22 ديسمبر، 2024 10:10 م

الانسان قبل العمران

الانسان قبل العمران

يعد دراسة الوجود البشري وفق معطيات الحاضر امراً شائكاً، لاسيما في خضم التحولات والتغييرات التي تحصل ليس على المستوى العقلي والفكري والذهني فحسب انما النتائج الحتمية لتلك المتغيرات والتي تشمل اغلب المجالات والاصعدة دون استثناء، ولكون الانسان كان ولم يزل المحور الاساس الذي يقوم عليه اية نهضة واي تقدم، فانه بات الان وبنظر الكثيرين مهدداً بفقد اولويته ضمن الاولويات السياسية للحكومات العاملة لاسيما في شرقنا الاوسط، حيث اصبح مصير الانسان مرهوناً بالانتماء ليس المذهبي والديني والقومي فحسب بل الحزبي ايضاً، وسياسة التحزب في الشرق بالذات وفي غالبية دول العام امر ليس بجديد، ولكن السائد في المجتمعات المتعالية على النزعة الدونية للانسان نفسه، يمثل الانسان القيمة والحدث الاساس الذي تتحرك وفق مصلحته الاحزاب السياسية وغيرها، والغريب ان الشعاراتية في الشرق وجميع الدول الشرق اوسطية تمثل الواجهة الاساسية لنمطية التحزب لديها، وهي في جوهرها لاتخدم سوى فئوية قليلة على حساب الانسان العام، وبذلك تتخذ من الشعارات البراقة التي تظهر مدى اهتماما بالانسان اولاً، قيمة فعلية لحركتها المضمرة الساعية لفرض هيمنتها الحزبية الفئوية الناقمة على الاخرين ممن حولها ومنافسيها، فضلاً عن ذلك فانها تلبس رداء الدين وتظهر نفسها على انها ظل الله على الارض فتستند في اقوالها على المخلفات الدينية التي يمكنها ان تحرك وتهز النفوس في الشرق العام.
وفق المنظومة الدينية تقول د. سنا الحاج :” الانسان هو الاقرب الى الله من الطبيعة، وهو الاشرف والافضل والاسمى كذلك من سائر الموجودات الاخرى، قادر على ان يعمر هذا الكون ويجعل منه وجوداً متميزاً ، والانسان ايضا شخص فريد ، لايتكرر ولايمكن تبديله بغيره، وهو حر، وقادر على ان يتخذ موقفاً من تلقاء ذاته ويقرر بنفسه ما يريد ان يكون وجوده، كما وتدعوه بان يلبي نداء الله لأن يكون الانسان انساناً “، وبذلك تتضح الرؤية الدينية للانسان وفق التشريع الاصل الاساسي، ولكن الغريب ان الواقع لايثبت اي من ذلك نهائياً بالعكس تماما فهولاء الذين يرفعون شعار الانسان هو المحور الاساس في كل عملية سياسية او اقتصادية او اجتماعية، ينقلبون على انفسهم، ويسخرون الانسان لتحقيق مصالحهم الفئوية المذلة للانسان نفسه، وبذلك تتضارب وتتصاعد وتيرة التصادم بين المقولات والشعارات التي تطلقها تلك الجهات السياسية وحتى المنظمات المدنية، مع الواقع الحقيقي الذي يعيشه الانسان.
يقول محمد محفوظ : “ان الانسان يتحرك في الحياة من خلال افكاره، وحركة الافكار هي التي تمثل حركة الحياة، لأن حركة الحياة هي صورة ما نفكر به، لذلك كله فان التغيير على مستوى الطبائع والافكار والقناعات، هو قاعدة التغيير الاجتماعي والسياسي، فقضايا الاجتماع الانساني لاتتغير وتتحول الا بشرط التحول الداخلي الذاتي النفسي…” ويضيف في السياق ذاته ان الاختلافات العقدية والسياسية بين بني الانسان ليست مدعاة ومبررا لانتهاك حقوقه او التعدي على كرامته، بل هي مدعاة للحوار والتواصل وتنظيم الاختلافات وضبطها تحت سقف كرامة الانسان وصون حقوقه، ولكن الواقع يثبت عكس ذلك تماما، فالانسان حتى في افكاره اصبح مضطهداً غير قادر على الانتاج خارج اطار الحزبية الفئوية، وان كان بمقدوره التحرر منها فانه يبقى اسيراً للتحولات التي تسيطر على نمط حياته ومعيشته، وبذلك لايجد نفسه الا وهو ينحني للواقع المُرّ الذي لاتوجد بدائل منطقية له، وهو بذلك خاضع للنمط السائد اجتماعياً داخل منظومة المجتمع نفسه، حتى وان بدا انه قادر على توظيف امكانياته لخدمة الانسان نفسه، ولكن دون جدوى فالقوانين تحتم عليه الخضوع للسائد، والمسيطر والغالب، يقول عبدالحق حريولي:” لئن كان الانسان يشترك مع الحيوان في الغرائز والحاجات الطبيعية فانه ينفرد عنه بكونه قادراً أو مرغماً في بعض الاحيان، على ضبط تلك الغرائز وتوجيهها بما يتوافق مع اعراف وتقاليد المجتمع الذي يعيش فيه، فالانسان يولد وينمو ويتفاعل وينضبط داخل نسق مجتمعي ذي قيم وقوانين ينبغي احترامها او التقيد بها” ، والانقياد يحتم عليه محاولة التوافق بين حاجاته الاساسية ووجوده الفعلي وبين المتطلبات الخارجية التي تفرضها المنصات الحزبية والسياسية عليه، وحينئذ يفقد الكثير من امكانياته الانتاجية، ومن يتمعن في التفسيرات والتعريفات الفلسفية للانسان سيدرك مدى الامكانيات التي يمتلكها، فالانسان كما يقول سينيكا ” كائن مقدس بالنسبة للانسان “، وانه كان منذ بداية حركة العقل الانساني والفلسفة البشرية محط اهتمام الانسان نفسه، فمع كونه حيوان سياسي ناطق كما وصفه ارسطو، او كونه حيوان عاقل كما اعتقد الرواقيون ثم السكولائيون، وانه كائن يفكر كما اكده ديكارت واضاف كانط على كونه يقرر ايضاً، ثم جاء ماركس ليعيد تشكيل ملامح الانسان باعتباره عاملاً، اما برغسون فاعتبره مبدعاً، فانه على الرغم من كل تلك التصنيفات التي يمتلكها الانسان كان مازال رهين الواقع المعاشي الذي يعيشه في شرقنا المنغمس في العدمية الابداعية، وكما يقول هوبز:” ان المجتمع الطبيعي هو مجتمع يسوده الفوضى والصراعات، بالتالي فالانسان كان ذئباً لأخيه الانسان، ورغبة من الافراد للخروج من هذه الحالة، ابقاء على انفسهم وحفاظاً على مصالحهم وجدوا أن السبيل لذلك هو الاتفاق فيما بينهم..”، فان مجتمعاتنا ترفض الخضوع لمنطق الاتفاق وتبقي على الصراع وفق منطق الذئبية الناقمة من الاخرين والحاقدة على اللامنتمين لحزبه السياسي الديني المذهبي الطائفي وحتى الفكري، وبذلك لانجد في المنظومات النهضوية التطورية ما يلائم قيمة الانسان كموجود فعال وحيوي، الامر الذي دفع باحدهم لكي يقول : “انه لاقيمة ولااحترام ولا مصداقية لاي نظام سياسي لايجعل الانسان اولاً محور ادائه، ومناط سعيه، ومقياس علاقته مع الناس او الشعب ومعيار نجاحه وبقائه، فالانسان هو المضمون الاعظم لكل نظام سياسي يحكم الناس، ويدير شؤونهم..”، (زين العابدين الركابي)، وبذلك فاننا اذا وقفنا على الوقائع سنجد بانه بالفعل لاتوجد انظمة سياسية فعلية تعطي للانسان تلك القيمة وتلك الاولوية التي تسمح له بان يكون الهدف الاسمى لاية عملية تنموية او نهضوية او تطورية اي لنقل بلغة الحاضر لاية صفقة سياسية اقتصادية، وذلك ما يحتم النظر الى الانسان حدثاً وقيمة معاً كما يقول حسن بيقي: ” ومع كل هذه التعريفات للانسان، فانه لابد من ايجاد نسق شمولي مغاير للتجمعات الحيوانية التي قد تتصف بالكثير من تلك الصفات التي ذكرها اغلب هولاء الفلاسفة، لذا لابد من اعتبار الانسان حدثاً قبل ان تكون قيمة، نوعاً قبل ان تصير فضيلة، اذا استطاعت الانسانية ان تغدو قيمة او فضيلة بالمعنى الذي تكون فيه الانسانية نقيض اللاانسانية..” ، فالانسان ليس امبراطورية داخل امبراطورية بتعبير سبينوزا، لكونه ينتمي الى الطبيعة ويتماشى وفق مقتضى نظامها، حتى عندما يبدو خرقاً وزعزعة له، وينتمي الى التاريخ سواء أكان صانعاً له أم صنيعته، وينتمي الى مجتمع ، والى عصر معين، والى حضارة معينة.
كل تلك المؤشرات تفضي بالنهاية الى خلق انموذج شرقي يمكنه ان يتبنى الانسان كحدث وقيمة عليا ووفق تلك الرؤية يضع اللبنة الاولى لبناء اساس متين للاولوية الوجودية الانسانية، ولقد جذبني التجربة التي اطلقتها دولة الامارات المتحدة تحت شعار الانسان قبل العمران، في عام 1971 والتي من خلالها يمكن الوقوف على الرؤية الانسانية لكون الانسان كائن مقدس، حيث مع العمل المضني للتنمية والنهضة الشاملة شكل المواطن الاماراتي ركيزة اساسية واولوية تامة وهدف رئيسي ضمن منظومة التطوير المستمرة، ولقد اثبتت الامارات ان توفير الرخاء والرفاهية والعيش الكريم للمواطنين هو الاساس الذي قد يقوم عليه اية نهضة، فالانسان كان بنظرهم هو اساس اية عملية حضارية، واهتمامهم بالانسان كعقيدة ورؤية تنموية كان بنظرهم ضرورياً باعتبار ان الانسان محور كل تقدم حقيقي مستمر ، ولقد اكد مؤسس دولة الامارات ذلك حين ذكر بأنه مهما اقمنا من مبان ومنشآت ومدارس ومستشفيات ومددنا من جسور واقمنا من زينات، فان ذلك كله يظل كياناً مادياً لاروح فيه وغير قادر على الاستمرار، وان روح كل ذلك الانسان القادر بفكره.. القادر بفنه وامكانياته على صيانة كل هذه المنشاآت والتقدم بها والنمو معها، فالانسان كان وسيبقى هو الثروة الحقيقية للامم وهو اساس نهضة الدول، لذا لايمكن الاخذ بالعمران وهو الجزء المادي فقط على انه تطور وتقدم وبناء ونهضة، اذا لم يسبقه تعليم نوعي عالي المستوى، وخدمات راقية وسكن ملائم وتأمين صحي شامل وبيئة مستدامة ومؤسسات تقيم العدل وتوفر الامن ونظم تنمي اصول المجتمع وتزيد من طاقاته وتحسن جودة مخرجاته وممارسات تصون الهوية وتعلي من شأن التعليم الفني والمهني وتعطي المعرفة دورها الحقيقي في المجتمع.. وبغض النظر عن مدى نجاح سياسة الاماراتيين من تحقيق ذلك الهدف الاسمى والمنشود باعتلاء الانسان القمة الوجودية لاي فعل وعمل للدولة فانها كوجهة نظر تعد وثيقة انسانية الانسان في المجتمعات الشرقية والتي لابد من اللجوء الى بنودها لوضع حد للحالة الفوضوية التي تعيشها المنطقة ككل، ولوضع حد للاستنزاف البشري المستمر من خلال الصراعات والحروب بين الفئات والاحزاب والطوائف بصورة عامة، والتي لاتملك سوى التباهي بالمنجزات العمرانية والطرق والجسور على اعتبار انها منصات تطورية نهضوية تقدمها الدولة للشعب، في حين ان الشعب نفسه لايجد قوته اليومي ولايجد لنفسه منظومة حياتية مستقرة ثابتة ومستمرة، العقول الاسمنتية التي تتحكم بمصادر القوت الشعبي لاتعلم ولاتدرك ان الانسان كحدث وقيمة ، كرامته تحتم عليه ان يوفر ابسط مستلزمات المعيشة لاهله قبل ان يتباهى ام الخلق بانه ينتمي الى دولة او مدينة فيها نطاحات سحاب، وذلك ما يستدعي التأسف على حكومات تتباهى بالعمران، وفتح الطرق ومد الجسور وبناء الفنادق والمرافق الترفيهية الاقتصادية الجالبة لهم بالاموال، والانسان الذي هو مسؤولية تلك الحكومات ينتظر اعلان الحكومة قائمة الرواتب مثلاً، كي يتنفس الصعداء مؤقتاً قبل ان يدخل معمعة الصراع الحياتي اليومي مرة اخرى لتأخر او استقطاع تلك الرواتب.
وكما يقول حسن بيقي: ” انها إذن انسانية بلا اوهام ومرفأ حمائي، الانسان ليس ميتا : لا كنوع ، ولا كفكرة، ولا كمثال، بيد انه كائن فان، ولأنه كذلك ، فهذا سبب اضافي يسلتزم منا الدفاع عنه..” .