13 أبريل، 2024 11:14 ص
Search
Close this search box.

الانسحاب الأميركي من العراق.. من الأقوى؟

Facebook
Twitter
LinkedIn

ثلاثة مرتكزات اعتمدت عليها الإدارة الأميركية في سياستها إزاء العراق في السنوات الثلاث الماضية، وذلك كي تتجنب المزيد من الخسائر المادية والمعنوية التي تعرّض لها مشروعها الامبراطوري، الذي تكرّس باحتلال العراق عام 2003، على الرغم مما لاقاه من مقاومة شرسة، ولعل هذه المرتكزات هي:
المرتكز الأول- إعادة تنظيم العلاقة بين بغداد وواشنطن، بحيث يتم اعتماد صيغة جديدة بدلاً من «الاحتلال العسكري « الذي نظّمه القرار 1483 الصادر في أيار (مايو) 2003 عن مجلس الأمن الدولي، والذي يخضع في أحكامه لاتفاقيات جنيف ولقواعد القانون الدولي، إضافة إلى نحو عشرة قرارات دولية أخرى صدرت بعده من الأمم المتحدة.
وبإبرام الاتفاقية العراقية – الأميركية في أواخر عام 2008 وعشية مغادرة الرئيس جورج دبليو بوش البيت الأبيض الذي أصرّ على إنجازها قبل انتهاء ولايته، تغيّرت صفة الاحتلال إلى «احتلال تعاقدي»، لا سيما بإسقاط حق العراق بالتعويض عن الأضرار التي لحقت به، الأمر الذي كان واضحاً أن الصيغة الجديدة هي الأخرى غير متكافئة حسب اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، لأنها انعقدت بين طرفين أحدهما قوي ومحتل، والآخر ضعيف ومحتلة أراضيه، حيث تم استبقاء القوات الأميركية بحصانة قانونية لمدة ثلاث سنوات، وتم منحها امتيازات على حساب السيادة الوطنية العراقية التي ظلّت معوّمة. لكن هذه الصيغة هي الأخرى وصلت إلى طريق مسدود، وفشلت في تلبية طموحات واشنطن، لا سيما تداعياتها اللاحقة.
المرتكز الثاني ـ إعادة ترتيب العلاقة بين أطراف العملية السياسية، بحيث يتم تشكيل حكومي ثلاثي يضم القائمة الأكبر الفائزة بـ 91 مقعداً وهي القائمة العراقية برئاسة الدكتور إياد علاوي القريب من واشنطن، والثانية كتلة الائتلاف الوطني التي ضمت قائمة دولة القانون التي حصلت على 89 مقعداً، والمجلس الإسلامي الأعلى وجماعة السيد الصدر وجماعات إسلامية ـ شيعية أخرى التي حصلت على 70 مقعداً، واعتبرت حسب قرار المحكمة الاتحادية، الكتلة الأكبر التي من «حقها» تشكيل الوزارة، حيث تم إعادة تكليف نوري المالكي الذي يعتبر عمقه الاستراتيجي لإيران، وأفقه السياسي لواشنطن، وقد حاول الموازنة خلال فترة ولايته الأولى، إضافة إلى الكتلة الكردية وهي المجموعة الثالثة، التي يتزعّمها الحزبان الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، مع بروز عنصر جديد هو المعارضة الكردية الداخلية، منذ الانتخابات المحلية لإقليم كردستان، خصوصاً «كتلة كوران» القوية في السليمانية.
وقد كُلّف جو بايدن نائب الرئيس الأميركي بالمهمة عشية وعقب الانتخابات البرلمانية التي جرت في 7 آذار (مارس) 2010 والتي تأخّر تشكيل الوزارة بعدها لعام تقريباً، وحتى بعد تشكيلها ظلّت وزارتا الدفاع والداخلية شاغرتين حتى الآن، وقد تم «اختراع» صيغة «المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية العليا» لترضية إياد علاوي، لكن هذه الصيغة سبّبت المزيد من التعقيد بدل التوافق، وظل طريق هذا المجلس غير سالك، لا من الناحية الدستورية، ولا من الناحية العملية، حيث لا موقع له في الدستور، ومن الناحية العملية لا يوجد منطق يبرر وجود «رئيس للرؤساء».
وقد فشل بايدن، الذي زار العراق لعدّة مرات عشية وبُعيد الانتخابات، وكان فشله ذريعاً في خلق الائتلاف العراقي المنشود، بل ازداد التباعد حدّ التناحر، لا سيما في ظل تدهور الوضع الأمني، والإعلان عن بدء الانسحاب الأميركي من العراق، إضافة الى ظهور مشكلة الأقاليم، خصوصاً بعد إعلان مجلس إقليم محافظة صلاح الدين عن رغبته في التحوّل إلى إقليم، وكذلك تلويح مجلس محافظة الأنبار، وقبل ذلك تصريحات رئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي عن تهميش السنّة، الذين قد يضطرّون إلى تشكيل إقليم مستقل إذا استمرت حالة الإقصاء والعزل.
المرتكز الثالث هو اضطرار واشنطن، حسبما يبدو، إلى سحب قواتها بالكامل من العراق، خصوصاً وقد فشل القادة الأميركان في الإبقاء على 20000 (عشرون ألف) جندي أو حتى 10000 (عشرة آلاف) في العراق، لأسباب أميركية داخلية، فقد كلّفت الحرب ما يزيد عن 4478 قتيلاً ونحو 30 (ثلاثون ألف) جريح، إضافة إلى نحو ثلاثة مليارات دولار حتى نهاية عام 2008، والأمر يتعلق بالانتخابات الرئاسية القادمة ورغبة الرئيس الأميركي أوباما في الترشّح لولاية ثانية، لا سيما أن موقفه كان مناوئاً للحرب على العراق، وكذلك يتعلق الأمر بضغط الرأي العام الأميركي والغربي عموماً، إضافة إلى الرأي العام العالمي، ناهيكم عن الأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربت الولايات المتحدة والعالم أجمع، ولا تزال مستمرة، خصوصاً بانهيار مصارف كبرى وشركات تأمين عملاقة.
وحتى الآن يبدو أن بقاء نحو 3000 (ثلاثة آلاف) جندي أميركي للتدريب والتأهيل مع طواقم السفارة وملحقاتها بحصانتهم القانونية بنحو 16 ألف غير قادر على أن يمثل وجوداً عسكرياً مؤثراً، وحسبما يبدو فإن واشنطن تحاول الاستعاضة عن وجودها العسكري الكثيف بقواعد عسكرية قريبة من العراق في دول الخليج، للتدخل العسكري عند الحاجة، وهكذا أخذت تفكّك القواعد والمقرّات والمواقع العسكرية وتسلّمها إلى الحكومة العراقية.
لعلّ رفض بقاء قوات أميركية شعبياً في العراق من جهة وعدم رغبة واشنطن في إبقائها مهددة من جهة ثانية، هي المرّة الأولى التي تحتل فيها واشنطن بلداً وتخرج منه من دون الحاجة إلى الإبقاء على قوات أو قواعد عسكرية، ففي ألمانيا لا زال هناك نحو 54000 جندي وفي اليابان نحو 40000 جندي، وفي كوريا لا يزال نحو 28500 جندي.
لم يصادف أن انسحبت واشنطن من بلد، الاّ مضطرة كما حصل في الفيتنام، وهي إذْ تضع اللمسات الأخيرة على انسحابها، تترك العراق في حالة غليان وفوضى لا تزال مستمرة، فنبرة الانقلاب العسكري والتنظيم البعثي عادت إلى الواجهة، وشملت الاتهامات بعض الأطراف المشاركة في العملية السياسية والحليفة في ما سمّي بحكومة الشراكة.
ولعل هذه الأطراف هي الأخرى تتهم من جانبها الكتل الأساسية، لا سيما المالكي وحزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى وجماعة السيد الصدر ومنظمة بدر وغيرها، بالانحياز إلى إيران وتسهيل مهمتها في العراق، وعاد الانقسام المذهبي والطائفي إلى الواجهة بعد مطالبات إقليم صلاح الدين بالفيدرالية، واستفحل العنف والارهاب مجدداً في الشارع، لا سيما استهداف الأكاديميين ومؤخراً شرطة المرور، ناهيكم عن كواتم الصوت التي أصبحت ظاهرة مخيفة في الفترة الأخيرة.
أما ما يسمى بـ«المناطق المتنازع عليها»، فقد ازدادت حدّة وحصل الأمر في خانقين مؤخراً برفع العلم الكردي ومطالبة الحكومة الاتحادية بإنزاله وازدياد العنف والتوتر في كركوك حيث لا يزال مصير المادة 140 من الدستور المرحّلة من المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، غامضاً، ولا أفق سريعاً في الحل، بل إن الوضع يزداد تعقيداً.
ومثلما فشل الرئيس بوش في إدارة مرحلة ما بعد الاحتلال، لا سيما باستخدام القوة الخشنة وزيادة عدد الجنود الذي وصل الى 170 الف جندي، فقد «خسرت» إدارة أوباما العراق، الذي لا يزال مفتوحاً لاحتمالات شتى، وهكذا بعد سنوات من الشراسة الفاشلة، بدت خطة أوباما باستخدام القوة الناعمة فاشلة أيضاً، وكلاهما لم يكونا «قوة ذكية» كما جرى تبريره.
وإذا كانت الولايات المتحدة ستترك العراق مضطرة، فإن تنظيم القاعدة لا يزال نشطاً ويمارس إرهاباً شنيعاً على الرغم من الضربات التي تعرّض لها وتقليص دائرة نفوذه، ولكن لا يمكن الحديث اليوم أن حملة مكافحة الارهاب التي أعلنتها واشنطن بعد أحداث أيلول (سبتمبر) الارهابية الإجرامية قد «نجحت» وأنه تم تنظيف العراق من آثارها السوداء. كما أن النفوذ الإيراني في العراق، العدو التقليدي في المنطقة لواشنطن، لا زال قوياً، بل إنه اتّسع وامتدّ إلى العمق العراقي، وبدت الوحدة الوطنية هشّة ومضعضعة، والاحتراب بين القوى السياسية تضاعف إلى حدود تنذر بالخطر، خصوصاً بارتفاع الدعوات إلى «الفيدرالية»، تلك هي التي تعارضها الحكومة.
أما تأمين عقود وتراخيص خاصة في موضوع النفط، وإصدار قانون النفط والغاز الذي ظلّ معلّقاً منذ عام 2007، فإنه لن يكون لوحده الثمن المجزي لواشنطن، وإنْ كان تعويضاً مناسباً لما خسرته في الحرب، لكن سياساتها في العراق والمنطقة باءت بالفشل، سواءً باستخدامها القوة الخشنة أو القوة الناعمة، ولكن في كلا الحالتين لم تكن سوى قوة غبيّة عاظمت من معاناة شعوب المنطقة، التي ظلّت محرومة من الحريات والحقوق الديموقراطية والعدالة الاجتماعية واستحقاقات التنمية الشاملة، الأمر الذي كانت فداحته غالية كثيراً، ولعل ذلك ليس سوى الصورة الأولى لمخلّفات الانسحاب الأميركي من العراق.

* جريدة السفير اللبنانية

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب