضافية للدلالة على الامام علي (ع) الذي تنص معظم الروايات على انه هو الذي اوصى ابا الاسود الدؤلي بوضع الاسس الاولى للنحوالعربي.

ربما يعترض احد القراء الكرام ويقول : لقد حملَت النصوص تأويلا يفوق القصد الذي نظمت لاجله ، وان كل ذلك التغيير والتبديل لا يعدو سوى روايات مختلفة وقعت بسبب طريقة الاملاء المتبعة في تلقي الدروس انذاك وعندها يكون الامر طبيعيا لوقوع الاختلاف فيسقط الدافع الايديولوجي.

وأقول نعم: يمكن ان يكون ذلك صحيحا ولكن عند مراجعة الديوان الذي حققه الاستاذان حاتم الضامن وضياء الدين الحيدري في عام 1973، سيُضاف الى ما ذكراعلاه دليلان. الاول: اكتشاف مغالطة كبيرة بخصوص تلك الابيات قد وقع فيها المحققان ايضا عند تخريجهما الابيات نفسها. فقد ذكرا ان الابيات موجودة في طبقات النحويين للزبيدي في الصفحة (46). وعند مراجعة طبقات الزبيدي المحققة اتضح ان الرواية التي نقلها المحققان غير صحيحة. فرواية الزبيدي هي النص الاول اعلاه بينما يمثل النص الثالث اعلاه الرواية الموجودة في الديوان. أما الدليل الثاني فهو: وجود ابيات اخرى في الامام علي (ع) يمكن ان تعزز الرأي الذي يعزو سبب التحريف الى الدافع الايديولوجي قالها الفراهيدي في الديوان نفسه تحت الرقم (2). الابيات تقول:

الله ربي والنبي محمـــد ……….حييا الرسالة بين الأسبـــاب

ثم الوصي وصي أحمد بعده…… كهف العلوم بحكمة وصواب

فاق النظير ولا نظير لقدره ……وعلا عن الخلان والأصحاب

بمناقب ومآثر ما مثلهــــا ………فــــــي العالمين لعــابد تواب

وبنوه أبناء النبي المرتضى …… أكرم بهم من شيخة وشباب

ولفاطم صلى عليهم ربنا ……. لقديم أحمد ذي النـــهى الأواب

وهذا يعني ان الفراهيدي قد نظم اكثر من نص مصرحا ببعض معتقداته وارائه في الرسول (ص ) و اهل بيته (ع). وبما ان الديوان المطبوع لم يكن برواية احد الثقاة القدماء وانما جمع جمعا من الكتب الاخرى فان احتمالية التزييف والتحريف بدافع ايديولوجي مرجحة جدا.