ليس من السهل وضع قرار روسيا بالانسحاب المفاجئ من سوريا “جزئيا” في إطار القرارات التي يمكن تحليلها ضمن الكثير من الأحداث النمطية المملة في الصراع السياسي والعسكري السوري- الدولي الذي طال أمده دون نتائج ملموسة على الأرض سوى المزيد من القتل والتدمير الغير منطقي، والتي كانت روسيا اللاعب الأخير في سلسلة المتداخلين في الشأن السوري بغض النظر عن مدى أحقيتها بهذا التدخل.لكن ومن جانب آخر، يمكن تجميع كل خيوط اللعبة الدولية لنخرج بمحصلة نهائية يمكن من خلالها كشف ملابسات هذا الانسحاب المفاجئ الذي على ما يبدو لم يفاجئ أمريكا أو التحالف العربي، لكنه بالتأكيد كان صدمة للتحالف الرباعي الذي ضم بالإضافة إلى روسيا “المنسحبة” كل من سوريا وإيران والعراق، وهو ما دفع هذه الدول ليس للتعبير عن دهشتهم لهذا القرار فحسب، بل أسرعت لتبريره حتى قبل أن توضحه روسيا نفسها.ربما يكون تفسير هذا القرار من نوع السهل الممتنع، فالكثير من المبررات المطروحة حقيقية ومقنعة، فقد جاء القرار كنتيجة منطقية لتواتر أحداث في بعضها معقد بسبب تعدد أطراف المعادلة على الأرض، وفي بعضها الآخر توقعه العديد من المحللين بسبب توافر الأدلة على صحة تلك المبررات، لكن يبقى هناك ما هو خلف الكواليس، والذي يمكن كشفه بالاعتماد على ردود الأفعال التي لازالت تتفاعل حول القرار.أولى تلك المبررات والتي كشف عنها النقاب قبل قرار الانسحاب بكثير، وهو ما يتعلق بلاعب خطير يمكن أن ينزل إلى ساحة المعركة، صواريخ ستينيغر المضاد للطائرات، والتي طالما طالبت بها المعارضة السورية لوقف القصف الجوي الروسي الذي طال الأخضر واليابس، وهي قضية تداولتها الكثير من الأطراف الفاعلة دون الاستجابة لمطالب المعارضة، حتى جاءت لحظة إسقاط الطائرة السورية بإحدى هذه الصواريخ المجهولة المصدر، والتي كانت ربما مجرد رسالة لروسيا ولغيرها مفادها إن اللعبة انتهت، وهو مبرر مقبول لكن لن يكون الأكثر إقناعا.مبرر آخر جاء على لسان الرئيس بوتين نفسه، وهو الأبعد منطقيا، وهو إن المهمة التي جاء من أجلها إلى سوريا قد انتهت، وأن النظام السوري يستطيع من الآن حماية نفسه، في وقت لازال فيه النظام يسيطر على أقل من ثلث مساحة البلاد، وكل التحديات والتهديدات السابقة لا زالت جاثمة على صدر الرئيس بشار الأسد ونظامه، ولم نشهد أي تقدم لقواته في مناطق النزاع مع الدولة الإسلامية مثلا، في وقت يتم فيه الإعلان عن تقاسم مناطق النفوذ بين أمريكا وروسيا بين تدمر والرقة للقضاء على الجماعات المتطرفة.رؤية أخرى برزت وبدت إنها الأقرب للمنطق، وهي أن المفاوضات الدولية بشان سوريا قد وصلت إلى بداية الحل، ويتوجب على بعض الأطراف ومنها روسيا تنفيذ ما عليها من تعهدات، لكن في ذات الوقت لم تقدم فيه أطراف أخرى أية إشارة لتعهدات أو انسحابات، بل لم يتم في الأساس الإعلان عن أي نوع من أنواع التعهدات بالنسبة لجميع الأطراف، فلماذا على روسيا وحدها التنفيذ دون باقي الأطراف؟أثار مؤيدو التحالف العربي الإسلامي مبرر آخر ربما هو أقرب للعاطفة منه إلى المنطق، فقد أشاروا بوضوح إلى أن القرار الروسي راجع إلى تحذير المملكة العربية السعودية من مغبة الاستمرار بدعم نظام الأسد والإصرار على أن تكون سوريا الجديدة من دون بشار الأسد، لكن ذلك المبرر لا يعتمد على أرض صلبة، خاصة في ظل وجود صفقات ضخمة تم إبرامها بين السعودية وروسيا، وربما طرح المبرر الاقتصادي هو الأقرب من سابقه بتحييد روسيا اقتصاديا بدلا من تحذيرها عسكريا.جاءت الكثير من التحليلات الصحفية بعيدة عن كل المبررات السابقة، فقد أشارت إلى أن القرار الروسي مجرد مناورة للضغط على الرئيس بشار الأسد للقبول ببعض أو كل ما ينتج عن مفاوضات جنيف، في وقت يتعرض فيه الأسد لكثير من الضغوطات الدولية الأخرى، وفي هذه الحال لن تحتاج روسيا لسحب القوات الأساسية من سوريا لإقناع الرئيس السوري بجدية التهديد، فالأمر واضح جدا بالنسبة للنظام السوري، ولابد إنه في وضع لا ينفع فيه العناد مع الأعداء، فكيف بأقوى حليف لسوريا؟الحديث عن حصول روسيا على تعهدات برفع العقوبات الاقتصادية مع احتفاظها بجزيرة القرم كثمن مقابل قرار الانسحاب لم يكن بعيدا عن المبررات المطروحة على طاولة التحليلات، لكنه سيكون الأضعف بسبب عدم استعداد روسيا في الوقت الحاضر على الأقل للمساومة على إستراتيجيتها في المياه الدافئة والتنازل عن قاعدتها في طرطوس، أو التخلي عن إرثها في معاهدة سايكس بيكو المشرفة على الانتهاء.وبعيدا عن كل هذه التفاصيل والأوراق المبعثرة في مبادرة الانسحاب الروسية المفاجئة فإنها تشير بصورة عامة إلى خروج روسي سريع ومفاجئ كدخوله للساحة السورية بادئ الأمر، وهذا يعني حصولها على حصتها في مستقبل سوريا بغض النظر عن وجود بشار الأسد من عدمه، وابتعادا عن المزيد من الفخاخ المنصوبة التي ربما تكلفها ثمنا أكبر مما حصلت عليه، مع الأخذ بنظر الاعتبار إنها لن تنسحب كليا من الساحة السورية، لكنها تخلت عن جزء من مخططها والذي يتمثل بهيمنتها الجوية على ساحة المعركة في سوريا مع الاحتفاظ بموقعها ضمن التحالف الدولي بقيادة أمريكا لمحاربة الجماعات المتطرفة.وفي المحصلة فإن المنطقة أمام تغييرات جذرية بدأت باليمن وستشمل سوريا والعراق، وبضغط من تحالف عربي إسلامي جديد فرض على التحالف الدولي تغيير قواعد اللعبة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وفي ظل بوادر خطيرة ظهرت في مناطق النزاع في الوطن العربي، ليس أقلها خطورة توفر عوامل تقسيم سوريا والعراق وربما اليمن، ولن تكون بقية الدولة بمأمن منها.ختاما فإن الكرة اليوم بملعب التحالف العربي الإسلامي الذي أستثنى سوريا والعراق من المشاركة فيه، وهذا لوحده يبدو دليلا على إن العراق وسوريا تمثلان مشكلة واحدة، وتحمل أبعادا معقدة ليس من السهل وضعها في إطار حل شامل وسريع، وذلك يعود لحجم التدخلات الكبير في المنطقة، وعدم استعداد الأطراف الدولية لقبول مفهوم عربي إسلامي يقود المنطقة، خاصة في ظل الحديث عن سايكس بيكو جديد يقسم المقسم من بلاد العرب، فهل سيكون التحالف العربي الإسلامي أهل لمواجهة هذه المهمة الخطير