اخذت تتبلور في الاونة الاخيرة قراءة استشرافية مفادها ان نفوذ تنظيم داعش الارهابي في العراق سيشهد خلال المرحلة القريبة المقبلة انحسارا كبيرا، وانه بعد شهرين سيكون قد تراجع الى حد كبير.
يشترك في هذه القراءة المتفائلة، التي ربما لم يلمس ابناء المدن والمناطق الساخنة امنيا مؤشراتها ومعطياتها على ارض الواقع، ساسة وخبراء عسكريين وامنيين، واصحاب رأي، بعضهم من العراق، وبعضهم الاخر من خارجه.
متغيرات مهمة
ولاشك ان الاونة الاخيرة شهدت متغيرات وتحولات مهمة للغاية، لايمكن لاي مراقب للوقائع والاحداث ان يتجاوزها او يمر عليها مرورا عابرا.
واذا انطلقنا من حقيقة ان الازمة العراقية في جوهرها هي ازمة سياسية اكثر مما تكون ازمة امنية، فأن الحراك السياسي بمساراته الايجابية يمكن ان يفضي الى حصول حلحلة وانفراج في الاوضاع الامنية.
ولعل النقاط او المنعطفات او المحطات المهمة بدلالاتها ومعانيها، تمثلت بثلاث، الاولى، تكليف رئيس وزراء جديد، بدلا من رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي، والثانية، صدور قرار من مجلس الامن الدولي بفرض عقوبات على من يدعم ويمول بالمال والسلاح الجماعات الارهابية-وتحديدا تنظيم داعش وجبهة النصرة-في سوريا والعراق، والنقطة الثالثة، اطلاق اشارات من قوى سياسية سنية برغبتها في فتح صفحة جديدة، الى جانب شروع قوى عشائرية في غرب البلاد بتنظيم صفوفها ومواجهة تنظيم داعش.
وثمة مسألة لابد من التنبيه لها، وهي انه لولا وجود حواضن سياسية، ولولا وجود تقاطعات وخلافات حادة بين الفرقاء السياسيين، ولولا غياب الرؤية الامنية السليمة، ناهيك عن الدعم والاسناد الخارجي الكبير، المحكوم هو الاخر بحسابات ومواقف سياسية معينة، لما تمكن تنظيم داعش الارهابي ان يتمدد الى مساحات واسعة ويحكم قبضته على مدن مهمة ومنشات حيوية استراتيجية خلال فترة زمنية قصيرة.
بعبارة اخرى كانت هناك مواضع خلل وثغرات استطاع “داعش” النفوذ والتغلغل من خلالها، وهذا يعني انه متى ما تمت معالجة مواضع الخلل وسد الثغرات، سنشهد صورة اخرى مختلفة تماما عن الصورة القائمة.
وحينما نتحدث عن مؤشرات ايجابية للانحسار الداعشي، فمعنى ذلك بداية تحول في ميزان القوى على الارض، توجهه وتفعله محركات سياسية بالدرجة الاساس.
اختيار التحالف الوطني لحيدر العبادي مرشحا لمنصب رئيس الوزراء بدلا عن نوري المالكي، فتح افاقا سياسية جيدة امام الجميع ماكان لها ان تفتح لو بقي المالكي، بصرف النظر عن ايجابيات الاخير وسلبياته، والتأييد والدعم الواسع للعبادي، عراقيا واقليميا ودوليا، والذي لم يحظى به أي رئيس وزراء سابق خلال العشرة اعوام الماضية، مثل رسالة بالغة الاهمية مفادها، “ان هناك رغبة واستعداد حقيقيين للتعاطي مع الوضع السياسي الجديد في العراق”.
استشعار الخطر اقليميا ودوليا
والملفت في الامر ان قوى اقليمية لها اجندات وحسابات مختلفة، ولها حلفاء واصدقاء في الداخل العراقي لايجمعهم جامع في الكثير من الاحيان، تبنت ذات الموقف الايجابي حيال مجيء العبادي، مع ان العبادي ينتمي الى نفس البيئة المذهبية، المدرسة الفكرية والسياسية التي ينتمي اليها المالكي.
هؤلاء الفرقاء الاقليميين والدوليين، ربما كانوا يترقبون وينتظرون ادنى فرصة للتقدم الى الامام والالتقاء عند نقطة معينة بشأن العراق، وربما باتوا يشعرون في هذا الوقت بالذات اكثر من أي وقت مضى بخطر الارهاب، ويعيشون هاجس اقتحامه لهم بعد ان اصبح يقف على ابوابهم، رغم ان البعض منهم كانت تربطه علاقات من نوع ما مع جماعات ارهابية مسلحة.
وايا تكن الاسباب والدوافع، فأنها في المحصلة تنعكس ايجابيا على العراق.
دلالات القرار الدولي
ولم تمر سوى خمسة ايام حتى اصدر مجلس الامن الدولي بأجماع اعضائه الخمسة عشر، قرارا دوليا يقضي بفرض عقوبات على من يدعم ويمول الجماعات الارهابية في سوريا والعراق.
ومن جانب، عكس قرار مجلس الامن، طبيعة الارادة الدولية حيال اعادة النظر بالموقف السلبي ازاء مايجري في المنطقة من احداث يمكن ان تهدد مصالح القوى الكبري وتهدد السلم الدولي. ومن جانب اخر، يبدو ان القوى الكبرى النافذة ارادت ان توجه رسالة تحذير قوية الى اطراف اقليمية داعمة ومساندة للارهابيين في العراق وسوريا، وفي ذات الوقت تبعد اصابع الاتهام لها بأنها وراء صنع وانتاج واستمرار تلك الجماعات الارهابية.
وطبيعي، ان تفكر او تبادر قوى سياسية، تمتلك امتدادات ميدانية، ذات سمة عشائرية ومسلحة في نفس الوقت، الى مراجعة مواقفها واعادة النظر في اصطفافاتها، بتعبير اخر، ان لم تدير ظهرها للجماعات الارهابية المسلحة، فأنها تبتعد عنها، لتقترب من المشهد السياسي، وتشارك في صياغته وتوجيهه، وتلك القوى-مثل مايسمى بثوار العشائر، والمجلس العسكري الموحد، وعناوين اخرى-تؤكد انها لاترتبط مع تنظيم داعش، بل انها ترفضه وتعاديه، وما تريده هو تشكيل حكومة وطنية تغادر سياقات الاقصاء والتهميش والاستهداف لابناء المكون السني.
صيغة اخرى للصحوات
وفي الايام القلائل الماضية شرعت عشائر في الانبار بتأسيس تشكيلات مسلحة على غرار تشكيلات الحشد الشعبي في محافظ الجنوب والوسط والفرات الاوسط،، واكثر من ذلك تشكيل حلف عشائري من عشرين قبيلة لمواجهة تنظيم داعش، وهذه الخطوة وامثالها تعد موضع ترحيب، والتحفظ الوحيد، هو في استيعاب عناصر ومجاميع ارهابية مسلحة متورطة بأرتكاب جرائم ضد العراقيين في اية ترتيبات من هذا القبيل،
تبدو هذه الصيغة شبيهه بتجربة او صيغة مجالس الصحوات، التي لم تخل من سلبيات الى جانب الايجابيات التي افرزتها.
ويوضح احد المسؤولين عن هذا الملف “ان الحاجز النفسي انكسر بعد رحيل المالكي، حيث باتت العشائر مصرة على التخلص من المسلحين”.
ويشير الى “ان انضمام أكثر من عشرين إلى الحلف الذي تعهد بمقاتلة التنظيمات المسلحة، وان هذا الحلف سيتلقى التسليح والدعم من الجيش لكن بإطار يختلف عن الصحوات التي شكلت في سنوات 2007 و 2008، وكل عشيرة دفعت بعدد من اتباعها وشكلت أفواجاً مسلحة، ستقاتل بصورة مشتركة مع القوات العسكرية الصغيرة المتواجدة في الأنبار، على أن تخوض معارك منفردة في الأحياء السكنية دون دعم الجيش، وان العشائر ستوسع دائرة قتالها ضد المسلحين بعد تشكيل الحكومة الجديدة واستقرار الوزرات الأمنية”.
هذا المشروع، في حال ارتكز على نوايا صادقة وسياقات مهنية سليمة، فأنه الى جانب مشروع الحشد الشعبي، مع الاصلاحات المرتقبة في المؤسستين الامنية والعسكرية، سيساهم بسحب جزء من البساط من تحت اقدام تنظيم داعش، والجزء الاخر سينسحب حينما تنقطع خطوط الامدادات-او تنحسر-من الخارج. قد لاتتبلور الصورة بكل الوانها وملامحها خلال وقتقصير، بيد ان المهم هو ان تكون المقدمات صحيحة لتفضي بالتالي الى نتائج صحيحة.