بمجرد أن تبدد غبار تفجيرات يوم الحادي عشر من ايلول عام 2001 , بدأ التفكيرالأميركي باحتلال بلد عربي لتحويله الى دولة نموذجية وفق معايير اليمين المتطرف الذي كانت رموزه تملأ جنبات البيت الأبيض ؛ ودارت المفاضلة بين مصر وسوريا والعراق فضلا عن ايران , ليقع الخيار في النهاية على العراق وذلك لعدة أسباب , فهو يملك أكبر مخزون نفطي في العالم , وموقعه الجغرافي مثالي للقواعد العسكرية , ونظام الحكم فيه قد ضعُف كثيراً بسبب تراجع قدراته العسكرية والاقتصادية تحت وطأة العقوبات الدولية , كما أن أرضه كانت مألوفة للجيش الأميركي بعد عدوان 1991 ؛ وقد بررت إدارة بوش غزوها للعراق بجملة أكاذيب منها حكاية أسلحة الدمار الشامل , ومنها مزاعم عن علاقة للعراق مع تنظيم القاعدة , ومنها عقيدة ” الواحد بالمئة ” التي ابتدعها نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ومؤداها أنه اذا كان تهديد صدام حسين لأمن الولايات المتحدة يمثل احتمالاً نسبته واحداً بالمئة , فعليها أن تتعامل مع هذا التهديد باعتباره مؤكداً بنسبة مئة بالمئة ؛ وكذلك واتت الرئيس بوش الفرصة لتحقيق ما كان صعباً قبل الحادي عشرمن ايلول , وهو شنّ حرب خارجية عمادها الشركات الأميركية الخاصة , و تكون فاتحتها قوة نارية تفاجيء العراقيين وتذهلهم و تمحو شخصيتهم وهويتهم لتتولى الولايات المتحدة إعادة بنائها من العدم كصفحة بيضاء, ولقد استخدم الأميركيون في تلك الحرب كل أساليب الصدم والترويع التي يملكونها عدا القنبلة النووية , و تمكنوا من تنصيب نظام حكم موال , لكنهم لم يخضعوا شعب العراق !
باستطلاع سيرة رجال إدارة الرئيس بوش , نكتشف بسرعة أن الهدف الحقيقي لغزو العراق كان اقتصاديا , فعلى سبيل المثال جاء دونالد رامسفيلد الى وزارة الدفاع بعد عشرين عاماً أمضاها في رئاسة الشركات المتعددة الجنسية , و قد أوكل لنفسه عشية انضمامه الى الحكومة مهمة محددة , هي اختراع حرب للقرن الحادي والعشرين تفتح ميادين لربح بلا حدود أمام الشركات الأميركية الكبرى مثل “بلاكووتر” و”هاليبرتون” و”بكتل” و”بيتشل” , وهو ما حدث فعلا , بل إن العقود الهائلة التي نالتها تلك الشركات في العراق قد فتحت شهيتها , فانخرطت في أعمال ليست من اختصاصها كالتحقيق مع السجناء والرعاية الصحية والتموين ! وعلى سبيل المثال أيضا كان ديك تشيني رئيساً لشركة “هاليبرتون” قبل أن يصبح نائباً للرئيس بوش , وقد استغل منصبه ليمنح “هاليبرتون” عقداً بمليارات الدولارات تولت بموجبه تأسيس كل البنية التحتية لعمليات الجيش الأميركي في العراق , لينحصر دور ذلك الجيش في توفير الجنود والسلاح , وقد لخصت الشركة طبيعة عملها بعبارة دالة مؤداها أن موظفاً لديها هو أول من يرحب بالجنود لدى وصولهم , وهو آخر من يلوّح لهم عند الوداع !
وقد حدث في ايلول 2003 أن وصل مطار بغداد بدعوة من وزارة الخارجية الأميركية , رجال من جنسيات مختلفة , كانوا خليطاً من رؤساء وزارة ووزراء مالية سابقين , و رؤساء بنوك مركزية , وكان منظر هؤلاء الكهول المتأنقين غريباً وقد اعتمروا الخوذات العسكرية وارتدوا الدروع الواقية من الرصاص , لينطلقوا بسرعة بالغة صوب المنطقة الخضراء حيث ألقوا محاضرات حول ” نقطة التلاقي بين المصالح الاقتصادية والكوارث العظمى” , و” أسلوب التحول الى الاقتصاد الرأسمالي” , وذلك أمام مجموعة عراقية صغيرة اختارها بول بريمر , كان فيها أحمد الجلبي , وحسين الشهرستاني , وابراهيم بحر العلوم , ولؤي العرس ؛ وكانت محاضراتهم تخلص الى حتمية الالتزام بما أسمته بالثالوث السياسي وقوامه الغاء القطاع العام , ومنح الشركات حريتها الكاملة , والحدّ من إنفاق الدولة على الشؤون الاجتماعية ؛ وشرحوا نظرية بناء الاقتصاد الجديد القائم على اقتناص فرصة الفوضى للدفع بسياسات خصخصة شاملة تقلّص دور الحكومة , و تصفي مؤسساتها الانتاجية , وتسرّح العمال , وترفع الدعم الحكومي عن كافة السلع بما فيها الوقود والكهرباء والدواء والتعليم , وإلغاء كل أشكال الإعانات الحكومية للمواطنين ؛ وكان المحاضرون يطرحون أسئلة تحمل جوابها في ثناياها , على شاكلة لمَ يجب على اليونيسيف أن تعيد بناء المدارس في حين أنه بمقدور شركة ” بيتشل ” العملاقة للهندسة القيام بذلك ؟ ولمَ إشغال الجيش بحماية الشخصيات السياسية والمنشآت العامة في حين أنه بوسع شركة بلاك ووتر القيام بتلك المهمة ؟ وتطبيقاً لهذه الفلسفة , قامت وزارة الدفاع الأميركية في كانون الأول 2006 بوضع يدها على شركات القطاع العام العراقية وهي تلك الشركات التي سبق لممثل الاحتلال بول بريمر أن رفض تزويدها بمولدات الكهرباء باعتبارها من مخلفات المرحلة الستالينية ! غير أن جائزة الاحتلال الكبرى كانت الولايات المتحدة قد حصدتها مبكراً , فمنذ عام 2003 صاغت مشروع قانون جديد للنفط العراقي أتاح لشركات البترول الأميركية الحصول على مئات مليارات الدولارات من عقود مدتها ثلاثين سنة , ولم يضع ذلك القانون أي حدود للأرباح التي يمكن للشركات الأجنبية أن تخرجها من البلد , ولم يفرض أية شروط على نسبة الشراكة بينها وبين شركة النفط الوطنية العراقية , ولم ينص على توظيف العراقيين في صناعة النفط والأسوأ من ذلك كله أنه يمنع مجلس النواب من مناقشة العقود النفطية المستقبلية , وأوكل ذلك الى هيئة دعاها بالمجلس الاتحادي للنفط والغاز تديره مجموعة من الخبراء العراقيين والأجانب , ويتمتع هذا المجلس بصلاحية مطلقة لاتخاذ القرارات في كل ما يتعلق بالنفط العراقي بما في ذلك إبرام العقود والتصرف باحتياطيه المخزون في باطن الأرض ؛ والمفارقة أن بول بريمر لم يجرؤ وقتها على إقرار ذلك القانون تحسباً لردة فعل الشعب العراقي , لكن حكومات الاسلام السياسي التي لا تقيم وزناً لهذا الشعب , والتي لا تملك أن تتحدى الارادة الأميركية , أنفذت مشروع القانون هذا بمرسوم ديواني تحت إشراف السيد حسين الشهرستاني وراعيه السيد نوري المالكي , وكذلك أصبح نهب الثروة الوطنية الرئيسة في العراق , أمراً واقعاً تطلع عليه شمس كل يوم وتغيب عنه .