أصبحت أعمال إعادة الإعمار شعاراً عالمياً بعد أن لمست الشركات الأميركية التي دخلت سوق العراق , حجم الأرباح الهائلة الكامنة في تلك العملية , فأصبحت تلك الشركات بعد تجربة خصخصة الحرب في العراق , تسرح حرة في كل بقعة من الأرض تدور فيها حرب , أو تضربها كارثة طبيعية , وكذلك أصبحت مناطق العالم المنكوبة سوقاً جديدة للشركات الأميركية , قوامها تجارة السلاح , وتشكيلات عسكرية يقودها القطاع الخاص , وعقود مقاولات طافحة بالفساد ؛ وقد بدأت إرهاصات هذا الاقتصاد الجديد تطبع السياسة الأميركية منذ عهد الرئيس اليميني ريغان , لكن إدارة الرئيس بوش هي التي أرست قواعده وجعلت منه حقيقة ثابتة في سياسة الدولة الأميركية , كذلك كانت إدارة بوش أول من سلّم الملفات السياسية ذات الصلة بالعراق الى رؤوساء شركات , حققوا في وقت لاحق أرباحاً غير مسبوقة من الحرب على ذلك البلد , فعلى سبيل المثال ترأس وزير الخارجية السابق جورج شولتز منذ العام 2000 ما سمي بلجنة تحريرالعراق , وقد كتب في ايلول 2002 مقالا بعنوان ” تصرفوا الآن فالخطر وشيك ” تحدّث فيه عن خطر يمثله الرئيس صدام حسين – رحمه الله – على الأمن الأميركي , وشبهه بالأفعى التي يجب سحقها قبل أن تلدغ ؛ ولكن شولتز لم يذكر في مقاله أنه كان في ذلك الوقت المدير التنفيذي لشركة ” بكتل ” التي حققت أرباحاً تزيد عن ثلاث مليارات دولار من عقود إعادة إعمار البلد الذي كان قد دعا الى تدميره ! كان مطلب الإدارة الأميركية أن يصبح العراق حقلا للتجارب تحجز الصف الأول فيه الشركات الأميركية دون سواها , وذلك في رحلة السعي وراء المليارات السهلة , ولقد اتسمت تلك التجارب بمقدار من القسوة والتطرف الى حدّ وصف فيه كبير الخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي قوانين بول بريمر بالصدمة الأكثر تطرفاُ من تلك التي تلقاها الاتحاد السوفييتي غداة انهياره ! ولم يكن بول بريمر مؤهلا لتشريع قوانين تتعلق بالتجارة والاستثمار , لكنه كان يستلمها مباشرة من وزارة الدفاع بالبريد الالكتروني , ليطبعها ويوقعها ثم يفرضها كأمر واجب النفاذ على الشعب العراقي, لقد كان بريمر في واقع الأمر رسول الشركات المتعددة الجنسية حاملة لواء خصخصة الحرب في العراق , قبل أن يكون مبعوث السياسة الأميركية , وذلك بدلالة الحضور الضعيف للدولة الأميركية في العراق , مقارنة بالحضور القوي لتلك الشركات ؛ فلم يحدث أن اعتُبرت وظيفة واحدة حيوية بحيث لا يمكن تسليمها لواحد من المقاولين أو المتعهدين الأميركيين .
كان الاقتصاد العراقي قبل العدوان الأميركي عام 1991 من أكثر اقتصادات المنطقة تطورا , ولقد كان مطلب تدميره على رأس أهداف غزو البلد عام 2003 , فجرى وقف كل شركات القطاع العام العراقية عن العمل – وعددها مئتا شركة – مع أنها كانت مؤهلة تماما لإعادة تشغيلها ورفد السوق باحتياجاته بأسعار رخيصة , فضلا عن تأمينها العمل لآلاف العراقيين , ثم حوربت تلك الشركات من جهتين , من بول بريمر الذي رفض تزويدها بمولدات الكهرباء , وحظرعلى البنك المركزي تمويلها , وحوربت أيضا من شركات الإعمار الأميركية التي لم تكتف باستيراد المواد الأولية بكلفة عشرة أضعاف أسعار المنتج العراقي , وإنما استوردت أيضاَ اليد العاملة الأجنبية , فلم يزد مجموع العراقيين الذين عملوا في مشاريع إعادة الإعمارعن الخمس عشرة ألفاً , يقابلهم عشرات الألوف من العمال الأجانب تم جلبهم من سائر أنحاء الأرض ؛ ولم يسلم القطاع الخاص العراقي هو أيضاً من تلك الهجمة , فراحت شركاته تقفل أبوابها واحدة تلو الأخرى بسبب عجزها عن منافسة الواردات المتدفقة عبر الحدود المفتوحة على مصراعيها , وقد روى لي صديق من كبار الصناعيين , أن مساعداً لبول بريمر اجتمع بنخبة من الصناعيين العراقيين ليقول لهم أن منافسيهم الأجانب لم يدخلوا العراق بقوة السلاح , وإنما بخبراتهم وكفاءتهم , وأنه يفهم أن الإنتاج العراقي لن يتفوق على المنافسة الأجنبية , وأن قانون السوق سيبقي الأفضل من بينهم فقط على قيد الحياة , ثم أضاف بلهجة مسرحية : وهنا بالذات تكمن روعة السوق الحرة ! و في واقع الأمر لم يجر تحطيم الصناعة العراقية لأسباب تتعلق بها , ولكنه كان هدفاً لعقيدة جديدة جاءت لتغزو وتسيطر وتنفرد بالسوق بعد إخلائه من أصحابه الشرعيين ؛ لقد أقصي العراقيون بصورة منهجية عن كل الأعمال الميدانية المتعلقة بإعادة الإعمار , وبدا منظر توافد الآلاف من العمال الأجانب لتلقف فرص العمل لدى المقاولين الأميركيين , امتداداً طبيعياً لتدفق عشرات الألوف من قوات الغزو لإحياء زمن استعماري ظن العالم أنه صفحة طويت من تاريخ البشرية ؛ لم تكن تلك عملية إعادة إعمار بقدرما كانت عملية تدمير بيع فيها القطاع العام العراقي بالجملة , وأبيدت فيها الصناعة الوطنية التي كانت مصدر اعتزاز وطني عارم .