فرضت الإدارة الأميركية على العراق نهجها اليميني المحافظ الذي التي يلغي دور الدولة الاجتماعي تجاه الطبقات الضعيفة والفقراء والعاطلين عن العمل , ويهدرحقوقهم الثابتة منذ نصف قرن والتي تمولها ثروة بلدهم , في التعليم المجاني والطبابة والسكن اللائق , وأسس الأميركيون لاقتصاد تابع قوامه الطبقة الجديدة التي تسلقت الهرم الاجتماعي عقب الاحتلال , وهي طبقة طفيلية غير منتجة ولا تحسن سوى دور الوسيط التابع للشركات المتعددة الجنسية ؛ وقد انصاعت الحكومات العراقية جميعها لتلك الاملاءات الأميركية , بدءاً من حكومة السيد أياد علاوي , مروراً بحكومة – القوي الأمين – ابراهيم الجعفري , وانتهاء بحكومة السيد نوري المالكي , وبالطبع بمباركة شركائهم الأكراد و من القائمة العراقية ؛ فقد تبنت تلك الحكومات فلسفة السوق وقوانينها , فألغت جميع القيود التي تعرقل تراكم الأرباح , وأقرّت مبدأ بيع أصول الشركات الحكومية بما في ذلك الرابحة منها , وقلّصت تمويلها للبرامج الاجتماعية الى الحدود القصوى ؛ فعلى سبيل المثال جرى شطب ثلثي مفردات البطاقة التموينية , بل إن وزراء حزب الدعوة – المتخمين – قد طالبوا بإلغائها ؛ وعلى سبيل المثال أيضا تقلصت ميزانية التعليم الى حدود عجزت معها عن استيعاب الأعداد المتزايدة من الطلاب , وامتلأت الشوارع بالأطفال المتسربين من المدارس , وأصبح قانون التعليم الإلزامي الذي كان مفخرة للعراق , من مخلفات “عهد بائد” , وانحدرت قيمة الشهادة العلمية العراقية الى مستويات فاضحة , واتساقاً مع فلسفة الخصخصة جرى إحياء التعليم الخاص الذي كان العهد الوطني قد أممه بعد إقرار مجانية التعليم بكل مراحله , فضلا عن اعتباره التعليم الخاص رمزاً للفوارق الطبقية التي كان الشعب يطالب بتذويبها , ولكن تلك الفوارق عادت اليوم في عهد الاسلام السياسي , للتباعد بما لا يقاس عما كانت عليه في العهد الملكي , فراحت الطبقة الوسطى العراقية تتآكل , وبات المجتمع العراقي منقسماً الى طبقتين , أقلية فاجرة الثراء , وغالبية عظمى مسحوقة .
كذلك جرى إلغاء الضريبة التصاعدية , وتم إقرارالضريبة الموحدة التي تساوي بين الغني والفقير , وسُنّت قوانين جديدة للتجارة والاستثمار أتاحت للشركات الأجنبية اختراق السوق العراقية بحرية كاملة وذلك بالتزامن مع رفع الحماية الكمركية عن منتجات الصناعة الوطنية ؛ كذلك ألغي قانون الرقابة على الأسعار , وقانون الحد الأدنى للأجور , وأوكلت تلك المهام – التي تتعلق بها حياة الفقراء – الى توازنات قوى السوق ؛ وإذا ظلت السلطة متداولة بين النخبة السياسية الحالية , فسيأتي يوم تُخصخص فيه الرعاية الصحية , وخدمة البريد , والتعليم بكل مراحله , والطرق السريعة , وحتى المتنزهات الوطنية.
لقد تعاملت إدارة بوش مع العراق عقب احتلاله , باعتباره منجماً للأرباح الاستثمارية , فلست أظن أن أحداً يصدّق حكاية حرص الأميركان على الفوز بقلوب العراقيين وعقولهم , فليست تلك مهمتهم الحقيقية في بلدنا , ولكن كان هدفهم تركيع العراق وكسر مقاومته , وتسليط نظام حكم عميل يرضى بشراكة غير متكافئة بين القوة الأعظم في العالم , وسلطة فاشلة على بلد شبه مدمّر , تدورعلى أرضه بالكلمات وبالرصاص حرب طائفية وعرقية ؛ كان اقتصاد العراق قبل الغزو الأميركي يرتكز على شركة النفط الوطنية ومعها مئتي شركة للقطاع العام تنتج السلع الغذائية , والمواد الخام الصناعية , والاسمنت , والورق , وزيت الطعام , الى جانب الزراعة والتجارة ومشروعات الرأسمال الوطني ؛ وقد جاء الغزو ليبدد ذلك كله , ويمحو الفلسفة التقدمية التي قام على ضوئها ذلك الاقتصاد ؛ ففي الشهر الأول لوصوله الى بغداد أعلن بول بريمر أنه ستتم فوراً خصخصة شركات القطاع العام المائتين ؛ ثم أصدر قوانينه الاقتصادية الجديدة التي زعم أنها ستجذب المشترين الأجانب ليشاركوا في مزاد الخصخصة , ولينشئوا مصانع جديدة ومحلات بيع التجزئة , وقد خفضت قوانين بريمر معدل الضرائب على الشركات الخاصة من 45% الى 15% , وسمحت للشركات الأجنبية بتملك ما نسبته 100% من أية أصول عراقية , وأتاحت للمستثمرين تحويل كل أرباحهم من العراق دون إبقاء نسبة منها لإعادة استثمارها , وحالت أيضاً دون تحميلهم أية أعباء ضريبية , كذلك منحت قوانين بريمر المستثمرين الحق بتوقيع عقود إيجار لمؤسسات القطاع العام لمدد تصل الى أربعين سنة , مما يعني تحميل الحكومات العراقية اللاحقة العبء الاقتصادي والقانوني لتلك العقود , وكذلك حوّل الغزو الأميركي العراق الى سوق مخصخصة بالكامل جرى تمويلها بواردات من النفط العراقي بلغت قيمتها عشرين مليار دولار لم يذهب سنت واحد منها الى مصانع العراق لتمكينها من إرساء أساس اقتصاد دائم وقابل للحياة والتطور , ولخلق فرص عمل للمواطنين , ولإنشاء شبكة أمان اجتماعي , ذلك أنه لم يكن للعراقيين أي دور أو رأي في تلك العملية , وقد وجدوا أنفسهم محاصرين بدور المشاهد المذهول , من التكنولوجيا العسكرية الأميركية أولا , ومن تكنولوجيا الهندسة والإدارة ثانيا .
عندما أوقفت شركة “بكتل ” أعمالها وغادرت العراق في نهاية عام 2006 , كانت تعزو عدم إتمامها للمشاريع التي تعاقدت عليها الى تفشي العنف في البلد , والحقيقة أن فشل هذه الشركة كان جلياً قبل انفجار عاصفة العنف الطائفي التي ضربت العراق في تلك السنة , فالمدارس التي أنشاتها كانت بمواصفات متدنية ومخالفة للشروط , ومستشفى الأطفال المركزي في بغداد الذي تعاقدت على تجديده , كانت شبه متوقفة عن العمل , فقد حولت تلك الشركة أموال عقودها في العراق الى حساباتها الخارجية , ثم راحت تبيع مقاولاتها الى متعهد محلي بثمن بخس ؛ ومثلها أيضاً شركة ” بارسونز” التي تلقت حوالي مئتي مليون دولار لبناء مئة واثنين وأربعين عيادة صحية , لم ينجز منها إلا ست عيادات ؛ ومن كل ثمانية مشاريع نفذها مقاولون أميركيون , كان سبعة منها مخالفاً لمواصفات التصميم المطلوب ! وكذلك استمر هذا الاحتيال طيلة ثلاث سنوات ريثما غادرت آخر شركة أميركية العراق , وقد قبضت ملايينها دون أن تنجز أعمالها , ولم يكن فساد تلك الشركات ونهبها للمال العراقي , إلا نتيجة لإلغاء نظم الرقابة الحكومية والقوانين التي كانت تحكم الاقتصاد العراقي إبان ” العهد الديكتاتوري ” , وللقرار الأميركي بتحويل البلد الى حقل استكشاف جديد للرأسمالية الغربية المتوحشة .
……………………………
……………………………
انسحب الاحتلال الأميركي حقاً من العراق , ولكنه أنجز المهمة التي جاء من أجلها , فقد استطاع أن يمسخ العراق من دولة ذات هوية تاريخية عربية , وقائدة في مجالها الاقليمي , مستقرة بتحالف وطني لقواها الاجتماعية , الى كيان هلامي تتنازعه الطوائف والأعراق , وتتهدده كل القوى الاقليمية بما فيها دولة بقيمة الكويت ؛ ونجح الاحتلال في تحطيم الاقتصاد العراقي الذي كان يوازن التباين الاجتماعي ويقلص من حدته , لينشيء اقتصاداً تابعاً تحكمه قوى السوق المنفلتة من كل عقال والتي لا تعنيها احتياجات ومطالب الفقراء ؛ لقد انحدر الاحتلال بالعراق من دولة رفاهية وكفاية , الى دولة رأس المال الطفيلي المتحالف مع طبقة رجال الدين . كان العراق عقب العام 2003 بحاجة ماسة الى عملية إصلاح وإعادة بناء كان يُفترض أن يديرها العراقيون وحدهم , ولكن تحالف سلطة الاحتلال مع أتباعها القادمين من خلف الحدود حوّل البلد الى مختبر رأسمالي ترسم فيه مخططات العنف الطائفي , وتطبق عليه سياسات اقتصادية أدت الى تفشي بطالة غيرمسبوقة بين أهله سدّت أمامهم فرص الرزق وحرمتهم من العدالة , لتمنح حصانة غير مبررة للمحتلين الأجانب ؛ كانت الكارثة التي وقعت في العراق سببها الطمع الرأسمالي الغربي والسلطة العراقية الفاسدة , ولئن كان ما سمي بإعادة إعمارالعراق فشلا كبيراً انعكس فقراً وتخلفاً وانحداراً أخلاقياً على المجتمع , فإنه لم يكن كذلك للأميركيين وأتباعهم المعششين في الدولة العراقية , إذ انعكس عليهم ثراء فاحشاً, وسلوكاً اجتماعياً فاضحاً , واحتقاراً شعبياً تنطق به العيون قبل الألسنة , وحساباً عسيراً عسى ألا يطول انتظاره .