تتحدد السياسة الخارجية للدول عموما بسلسلة من المتغيرات الرئيسية الداخلية والخارجية والتي تسهل او تعرقل القدرة على اتخاذ القرارات وتحقيق الاهداف التكتيكية والاستراتيجية لتلك السياسة. هناك عنصر حاسم يشكل شرطا لاتخاذ القرارات الدولية لدولة ما ويكمن في المصلحة او المصالح القومية ، والتي تتحدد بدورها بعوامل تاريخية اوجغرافية اواقتصادية اوايديولوجية اوسياسية اواخلاقية او فلسفية. الطبيعة الاجتماعية وايديولوجية السلطة السياسية والمرحلة التاريخية تحدد الى درجة كبيرة، جوهر هذه المصالح ناهيك عن تغيرها الايجابي او السلبي. في النظام الطبقي او الطائفي، عادة ما تتم مماثلة المصلحة القومية مع مصلحة الزعيم او الطبقة الاجتماعية او الطائفة الدينية بالتوالي على حساب الشعب او الامة. خلال حقبة عالم القطبية الثنائية كانت تسود في الصراعات الدولية، العوامل القومية والحدودية والاقتصادية …. اما في عالم القطبية الاحادية ، فقد سادت العوامل العرقية والايديولوجية والمذهبية والطائفية والدينية…. الخريطة السياسية لعالم اليوم تشهد على ذلك. العولمة الليبرالية الجديدة بصفتها طورا راهنا للراسمالية الاحتكارية، سهلت للسياسة الخارجية الامريكية، خلال عهدي جورج بوش الاب و الابن في رئاسة امريكا، فرصة تفكيك البلدان المحيطة بالنظام الراسمالي، وتدمير دولها القومية ماديا او من خلال سلب سيادتها من اجل ضمان تفوق امريكا لاطول فترة زمنية ممكنة وتكثيف الاستغلال الاقتصادي ـ الاجتماعي لتلك البلدان، سعيا وراء الحد الاقصى من معدل ربح راس المال الامريكي الكبير.الهوية التي شكلت نماذج التماسك والتفكك و الصراع في المنظومة الدولية بعد الحرب الباردة التي خرجت بها أمريكا هي انها منهكة، فبدأت مهتمة أكثر وبشكل متزايد بمشاكلها الداخلية(التفكك الداخلي، المخدرات، الجريمة) وبدأ وهم الاعتقاد بأن النموذج الأمريكي هو الشكل النهائي للمجتمع الإنساني في تصدع؛ خصوصا بعد تنامي ظاهرة العنف بين الجماعات والدول من أقطاب و حضارات مختلفة ،مع قابلية التصعيد حينما تتدخل الدول. وتمثل الحضارة الإسلامية في هذه المنظومة أكبر تهديد للمصالح الأمريكية،إلى درجة أن أغلب المحافظين النافدين في مراكز القرار الأمريكية مقتنعين بأن الخطر الإسلامي والمد الأصولي العالمي قد حل محل الخطر الشيوعي ، فمن الواضح الآن أننا نواجه شكل وحركة تتجاوز القضايا والسياسات والحكومات التي تكرسها؛ هذا ليس إلا صداما بين الحضارات. فمنذ حرب الخليج عام 1991 واستبدال الإتحاد السوفياتي بالدول المارقة تحركت أمريكا لمنع بروز أي منافس كبير في المستقبل، إنها إشارة جديدة لعقيدة الحرب الوقائية التي وجد فيها اليمين الراديكالي والقومي والمحافظ الجديد نفسه؛ ببسط نفوذه عن طريق الحرب؛يكون فيها الشعب الأمريكي مستعدا لخوض غمارها ، ولم يكن ذلك ممكنا إلا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 الاجرامية. فهجوم الطائرات على نيويورك وواشنطن قد قاد إلى إعادة التفكير في الأفكار التي تأسست عليها العلاقات الدولية،فأمريكا ومعها العالم التي فوجئت بأن أمنها قد اخترق،وصحت على حقيقة كانت غائبة عنها،وهي أن الإرهاب له يد طويلة يمكن أن تصل إلى قلب الولايات المتحدة الأمريكية، وبذلك رأينا كيف ان البلد الذي يروج لتفوقه العسكري والاقتصادي والتكنولوجي؛ يجيش الجيوش ويتحرك في اتجاه عدو يطلق عليه الإرهاب ؛يريد أن يجتثه من جذوره حيث كان وحيث وجد. تحاول السياسة الامريكية الحالية تحقيق ما عجزت الادارات التي سبقتها عن تحقيقه خلال العقدين الماضيين. ولكن هذه السياسة تواجه فشلا محققا. رفضت شعوب العالم وترفض الاستهتار الامريكي بالشأن الدولي المشترك. ابتداء من مسائل البيئة والتجارة الي انماط التسلح غير الانساني والاتفاقات الحقوقية الاممية. وقد شهد العالم، بالرغم من التعاطف الانساني واسع النطاق مع الشعب الامريكي بعد احداث ايلول (سبتمبر) 2001، اشد التظاهرات المعادية للسياسة الامريكية، تظاهرات ضمت مئات الالوف من الناس العاديين وقادة الرأي العام في مختلف العواصم الاوروبية والعديد من المدن الامريكية. حركة التظاهر هذه مستمرة وترتفع وتيرتها بلا شك كلما ازداد النزوع الامريكي نحو استخدام ادوات الحرب والدمار. وليس هناك من شك بأن دولا عدة، لا سيما الدول الاوروبية الرئيسة اضافة الي الصين وروسيا، ستقاوم المسعى الامريكي للسيطرة علي منابع النفط والتحكم في سوقه. تعرف قوى العالم المختلفة انه مهما بلغ التقدم في ايجاد بدائل للطاقة فان النفط لازال مصدر الطاقة الانسب، وان السيطرة الامريكية علي منابع النفط العربية تستهدف السيطرة علي الاقتصاد العالمي والتحكم في وتيرته وابطاء قوى المنافسة الاقتصادية المتسارعة للولايات المتحدة في اوروبا والصين. وينبغي هنا النظر الى العراق ليس باعتبار معدلات انتاجه النفطي الحالي بل من منظور التوقعات المتصاعدة لاحتياطه ولعمر انتاجه النفطي الذي يتوقع له ان يتجاوز عمر الانتاج لكثير من الدول مثل المملكة العربية السعودية . شهدت الأشهر الماضية تصاعدا للخلافات بين الرئاسة و الكونجرس بعد تحقيق الجمهوريين الأغلبية فى الكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب فى نوفمبر 1994 وذلك فيما يتعلق بالميزانية والسياسة الخارجية ,ففيما يتعلق بالسياسة الخارجية: سعى الجمهوريون إلى تقليص سلطات الرئيس فيما يتعلق بإصدار قرار الحرب ومدة بقاء القوات الأمريكية بالخارج وفى مشروع القانون الذى أعدوه بشأن الميزانية طالبوا بتخفيض مخصصات المساعدات الخارجية ويعتبر هذا الجانب هو أهم الجوانب التى يؤثر بها الكونجرس على السياسة الخارجية كما طالبوا بضرورة تقليص المشاركة الأمريكية من قوات حفظ السلام الدولية وانتقدوا إدارة هيلري كلينتون لإعطائها الأولوية للشئون الخارجية ويفسر الجمهوريون موقفهم بشأن السياسة الخارجية، فيؤكدون أن التحديات الرئيسية أمام المحافظة على الدور الأمريكى المهم فى العالم، هى أن نعيد تنظيم البيت من الداخل وإذا لم نبدأ بتنفيذ استراتيجيتنا لإعادة قوة أمريكا الداخلية فلن يكون بمقدورنا أن نفعل شيئا لكى تكون لنا قيادة العالم ويؤكدون أننا لسنا دعاة انعزالية كما يقال، بل نحن نؤيد اتخاذ سياسة خارجية قوية، ولكن بشرط أن تراعى المصالح الحيوية الأمريكية، والواقع العملى فى العالم ـ وتدل مواقف الجمهوريين تلك أنهم لا يختلفون مع الإدارة الأمريكية بخصوص ضرورة الدور الدولى والزعامة وإنما الخلاف ينحصر فى جانب ترتيب الأولويات فمباشرة الولايات المتحدة للدور القيادى العالمى يأتى عقب تدعيم عناصر القوة الأمريكية بالداخل كهدف له الأولوية وقد وجه الرئيس باراك اوباما انتقادات عديدة لموقف الجمهوريين وهو يرى أن إدارة سياسة خارجية ناجحة هى أهم أدوات تحقيق المصالح الاقتصادية فى الخارج وقد أشار البعض إلى ربط الولايات المتحدة بشبكة من التكتلات الاقتصادية الدولية (النافتا ـ الباسيفيك ـ الجات ـ تكتل دول أمريكا) وأن تكون للولايات المتحدة الزعامة فى كل تكتل على حدة أما وزير الخارجية الأمريكى السابق وارين كريستوفر فقد انتقد سعى الجمهوريين نحو تقليص ميزانية المساعدات الخارجية مؤكدا ـ نحن لا نستطيع دعم سياستنا الخارجية بالاعتماد على تقليص الانفاق ، ولا نستطيع حماية مصالحنا كأقوى دولة فى العالم ـ وقال فى موضع آخر ولن نستطيع عزل بلادنا عن العالم، وإلا كنا كمن يعزل عائلته عن جيرانها، فتراجع الولايات المتحدة عن مسئولياتها ليس خيارا مسئولا .
ان الترابط الوثيق بين النظم الاستراتيجية الأمريكية، وحقيقة وجود منحى تطوري ضمن هذه النظم بمعنى أن نزعات محددة مثل التدخل العسكري يمكن بسهولة رصد تطورها من الأدنى نحو الأعلى وبالتالي رسم خط بياني لها يسمح بتوقع إحداثياتها (موقعها) في السياسة الأمريكية لفترة قادمة دون خطأ كبير. ويترافق هذا التطور بصورة لافتة للنظر مع العولمة. وقد تم وضع الأساس الفلسفي الذي يربط بين العولمة والاستراتيجية الأمريكية العليا في عام 1993 وفقا لورقة ليك الذائعة الصيت والمقدمة في معهد جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة حيث لخص أربع ضرورات أساسية تقوم عليها الاستراتيجية الأمريكية وهي: أولا: تعزيز أسرة أنظمة السوق الديمقراطية الرئيسية بما فيها النظام الأمريكي لكونها تشكل النواة التي تنطلق منها عملية التوسيع .ثانيا: رعاية الأنظمة الديمقراطية الجديدة واقتصاديات السوق ومساعدتها حيثما أمكن ولاسيما في الدول ذات الأهمية والفرص الاستثنائية . ثالثا:التصدي للعدوان ودعم اشاعة اللبرالية في الدول المعادية للديمقراطية والسوق. رابعا: متابعة برنامجنا الإنساني ليس من خلال توفير المساعدات فقط ولكن عبر العمل على تمكين الديمقراطية واقتصاد السوق من مد الجذور في مناطق ذات أهمية إنسانية كبرى .ان نمو نزعة التدخل العسكري اعتبارا من أوائل التسعينات وهو التاريخ الذي بدأ يشهد القفزة الكبرى في وضع الشركات متعددة الجنسيات، هكذا اندمجت مصالح العولمة مع التعريف الموسع للأمن القومي، ومنذ ذلك التاريخ شهد العالم تطبيقات متلاحقة مثل التدخل في هايتي، قصف العراق، قصف صربيا، قصف مواقع في السودان، احتلال أفغانستان وأخيرا العراق. وقبل متابعة تطور نزعة التدخل العسكري يجدر بنا التوقف عند وجه آخر لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي وهو المتعلق بالجانب القومي – الإمبراطوري، فالنظام العالمي الذي انهار بعد اختفاء المعسكر الاشتراكي أسفر عن تبدل جوهري ,أن بنية السياسة العالمية التي تطورت منذ انتهاء الحرب الباردة تبرز الهيمنة العالمية للولايات المتحدة في إطار الحقل التعددي للأطراف الفاعلة (الدول القومية، الجماعات شبه القومية، الأديان العابرة للحدود القومية، المشروعات متعددة القوميات، المؤسسات العالمية والإقليمية). الذين يجرون الادارة الامريكية الى سياسة امبريالية جديدة يضعون الولايات المتحدة في موضع الصدام مع العالم بأسره، وفي صراع دموي ومباشر مع الشعوب العربية والاسلامية. هذه حالة اسوأ بكثير من حالة العداء التي واجهتها الولايات المتحدة في ذروة الحرب الفيتنامية. ففي نهاية الستينات ومطلع السبعينات كانت واشنطن تقود معسكرا غربيا واسعا ومتعدد القوى. اليوم، تعيش الدول الغربية جميعا توجسا لا يخفي من حليف الامس وسياساته. وليس هناك قوة في التاريخ على الاطلاق، تعادي العالم اجمع وتنتصر.
تزايد الشعور بالتهديد بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، فضرورات مكافحة الإرهاب قد اندمجت بصورة تامة مع طيف واسع من الأهداف على صعيدي الأمن القومي والسياسة الخارجية وهكذا وفرت الحرب على الإرهاب حسب تأكيد بوش الابن: (فرصة عظيمة لقيادة العالم نحو قيم كفيلة بجلب السلام الدائم). أما المنطلقات الحقيقية الكبرى للسياسة الخارجية فلا يتم التطرق إليها إلا في مناسبات قليلة يقول سيوم براون (جاء منطلق الاستراتيجية الجديدة انسجاما مع حماسة هيلري كلينتون للعولمة متمثلا بالقول: أن السلوك الدولي المسؤول والظروف السياسية الخارجية المرحبة بالاستثمارات الأمريكية يسيران جنبا إلى جنب مع اقتصاديات السوق والعملية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان). وهكذا فان المفهوم التقليدي للأمن القومي تمت مراجعته ليس للتعامل مع تهديدات جديدة مثل الإرهاب بل للإحاطة بطائفة غير مسبوقة من أهداف السياسة الخارجية وبصورة أوضح لدعم مصالح العولمة وشق الطريق أمامها.
يمكن النظر إلى الاستعداد الراهن لاستخدام القوة أداة من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية على أنه الحلقة الأخيرة من سلسلة التحولات الكبيرة الأربعة التي مرت بها استراتيجية الأمن القومي منذ عام 1945. التحول الأول كان ردا على صيرورة الحرب ذات قدرة تدميرية شاملة بعد قصف اليابان بالقنابل النووية، وتمثل بالتالي في اعتبار الحرب ملاذا أخيرا ودليلا على فشل الدبلوماسية، والتحول الثاني تمثل في تطوير طيف من الاستراتيجيات والقدرات العسكرية القابلة للاستخدام بمرونة للتصدي للعدوان الشيوعي المحدود والشامل كما في حالة كوبا. والتحول الثالث كان ردا على إخفاق الولايات المتحدة في فيتنام وتمثل في الانتكاس من مفهوم الرد المرن إلى حصر الحرب بأوضاع يكون فيها الأمن القومي الأمريكي معرضا للخطر. أما التحول الرابع فقد استند إلى تجربة حرب الخليج وتعزز بنتائج الحملتين على كوسوفا وأفغانستان وينظر إليه باعتباره عودة لتأكيد مرحلة ما قبل حرب فيتنام. وهكذا تم تكريس القوة العسكرية ليس في مواجهة خطر يتهدد الأمن القومي بالمفهوم الضيق ولكن كأداة بيد الدبلوماسية وفقا لمفهوم موسع للأمن القومي مدمج مع المصالح النامية باستمرار للعولمة.