23 ديسمبر، 2024 10:38 ص

الانسانية: هي النبع الإنساني الصافي، هي القاسم المشترك بين بني الإنسان

الانسانية: هي النبع الإنساني الصافي، هي القاسم المشترك بين بني الإنسان

فالإنسانية هي الوجدان ، هي المشاعر ، النوازع الداخلية التي تدفعك كإنسان إلى مساعدةِ الآخر، المظلوم، المحتاج، الجائع، المريض، المضطهد، الضعيف، الخائف … لتأخذ بيده إلى برِّ الأمان !! الإنسانية هي النبع الإنساني الصافي، هي القاسم المشترك بين بني الإنسان، وهي أشملُ رباطٍ بين كائناتٍ عاقلةٍ على هذه الأرض

الإنسانية-قد نشأت الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر نتاج رغبة في تقديم المساعدة للجرحى في ميدان المعركة بدون تمييز، والحيلولة دون وقع أي مآسي إنسانية في أي مكان طبقاً للقدرات الدولية والوطنية للحركة. إن الهدف منها هو حماية الأرواح والصحة لضمان احترام الإنسان. إنها تشجع وتعزز التفاهم والصداقة والتعاون المتبادل، والسلام الدائم بين الشعوب كلها

عدم التحيز-أنها تتعامل بدون تمييز أو تفرقة بسبب الجنسية، أو العرق، أو المعتقدات الدينية، أو الآراء السياسية. وتحاول أن تغيث الأفراد المنكوبين، مُنقادة بدافع حاجات الأفراد فقط، مع إعطاء الأولوية لأكثر الحالات تضرراً

الحياد-في سبيل التمتع بثقة الجميع، كان وجباً على الحركة أن لا تدعم أحد الأطراف في النزعات، أو التورط في جدال سياسي، أو عرقي، أو ديني، أو أيديولوجي في أي وقت كان

الاستقلال-تتمتع الحركة بالاستقلالية. ففي الوقت الذي تتبع فيه الجمعيات الوطنية أجهزة الخدمات الإنسانية لحكوماتها وتخضع لقوانين دولها الموقرة، كان لازماً عليها أن تحافظ على استقلالها بحيث تكون قادرة على التحرك وفقاً لمبادئ الحركة في كل وقت.

الخدمة التطوعية-إنها حركة إغاثة تطوعية، لم تقم أبداً بدافع المكسب

الوحدة-يجب وجود جمعية واحدة فقط للصليب الأحمر أو الهلال الأحمر في الدولة. ويجب أن تكون مفتوحة للجميع. ويجب أن تقوم بالأعمال الإنسانية في منطقتها

العالمية-إن الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، والتي تتمتع فيها كل الجمعيات بالمساواة وتشترك في المسؤولية والواجبات، هي حركة عالمية.

إن مفهوم الإنسانية هو من أكثر المفاهيم التي يجمع عليها الناس على اختلاف آرائهم وأديانهم ومعتقداتهم .ـ

ففي الواقع البشري على مستوى الكوكب بأسره ، فإن أيّ دين من الأديان لا يحظى بتأييد جميع البشر . فنرى أن لأي دين من الأديان فريقاً من الناس يؤمنون به دون أن يؤمن به فريق آخر . وقد يؤمن فريق من البشر بالله وقد لا يؤمن به فريق آخر .ـ أما الموقف الإيجابي من كلمة ” الإنسانية ” فيجمع عليه جميع المؤمنين في جميع الديانات على اختلافها وتنوّعها ، ويجمع عليها المؤمنون وغير المؤمنين كذلك . فهي كلمة تتجاوز إنتماءات الناس لأي دين من الأديان ولأي وطن من الأوطان ولأية قومية من القوميات وتجمع المليارات من البشر على اختلاف انتماءاتهم ومعتقداتهم وثقافاتهم على كلمة الإنسانية . بل إن الحماس لهذه الكلمة يدفع الكثير من المؤمنين إلى التصريح بأنه أديانهم إنسانية ، بالرغم مما في هذا الكلام من تعارض مع الطابع الإلهي للأديان . وإن الإجماع على هذه الكلمة من قبل مختلف احتمالات الإنسان يجعلها نقطة التقاء توحد بين المؤمن وغير المؤمن وبين المتديّن وغير المتديّن وبين الناس من مختلف المجتمعات والبلدان في مختلف المذاهب والطوائف والمجموعات و المجتمعات والبلدان والقارات وتتوافق عليها الدول والأمم والمنظمات العالمية والهيئات الدولية .ـفمن هو الذي يرفض ان يكون إنسانيّاً ؟ ومن هو الشخص المؤمن الذي يسمع بكلمة الإنسانية ولا يعتبر أن دينه إنسانيّا؟ ولا يعتبر نبيّه إنسانيّاً ؟ بل إنه حتى أكثر الناس أنانية وجهلاّ بمعاني الإنسانية فهم لا يقبلون إلاّ بوصف أنفسهم بأنهم إنسانيون !ـ وفي العالم العربي فإن كلمة إنسانية هي واحدة من أكثر الكلمات قبولاً واحتراماً واقتراباً من كل إنسان . وإن كان الكثير من الناس يعجز عن الإجابة على الكثير من الأسئلة حول إعطاء تعريفات للكثير من المفاهيم ، إلاّ أنه من الصعب أن نجد إنساناً ليس لديه تعريف لكلمة الإنسانية ولو أنه تعريف ارتجالي وعشوائي ، لكل إنسان من خلال تجربته الشخصية . ما يجعل هذه الكلمة الاكثر إجماعاً بين مختلف الناس في مختلف المجتمعات في العالم بأسره على الإطلاق . ـ ومع ذلك فإنها الأكثر اختلافاً وتنوّعاً في فهم الناس لها حيث يفسرها كل واحد من الناس بحسب رأيه الشخصي الذي قد يقترب أو يبتعد عن حقيقة الإنسانية وأبعادها النظرية وتطبيقاتها العملية .ـ وكثيراً ما يعتقد الناس أنهم يتفقون على معنى واحد لمفهوم ” الإنسانية ” . بينما لو سألنا مجموعة من الأشخاص لوجدنا أن لكل منهم تفسيراً مختلفاً لهذا المفهوم الذي يعتبر أكثر المفاهيم قبولاً من خلال مليارات الناس حول العالم ، بالرغم من تفاوت الفهم في معناه وفي مفاعيل الإلتزام به. ـفأحياناً يستخدم الناس كلمة الإنسانية على أنها صفة النسبة للإسم إنسان ، مثل لبنان لبناني ، عرب عربي ، صيف صيفي وأوروبا أوروبي . وكذلك تتردد كلمة إنسانية بمعنى الآدمية أي مجموعة الصفات المشتركة بين أفراد النوع البشري . وكذلك تأتي كلمة إنسانية في بعض التفسيرات على أنها الخصال الإيجابية للشخص تجاه شخص آخر أو تجاه حيوان معيّن في موقف عاطفي معيّن ، وأحياناً يكون المقصود بالإنسانية معنى البشرية ، أي جميع البشر . وإن جميع هذه الإستخدامات لكلمة إنسانية هي استخدامات خاطئة تدل على انعدام الفهم الإنساني للأبعاد الجوهرية لكلمة إنسانية .

وكذلك توصف بهذه الصفة بعض الأعمال الإيجابية أو المواقف العاطفية والمشاعر الرومانسية وكذلك توصف بالإنسانية ، المؤسسات التي تقوم بتقديم المساعدات للمحتاجين ولضحايا الحروب وتوصف معها المساعدات بأنها مساعدات إنسانية ، مع أن الكثير من هذه المؤسسات تكون تابعة للدول التي تشعل الحروب وتدمر البلدان وتتسبب بالخراب والموت والتهجير لملايين البشر ، وتستخدم هذه المساعدات للتحكم بانتشار الذين يبقون على قيد الحياة لاستغلال مآسيهم والسيطرة عليهم من خلال هذه المساعدات والتي تتعرّض للسرقات من قبل العاملين على إدارة توزيعها والذين يصبحون من كبار الأغنياء على حساب ضحايا الجرائم البشرية الوحشية التي تغطّى بالأعمال التي يقال عنها إنسانية ، والتي يصدّقها وينخدع بها من لا يعرفون حقيقة الشروط والمعايير الإنسانية لأي عمل إنساني .
حتى إن جهل بعض الناس بمعنى الإنسانية وبمعاييرها التي بها نقيّم العمل الإنساني والتصرفات والأخلاقيات الإنسانية ، يصل بهم إلى وصف بعض السلوكيات الحيوانية التي تعجبهم وتبدو لهم ذات طابع إيجابي ، بأنها أعمال إنسانية ! بل وقد يصل الجهل الإنساني بالبعض بوصف الحيوانات أفضل من الإنسان للتعبير عن إحباطهم من الأعمال الوحشية التي يرتكبها بعض البشر من الأنانيين والمضللين ، دون لأنهم لا يعرفون أن الإنسان قد يتحوّل إلى اخطر من الوحوش المفترسة عندما لا يكون عنده الوعي الإنساني والتربية الإنسانية والشخصية الإنسانية ومقوماتها التربوية والمعرفية والثقافية والأخلاقية المبنية على رؤية إنسانية فلسفية

ومما يعيق مسألة البحث عن رؤية إنسانية مشتركة ويمنع التوافق على معنى مشترك لمفهوم الإنسانية لتحقيق الإجماع والتوافق المشترك بين العقول العربية ، هو أن الناس في الشرق يعتقدون أن الفلسفة الإنسانية ظهرت في الغرب . وهم بهذا الإعتقاد فإنهم يخلطون بين تقدم الأنظمة السياسية في إدارة المجتمعات الغربية وبين الإنسانية ويعتقدون أن تلك المجتمعات هي مجتمعات إنسانية لأنها حققت للإنسان فيها ما لم تحققه المجتمعات العربية ، وهو اعتقاد خاطئ تدعمه وتبرّره الترجمة الخاطئة لكلمة هومانسيم في اللغات الغربية . فإن كلمة إنسانية ترادف ال لكلمة هومانيسم من اللغة اللاتينية إلى اللغة العربية بكلمة إنسانية بالرّغم من الفارق الكبير في المعنى بين كل من الكلمتين .ـ
ولو نظرنا إلى معنى كل من الكلمتين ، هومانيسم وإنسانية ، لوجدنا أن كل كلمة تختلف كليّاً في معناها عن الكلمة الأخرى ، وأن كل كلمة منهما تتجه في اتجاهين متعاكسين . فإن كلمة هومانيسم هي نسبة إلى هومو الكائن البشري المتحدّر من سلسلة أنواع من القرود . وقد أدّى هذا التسلسل التطوّري بحسب العلماء الذين توصلوا إلى هذه النتائج ، إلى وجود مفهو الهومو والهوم ، بديلا عن مفهوم آدم الذي يشير إلى الخق الفجائي للكائن البشري على صورته الحالية منذ بداية وجوده .

أما الإنسان فهو الكائن البشري الإجتماعي الذي يأتس بالآخرين ويأنسون به ، وهو توصيف أخلاقي اجتماعي للعلاقة بين البشر من خلال المؤهلات التربوية والأخلاقية لكل منهم ـ

فعندما نتكلم عن الهومانسيم فنحن نتكلم عن الميزة الخاصة بالهومو وهو انتصاب القامة والمشي على الأرجل وا ستخدام العقل لصناعة الأدوات ، بينما الإنسانية هي العلاقة الإيجابية السلمية والوديّة بين الإنسان والإنسان الآخر .

وسوف أقوم بمقارنة مختصرة على أساس الجذر اللغوي والمعنى المباشر لكل من الكلمتين .
هومانيسم ، مصدرها كلمة هومو ، أو هيومن . وهي اختصار للمراحل التطورية التي مرّ بها الكائن الحي الذي أصبح كائنا بشريّاً . بخلاف ما تمت تسميته الدينية بآدم ومعناه أنه الإنسان الأول ” أدم ” ظهر بفعل إلهي وخلقه على ما هو عليه يدون أية مقدمات تطورية سابقة .

مرّ بها النوع البشري ، بناء على نظرية التطور من أحد الأنواع الدنيا للمخلوقات إلى أن وصل إلى الإنسان الحالي ، الذي يتّصف بالعقل وبانتصاب القامة .ـ
وفي حين تعني كلمة هومانيسم بالمقومات الآدميّة للكائن البشري بمعناها الفردي الأناني للإنسان وانغلاق كل إنسان على ذاته الفردية في كيانه الشخصي فإن كلمة إنسانية تعني التعامل الإيجابي مع الإنسان الآخر على أساس التماثل الجوهري بين البشر بحيث أن كل إنسان ما ، هو الأنا الآخر لأيّ إنسان آخر .

وإن نظرة الهومانيسم للإنسان ككيان فردي ، كما لو أنه جهاز كومبيوتر مفصول عن الشبكة . وتدعو الهومانيسم إلى الاهتمام بهذا الجهاز وتنظيفه ووضعه في صندوقه لكي يبقى بعيدا عن الغبار والعبث به لكي يبقى سليما ليقوم بوظائفه في إطار الخدمة الشخصية ومعالجة الملفات الشخصية لمن يستخدمه دون أن يتواصل أو يتداخل مع أي جهاز كومبيوتر آخر من خلال شبكة تواصل . فتكون أيّة مجموعة بشرية عائلية أو إجتماعية أو مهنية ، عبارة عن مجموعة أفراد أنانيين تجمعهم قواسم شمتركة أنانية سرعان ما يلغيها أيّ خلل في موازين القوى بين أطرافها ليسيطر القوي على الضعيف والغتي على الفقير ، وبهذه الحال تكون البشرية مجموعة مجتمعات لمجموعات فردية أنانية منفصلة متباعدة كل ينعزل في دائرة شؤونه الأنانية الخاصة دون أية علاقة توصله بالآخر إلاّ أسبابه المنفعية وأهدافه الأنانية . وهكذا هو الإنسان في الفهم الهومانيستي للفردية البشرية على أنه الاهتمام بالإنسان وحقوقه الفردية وكيانه الفردي وحريته الفردية دون أن يتعامل مع أحد ولا أن يتدخّل بأحد ولا يتعامل معه أو يتدخّل به أحد ، إلاّ من أجل مصلحة أو منفعة شخصيّة أو بسبب الحاجة . ـ
و لو بحث أحدٌ في الغوغل عن كلمة هومانيسم ومشتقاتها بالعربي ، لوجد كيف أنها تترادف مع كلمة إنسانية بطريقة مفتعلة وغير منطقيّة من جهة الذين كتبوا ترجمتها العربية ، وأما لو بحثت عنها في اللغة الأجنبية لوجدت أن الهومانيست هو الذي يبحث في الفكر اليوناني !

ولولا أن المترجم العربي لم يضع كلمة إنسانية مقابل كلمة هومانيسم لما حصلت هذه الإشكالية الخاطئة حول معنى كلمة الإنسانية وهي كلمة عربية الجذور والاشتقاق ولا علم لأي فيلسوف إغريقي أو أوروبي بها لا قديما ولا حديثاً . وما كان يقصده الغربيون من كلمة هومانيسم هو معنى الآدمية الفردية للكائن البشري ، بينما المترجمون العرب قابلوا كلمة هومانيسم بكلمة إنسانية ، وحوّلوها من تعبير يعني الطابع البشري العام للإنسان وجعلوه يتعلّق بالجوهر الإنساني الذي لا يمكن أن يصل إليه أيّ إنسان لمجرّد أنه إنسان . فليس كل كاين بشري إنسانيّ ، وإنما الإنساني هو الذي يعبّر عن جوهره الإنساني في أفكاره وفي أقواله وفي أعماله بممارسة وعيه الإنساني في سلوكه وتصرفاته في علاقاته الإنسانية ، وإن في ذلك دلالة على جهل خطير بمعنى الإنسانية في اللغة العربية ووضعه بطريقة عشوائية مقابل تعبير لاتيني له معنى آخر . وفي الخلاصة فإن الهومانسيم مفهوم يهتم يمقومات الإنسان ككائن بشري فردي أناني ، وأما الإنسانية فإنّها تهتم بقضية العلاقة بين الإنسان والإنسان . وهذه النزعة الهومانيستية اعتبرها بعض المترجمين العرب إنسانية بسبب ما فيها من دعوة لتحرير الإنسان من تبعيّته للمرجعيات الدينية والوثنية في المجتمع اليوناني القديم ، والتي عادت وظهرت في أوروبا لمعارضة النظام الكنسي الاستبدادي في القرون الوسطى .

ففي ذلك الوقت كانت سلطات الكنيسة تدعي تمثيل إرادة الله على الأرض وتفرض حكما سياسيّاً جائرا أدت إلى قيام حركات فكرية معارضة للفكر الغيبي اللاهوتي ، وأحيت الفكر اليوناني القديم ، فسمّيت تلك المرحلة التي بدأت من بدايات القرن السادس عشر بعصر النهضة . ولقد كانت النزعة الفكرية التي وقفت في وجه السلطات الدينية الوثنية في المجتمع الاغريقي القديم ، ترى أن مرجعية كل إنسان هي في عقله الشخصي وفي حريته الشخصية وأن حريته في أن يختار معتقداته بحسب مقاييسه الشخصية التي يمليها عليه عقله الشخصي بملء إرادته الحرة وبحسب مصالحه الفردية والانانية ، وتنظر إلى الإنسان على أنه كائن مفرد مستقل وليس كائنا دينيّاً يذوب في جماعة دينية وفي نظام ديني يصادر حقه في التفكير وحريته في اتخاذ القرار بحسب حريته الشخصية . ـومع ما في تلك النزعة التي ظهرت في نهايات القرن السادس عشر ، من أهمية كبيرة في تحرير الإنسان الغربي من الإستبداد السياسي المقنّع بالمبررات الغيبية والإدعاءات الخادعة من قبل فريق من السياسيين بامتلاك سلطة الله على البشر بمبررات دينية ، إلاّ أن ذلك لم يتجاوز حدود فردية الإنسان وأنانيته الفردية إلى أي شكل من أشكال العلاقات بين إنسان وبين إنسان آخر ، إلاّ على أساس ما يراه كل إنسان على أنه يحقق مصالحه الخاصّة ، بناء على تفكيره الشخصي الأناني الذي يتوجّه بحسب ما يقتضيه تحقيق مصالحه وأطماعه الأنانية .
بالإضافة إلى ذلك فإن ما يُنسب إلى الفكر الغربي من إنسانية من قبل المترجمين والمثقفين العرب لم يصل إلى مستوى فلسفة إنسانية وإنما يقال عنه نزعة إنسانية . مع أن لا علاقة لتلك النزعة بما سوف نراه من فهم دقيق ومحدّد لكلمة الإنسانية بحسب جذورها اللغوية العربية واشتقاتها ومفاعيلها العملية . ومع أنه لم يسبق لأي مفكر أو كاتب أو فيلسوف غربي أن ذكر شيئاً عن مقولة الأنا والأنا الآخر وما تعنيه من ترابط روحي إنساني بين جميع مكونات الأسرة البشرية فوق الكوكب بكامله من مجتمعات وبلدان وشعوب وأمم على المساواة المطلقة بين كل إنسان وإنسان آخر على أساس القيمة الإنسانية والكرامة الإنسانية والحقوق الإنسانية ، وبتبادل المحبة والإحترام والتوافق على الحق بين العقول وفي سبيل الخير المشترك للجميع .
وبعكس الرؤية الإنسانية التي أدعو إليها بناء على الفهم العربي لكلمة الإنسانية ، فإن تلك النزعة الهومانيستيّة ، والتي أعترض بكل شدّة على ترجمتها بمعنى الإنسانية ، تنظر إلى الإنسان على أنه كيان فردي منفصل عن أية علاقة أخلاقية مع الآخرين، و يتصرف كما يريد ويفكر كما يريد وبحسب ما يقرره بعقله البشري بحسب مصالحه الشخصية وبحسب مزاجه الفردي ، والذي في كثير من الأحيان يكون عقلاً مدفوع الأجر مقابل المنفعة أيضاً ، وخاصة في وقت كانت فيه البيئة المعرفية خالية من معارف علمية مؤكدة تشكل مرجعية موثوقة بها في التفكير وفي اتخاذ القرار ، في بيئة يعمها الجهل والأنانية ، وفي غياب منطق علمي يوحد بين عقول الناس حول مسلّمات علمية وبديهيات منطقية توحّد العقول من أجل التعاون المشترك في سبيل المصلحة المشتركة على أسس منطق علمي يحقق الإقناع والإقتناع والتوافق بين العقول ، كما هو متوفّر في هذا العصر .
و لقد ظهرت تلك الدعوة في ظل انهيار خطير للقيم الدينية في ذلك الوقت الذي شهدت فيه المجتمعات الغربية حروباً ومجازر دموية وصراعات مسلحة بين أتباع المذاهب الدينية ، حيث تسبب ذلك في فقدان الثقة بين الناس وبين المرجعيات الدينية التي كشفت عن مؤامراتها السياسية وعن الأطماع المنفعيّة والدنيوية لأفرادها من رجال الدين لم يكونوا إلاّ رجال سياسة وتجارة وتخزين أموال وتكديس الكنوز من الذهب بإسم الله ودينه وعلى حساب الإنسان وكرامته وحقوقه حرياته .ـ فلقد كانت أشكال العلاقات بين الناس في ظل النزعة الفردية ، قائمة على حسب المصالح التي تجمع فريقاً ضد اي فريق آخر تحت لواء سلطة الملك أو الإقطاعي أو الأمير ، وحيث كان كل منهم يمتلك الحشود من الأتباع والمؤيدين الذين يعملون عند هذا الحاكم السياسي أو ذاك ، أو يحاربون معه مقابل الحوافز المالية والمادية لتحقيق المنافع والأطماع الشخصية ، بناء على المقولة المعروفة للهومانيست والتي هي تحقيق الذات .
أي يتصارع ويتنافس كل إنسان بما لديه من تحايل ومهارات أخرى لتأمين احتياجاته الحياتية في حياة هي أشبه بساحة سباق ويسبق من يتغلّب على الآخرين بأية وسيلة تجعله يحصل على المال أو على النفوذ أو على رضا ذوي السلطة
وبسبب هذه العقلية الفردية الأنانية المتحررة من أي مرجع سماوي ومن أية ضوابط إنسانية مع الآخرين ، فقد عاشت المجتمعات الغربية في حالة غليان على بركان من الصراعات الأنانية الدامية والحروب بين كياناتها المختلفة ، انتهت إلى موجات هجرات جماعية إلى قارات العالم المختلفة ، حملت نزعتها الهومانيسمية الفردية ونشرتها بالقتل والإبادة و أدت إلى محو شعوب وحضارات بأكملها في القارات التي احتلتها ، وإلى نشوء كيانات سياسية إقتصادية ، زرعت العقلية المنفعيّة والأنانية وقيم التنافس الأناني والصراع على الخيرات المادية للآخرين ، إلى أن وصلت في أوج ذروتها الأنانية المتوحشة إلى إشعال حروب عالمية واحتلال علني للدول والسيطرة المبرمجة والدائمة للشعوب ما زالنا نعاني منها إلى هذا اليوم نحن أبناء المجتمعات التي تعيش في المنطقة التي منها خرجت أول الديانات التي اعتبرت الإنسان محور الوجود ، والتي أنتجت أول المقولات والمفاهيم والقيم الإنسانية في التاريخ البشري من خلال الرسالات النبوية التي جاء بها الأنبياء أوائل الإنسانيين من خلال الديانات السماوية على مدى عدة آلاف من السنين في منهج إنساني متكامل ساروا عليه ونشروه بين شعوبهم وأقوامهم و أنتجوا الأسس الأولية للحضارة التي نعيشها اليوم ونشروا القيم الأخلاقية للعلاقات الإيجابية على المثل العليا من المحبة والحق والخير والتعاون ومقاومة الظلم والباطل وتأييد المظلوم والدفاع عن الحق ، والتي تعتبر أهم ما تتميّز به شعوب الشرق الأوسط عن سائر شعوب العالم . ـ
بينما كلمة إنسانية هي كلمة عربية ولها اشتقاق عربي لا علم لأي كاتب أو مفكر غربي به وبجذوره اللغوية المتسلسلة في اشتقاقاتها ، ولا يعرف بها أي إنسان غربي من جميع الذين تُنسب إليهم مقولات أو مفاهيم أقصى ما قيل عنها أنها نزعة إنسانية ، حيث لا يوجد في الفلسفة الغربية أي أثر لما يتوهّمه بعض المثقفين العرب من فلسفة إنسانية لدى بعض الفلاسفة الغربيين .ـ أما في اللغة العربية فإن كلمة إنسانية مشتقّة من كلمة إنسان . وكلمة إنسان تعني الكائن المتميّز بالأنس ، أي الكائن الإجتماعي .ـ
وكلمة إنسان مؤلفة من مقطعين :ـ نس + ان = إنسان
أي الكائن المؤنس ـ أو كائن الأنس ، أو الكائن المميّز والذي يتميّز بخاصّيّة التعامل مع الآخرين بالمودة والتفاهم والتوافق وسواها من مقومات الأنس ، والذي هو التعايش الإيجابي الآمن والخيّر . ـ وهي الميزة الجوهرية التي تحدد مفهوم إنسان، والتي تختلف عن كلمة هومو التي تعني الكائن العاقل المنتصب القامة . ـوالإنس هو المعنى الأوّلى لكلمة إنسان وهو إسم النوع البشري المسمّى إنسان .
ومن الإنس صفة الأنس وهي الميزة الرئيسية للإنسان في الإشتقاق اللغوي العربي المستوحى من واقع الحياة في البيئة الشرقية التي تختلف كل الإختلاف عن البيئة الغربية ، حيث أن للمناخ الدور الأساسي في إيجاد ذلك الإختلاف . فالمناخ الدافئ المشرق في الشرق أتاح للناس فرصة الحياة والتعايش والإحتكاك معاً في بيئة إجتماعية أظهرت الفهم المميّز للإنسان على أنه الكائن الإجتماعي الذي يتميّز بالإلفة والحسن المعاشرة والتي تعني الأنس ، بينما كان المناخ البارد في الغرب سبباً في عزلة الإنسان عن غيره وانشغاله في مواجهة صعوبات الحياة اليومية من إزالة الجليد وتأمين مواد التدفئة وضرورات أستمرار الحياة في ظروف باردة صعبة ، فكانت الميزة التي خرجت بها وقائع الحياة هي كلمة هومو التي تعني الكائن البشري بمعناه الفردي بحد ذاته .ـ
وإن معنى الأنس يتناقض مع ما تعنيه الوحشيّة التي هي من الصفات والطبائع الأساسية للوحوش والحيوانات المفترسة التي تمثل الأنانية المطلقة حيث أن الوحش يفترس كل ما ومن حوله من أجل حياته الخاصة ويدمّر كل حياة للإبقاء على حياته الحيوانية .ـوكذلك فإن الوحشية هي الطابع المميّز للوحش ، ومن الوحش والخوف منه فإن الوِحشة هي شعور الإنسان بالخوف من خلو المكان من الناس ، بعدم الأمان بسبب خطر الوحوش واحتمال وجودها في المكان .
والوحش هو الكائن الذي يعيش حالة من الأنانية الغريزية المطلقة والتي تقتضي أن يقتل أي كائن آخر من أجل أن يعيش ويحقق وجوده . وهو بذلك يشكل مصدر الخطر على كل من يقترب منه أو يعيش معه ، لذلك كان الإنسان وما يعنيه من أنس هو نقيض الوحش وما يتصل به من خوف ووحشة ووحشيّة . ـوبذلك فإن الوحشية هي ممارسة الأنانية الغريزية من قبل الوحش الذي هو اساس كيان الحيوانات المتوحّشة ، أو التي هي نواة الكيان البشري الأناني الذي لم يحقق إنسانيته ولم يدركها إدراكاً واعياً في علاقته الإيجابية بالآخرين على أساس التوافق العقلي بالحق المتفق عليه وبالخير المشترك للجميع . ـوجميعانا نلاحظ في الحياة العملية للواقع البشري كيف أن الإنسان الأناني لا يستطيع تحقيق أهدافه الذاتية وأطماعه الفردية إلاّ على حساب الآخرين . وكيف أن الأنانية حين تكون أساس العلاقات بين الناس أو بين المجموعات أو بين الدول ، فإن الوحشة والوحشية وتبادل الإفتراس بين الأنانيين ، تحوّل الحياة البشرية إلى ساحة حروب واقتتال تسبب الموت والدمار والخراب لكل ما بنَته المجتمعات من عمران ومؤسسات ، وتعيد العلاقات بين الناس إلى ما يشبه علاقة الوحوش في الغابات حيث يسود منطق القوة والتهديد واستخدام السلاح ,ادوات القتل وتتعطل الأسس المدنية للمجتمع من محاكم ومخافر وسلطات مدنية كانت تقوم بواجياتها في حفظ السلام العام وحماية سلامة الناس . ـ
وفي العلاقات الأنانية حيث تطغى المنافع الشخصية والمنافع الأنانية على منطق الأمور والأحداث ، فإن كل إنسان أناني ، يتحوّل إلى كائن متوحّش بحسب ما لديه من إمكانيات سلطوية في امتلاك أتباع ومؤيدين يستغل قوتهم وحماستهم ، وما لديه من قوة مالية وقوة وسلطة ومركز سياسي . وهكذا ينتشر الأنانيون على مساحات الحياة فيحوّلونها إلى حلبات صراع ، لكي يتحول العالم إلى ساحة حرب أطماع ومكاسب بين الأنانيين والأنانيات .ـ
وبخلاف الهومانسيت الفردية التي تنستند على إمكانيات الأنانية المتوحّشة لتحقيق الذات الفردية ، فإن الإنسانية هي الإلتزام الواعي والمدرك بشكل دائم وبدون انقطاع ، للإنسان الإنساني بميزة الأنس التي تمنح الآخرين معه وحوله الشعور بالثقة به و بالأمان والإطمئنان على أنفسهم وعلى سلامتهم وعلى كرامتهم وعلى ملكيتهم وعلى أحلامهم وأهدافهم وعلى حسن سير أمور حياتهم في جو من التفاهم والتوافق على القواسم المشتركة وفي التضامن من أجل الحقوق المشتركة التي تحقق الخير للجميع .ـ، وإن كل ذلك لا يمكن تحقيقه بطريقة عفوية ولا غريزية . فالإنسان يولد كائناً أنانيّاً لديه الإستعدادات الفطرية على اكتساب التربية و المعرفة وعلى التكيّف في الظروف المختلفة سلبية كانت أم إيجابية ، وقد تكون جميع هذه الأمور من منطلقات أنانية ولأهداف أنانية وقد تكون من منطلقات إنسانية ولتحقيق الشخصية الإنسانية وهو ما يتحدد من خلال التربية التي ينطلق منها الإنسان من دائرته العائلية إلى المجتمع .ـ
وفي حين أن الإنسان ينمو ويسير في مساره الأناني بدون أي جهد تربوي ، بعكس ذلك يحتاج العمل على إعداد الشخصية الإنسانية إلى الرؤية الإنسانية التي ينبغي أن تكون أساس التربية الإنسانية المدروسة والتي منها تكون منطلقات التوجيه والتعليم والتعامل مع الإنسان منذ طفولته بالمعاملة الإنسانية التي من أهم أسسها اللغة الواضحة والصادقة والمرتكزة على الصدق العلمي والعملي في بناء العقل الإنساني الجديد بالإضافة إلى قيم الأخلاق وحكمة الأديان ومساعدة الإنسان الناشئ على فهم العالم على حقيقته الموضوعيه وفهم الأحداث الموضوعية والظواهر الكونية والإجتماعية وفهم كيفية حصولها بمنطق علمي صحيح ، ومعرفة حقوق الإنسان وممارسة حياة عائلية تشكل النموذج المصغّر عن العالم الإنساني المنشود ، من حيث أصول التعايش مع الآخرين على ضوء الفهم الإنساني للتعامل معهم بالتحرر من الأنانية الفردية ومن الميول والنزعات والأطماع الذاتية التي يولد عليها كل إنسان والتي تشكل آليات الأداء الأناني المتوحّش والمهيّأ في الاساس لكي يعيش في بيئة متوحّشة .ـ
إن الإنسان الأناني لا يحتاج سوى أن نتركه على سجيته الفطرية ليكون أنانيّاً ، أما الإنسان الإنساني فهو يحتاج إلى التربية الإنسانية في عائلة لها رؤية فلسفية إنسانية لها منطق متماسك في البديهيات والمنطلقات والأهداف ، وشديد القدرة على الإقناع وتحقيق التوافق بين مختلف العقول .ـ
إن إنسانية الإنسان لا يمكن أن تتحقق بطريقة عفويّة ، مع أنها قد تكون على علاقة بخصائص وراثية من أجداد معروفين بأصالتهم الأخلاقية وبسمعتهم الحسنة وبأفضالهم المعروفة بين قومهم .ـ
، وربما تكون هذه الخصائص هي أحد المكونات الأساسسية للشخصية التي لديها القابلية لأن تكون إنسانية في المستقبل . ولكن ذلك لا يتحقق إلاّ بالإكتساب التربوي العملي في التربية والممارسة الإنسانية العملية للأهل وللمحيطين بالإنسان الناشئ ، وتتوفر على المقومات المعرفيّة والأخلاقية .ـ
ولذلك فإن الشخصية الإنسانية لا يمكن بناؤها إلاّ على أساس فلسفة إنسانية تشكل أساس الإقتناع الراسخ الذي هو بدوره أساس الثبات والإستقرار في المعاملة الإنسانية التي تحقق الغاية من الأنس والتي هي التعايش الآمن والمشترك بين الناس لتبادل العلاقات الإيجابية في ما بينهم في دوائر تعايشهم ، في الأسرة والمجتمع ، و على أسس إنسانية .أي على أساس المساواة المطلقة في القيمة الإنسانية وفي الكرامة الإنسانية وفي الحقوق الإنسانية ، بغض النظر عمّا لدى الناس من فوارق واحتلافات وتنوع ، سواء في اللون أو العنصر أو الجنس أو الثقافة واللغة أو المعتقد أو الفكر والرأي .ـ
إن الفكرة الإنسانية والكلمة الإنسانية والمعاملة الإنسانية والسلوكيات الإنسانية ، لا تعتبر إنسانية ، إلاّ حين تتوجّه إلى جميع احتمالات الإنسان في أي مكان وزمان وفي أي ظرف أو حال ، من منطلق المساواة المطلقة بين الناس وعلى أساس الحق الذي يتقبّله كل عقل بشري ، وبهدف الخير لجميع احتمالات الإنسان في جميع البشر على كامل الكوكب الأرضي .ـ
وإن المنطق الإنساني لا يعتبر إنسانيّاً ، إلاّ حين يكون قابلاً للفهم والقبول من أي عقل بشري على أساس الحق الذي يوحّد بين تلك العقول ، و الخير المشترك لجميع البشر سواء في دائرة المجتمع المحلي أو على مستوى المجتمع العالمي.ـولذلك فإن مقومات المنطق الإنساني تتكون من منطق العلم وتطبيقاته العملية ومن بديهياته المنطقية وحقائقه المؤكدة في التطبيقات العملية ، لكي تكون صالحة في التعامل مع عقل أي إنسان آخر لبناء أسس التوافق بين أي إنسان وأي إنسان آخر ، بالإقناع والإقتناع الحر بعيداً عن أي ترهيب أو ترغيب أو تخويف أو إغراءات ، أو تهديد للحياة أو للسلامة الشخصية أو إهانة للكرامة أو تضييق على الحرية أو مصادرة للحقوق .
بالإضافة إلى معطيات المنطق العلمي ، فإن الحكمة الدينية ورسالات الأنبياء التي تشكل الأسس الأخلاقية للتعامل الإيجابي بين الناس ،وفي اتجاه الخير العام تعتبر ضرورة لا بدّ منها في بناء الشخصية الإنسانية التي ينبغي أن تستطيع فهم الرسالات النبوية وفهم جوهر كل دين لكي تتسلّح بالحكمة الدينية التي تدعو إلى المثل العليا التي هي أساس الأخلاقيات والمعاملات بين الناس ، بالإضافة إلى أنها تؤمن المناعة الفكرية ضد المنافقين والمتاجرين بالدين لتضليل عقول الناس واستغلال الإيمان لديهم لتوجيههم ضد الحق وضد الخير خدمة لمصالح الأنانيين ولتحقيق أهدافهم وأطماعهم . وخاصة وأن فهم الدين من خلال عقل يتزوّد بالحقائق العلمية فإنه يشكل العقل المتوازن بين معرفة الواقع المادي والموضوعي ، وبين معرفة الحكمة التي هي مصدر الأخلاقيات التي لا بدّ منها للحياة في ذلك الواقع مع الآخرين من احتمالات الإنسان .
وبالإضافة إلى منطق العلم وحكمة الدين ، يأتي العنصر الثالث مكملاً لهما وهو ثقافة حقوق الإنسان وما يرتبط بها من مواثيق ومعاهدات دولية ، أنتجت شعارات عامّة على المستوى العالمي والدولي تشكل مرجعية معنوية عالمية وتضمن القوة المعنوية لكل إنسان فوق الكوكب ، وتدافع عن القضايا الجماعية لأبناء البشرية جميعاً من خلال منظمات دولية لها سلطة ملزمة على جميع دول العالم . وبغض النظر عن سوء استخدامها مثلما هو حال كل من الأديان والعلوم التي يتم استغلالهما لما هو ضد مصالح الناس ولتحويلها إلى صالح الأنانيين من حكام ومافيات وشركات اقتصادية مهيمنة على العالم ، إلاّ أنه على الإنسانيين أن يتمسّوا بهذه الشعارات وأن يعملوا على نشرها وتوعية الناس عليها لأنها حق دولي لكل إنسان في أي مكان يعيش فيه .
إن التربية الإنسانية في الأسرة التي تؤمن بيئة صالحة لبناء الشخصية الإنسانية ، ينبغي أن يتوفر فيها الحد الأدنى من ضرورات البيئة الإيجابية مثل التواصل والإنفتاح على روح العصر وعلى معطيات وأجواء الحضارة المدنية الحديث ، و مناخ الحرية والإحترام لكرامة الطفل بغض النظر عن جنسه ذكراً أم أنثى ، والمعاملة بالعدل والمساواة من قبل الأبوين معاً، مهما تباينت مواصفات كل منهما ، بالتوافق على القيم والمثل العليا وأصول العلاقات السليمة والحرص الصادق في تربية الإنسان الناشئ على حسن الخلق وتثقيف العقل واحترام النفس واحترام الآخرين .ـ إن الشخصية التي يتم إعدادها في الأسرة لن تتغيّر في التعليم المدرسي ولن يؤثر فيها واقع الحياة العملية. فإن العلم الدرسي قد يغير حالة الإنسان من شخص قليل التعليم إلى شخص أكثر تعليماً ، وإن الإختصاص الجامعي قد يحصر عقل الإنسان في مجال معرفي أكاديمي يصل به إلى مجال مهني محدد ، ولكن من خرج من بيته إنسانيّاً لن تحوّله الحياة إلى أنانيّ ، وكذلك فإن من خرج من أسرته أنانيّاً ، فإن العلوم والإختصاص سوف تجعله يحقق أنانيته بأساليب أكثر خطورة وبطريقة أكثر تمدّناً وعلماً .
إن الإنسانية ، نقيضها الانانية والتعصّب للذات الفرديّة .والإنسانية هي الإنتماء للإنسان ، مثلما هي الوطنية انتماء للوطن. ولكن لا وجود للإنسان كمفهوم ، إلاّ في الجوهر الإنساني في كل إنسان من بني البشر . والكراهية والحقد والإنساني لا يجتمعان ، وكذلك فإن مشاعر الكراهية والأحقاد ليس لها مكان في في تفكير الإنساني.
وإن الرؤية الإنسانيّة ، هي طريقة تفكير الإنساني التي يعيشها في أسلوب حياته الذي يعبّر عنه في تصرفاته وفي علاقاته وفي إنتاج أفكاره وفي اتخاذ مواقفه . وتنطلق هذه الرؤية من وعي الإنسان لذاته الفردية في أناه الفردية ، وللذات الأخرى في كل إنسان آخر في جميع احتمالاته في جميع البشر لإقامة العلاقات الإنسانية على أسس المساواة المطلقةبين الأنا وبين الآخر في القيمة الإنسانية وفي الكرامة الإنسانية وفي الحقوق الإنسانية ، بدون أي تمييز ديني أو عرقي أو جنسي أو قومي وبدون تفريق بين الناس على أي شكل من أشكال التنوع والخلافات بينهم . ـوإن الموقف الإنساني ، موقف فلسفي في الدرجة الاولى . ويستحيل على أي إنسان أن يكون إنسانيّاً بدون فلسفة ورؤية إنسانية متماسكة ، بحيث يلتزم الإنساني وبدون انقطاع ، بالجانب الأنسي من الشخصية البشرية، دون السماح للغرائز والدوافع الحيوانية من التأثير على أدائه الإنساني في علاقاته مع الآخرين ، في مختلف أنواع وظروف العلاقات .ولكي تتحقق الممارسة الإنسانية في العلاقات بين الناس ، فقد كان لا بد من فلسفة متماسكة ورؤية متماسكة ، لوضع الأسس النظرية والعملية لإقامة العلاقات الإنسانية بين الناس . فكانت فلسفة الإنسانيين .ـوحيث أنه لكل فلسفة نقطة محورية تشكل الأساس والمنطلق ، فإن النقطة المحورية في فلسفة الإنسانيين تتمثل في مفهوم الأنا والأنا الآخر . ومعناه أنه لا وجود لأي إنسان آخر إلاّ في حالة أنا ، يتساوى مع كل إنسان آخر ، يعتبر الأنا الآخر لكل إنسان سواه .ـ
إن الإنسانية لا تُختصر في مجموعة مواصفات وتعابير إرتجالية قد يراها كل إنسان من وجهة نظره على أنها الإنسانية ، وإنما هي مفهوم ينبغي بناؤه على فلسفة إنسانية لها أسس منطقية تبدأ من مفهوم الكلمة وما يتصل به من معنى لغوي واشتقاقات ، لتتبّع الدلالات البعيدة فيها وقراءة الشيفرا التاريخية والحضارية والأخلاقية في التراث الإنساني الذي تعتبر الرسالات النبوية في منطقة الشرق الأوسط أول مصادره في التاريخ البشري . ـ

ومن الإنسجام المنطقي بين معنى الكلمة ومنطلقاتها النظرية ودلالاتها العملية ، ينبغي أن تجتمع مختلف العقول الإنسانية حول التوجه الفلسفي الذي يبني على تلك المنطلقات والدلالات أسس المبدأ العام الذي يجب أن يقوم عليه الخيار الإنساني الفلسفي الذي يوصلنا إلى فهم الإنسانية فهماً شاملاً قابلاً للتطبيق والممارسة في الحياة العملية لتحقيق الهدف من المعنى بتحديد الهدف الإنساني الذي لا يتحقق إلاّ بالعمل الإنساني الجماعي ، والذي لا يمكن أن يقوم به إلاّ فريق من الإنسانيين المتفاهمين والمتفقين والمتوافقين على رؤية إنسانية مشتركة تساعدهم على العمل المشترك من أجل الحقوق الإنسانية المشتتركة لكل إنسان من احتمالات الإنسان سواء في المجتمع المحلي وفي المجتمع العالمي الكوكبي . ـ وبناء على كل ما تقدّم ، فإن الإنسانية هي الانتماء إلى الإنسان ، مثلما الوطنية هي إنتماء إلى الوطن.ـ
إنطلاقاً من المنطلق الإنساني الجوهري وهو أن كل إنسان هو أنا ، وأن كل إنسان آخر ، هو الأنا الآخر بالنسبة لكل إنسان آخر .ـإلاّ أن السؤال الذي تؤدي إليه هذه المقولة ، إلى أي إنسان ننتمي ؟ في حين أنه لا وجود للإنسان إلاّ من خلال احتمالات بشريّة تتمثل في كل إنسان من بني البشر ؟ . وحيث لا وجود للإنسان إلاّ في كلمة لغوية في القواميس . فإلى أي إنسان ننتمي ؟ وكيف يكون الإنتماء الإنساني؟
إن الإنتماء إلى الإنسان يكون على أساس إدراك وحدة الجوهر الإنساني بين الناس ، وعلى أساس المساواة المطلقة في القيمة الإنسانية وفي القدرات العاقلة وفي الكرامة الإنسانية وفي سعيه إلى الحقوق الإنسانية وهي ميزات مشتركة بين جميع احتمالات الإنسان فوق سائر الكوكب .ـ وإن الإنتماء إلى الإنسان لا يكون في التبعية لزعيم أو حاكم أو لأي شخص محدد ، إذ أن القيم الإنسانية التي هي في نواة كل إنسان من خلال استعداداته الفطرية ومن خلال هويته النوعية التي يشترك فيها كل إنسان من أي إنسان آخر ، مثل المشاعر والكرامة وحب الحياة والسعي إلى الخير … فإن الإنسان في المعنى الإنساني هو إحتمال مستقبلي ومشروع تربوي بإنتاج الشخصية الإنسانية ، وهو جوهر الكينونة في كل شخص من بني البشر .ـ
وبذلك فيكون الإنتماء الإنساني هو الإنتماء إلى جوهر الإنسان الذي هو في كل إنسان في جميع احتمالات الإنسان ، في الأنا الشخصي و في مختلف احتمالات الأنا الآخر .ـ
وإن ذلك الإنتماء يكون من خلال الوعي الإنساني الذي يحتاج إلى رؤية إنسانية مبنية على فلسفة إنسانية لها منطق إنساني ، قابل للتطبيق في المعاملة الإنسانية والسلوك الإنساني و بالأخلاق الإنسانية في علاقة الإنسان بجميع احتمالات الإنسان ، في السعي إلى الخير لكل إنسان وفي اتّباع الحق الذي يتوافق عليه أيّ إنسان مع أيّ إنسان ، من خلال الحوار العاقل على أسس المنطق العلمي الحيادي بين جميع العقول وما لديه من بديهيات منطقية وحقائق علمية مؤكدة في التطبيقات العملية وعلى اساس الحكمة الدينية التي تدعو إلى الخير والى القيم الأخلاقية التي تؤكد على العدل والصدق والتعاون من أجل الحق وفي سبيل الخير ، وعلى اساس ثقافة وقيم حقوق الإنسان في إطار الحضارة المعاصرة للمجتمع المدني ومكوناته المختلفة على سائر الكوكب بأسره ، دون تمييز بين ذكر وأنثى وعربي وغربي ودون تمييز بين البشر على أي شكل من أشكال التنوع والإختلاف الذي هو اساس الواقع البشري . ـ
وإن الإنتماء الإنساني لا يلغي أي شكل من أشكال الإنتماءات السابقة له، مثل الإنتماء العائلي ، والإجتماعي ، والوطني والقومي والديني … وإنما هو آخر ما تصل إليه الإنتماءات السابقة في أخلاقياتها السامية وآفاقها الإنسانية البعيدة ، لكي يصل كل إنساني في أي مكان من العالم، في انتمائه الإنساني إلى كل عائلة فوق الكوكب ، وإلى كل مجتمع وإلى كل وطن.ـ فيكون كل أب وكل أم وكل أخت وكل أخ في هذا العالم ، هم عائلة كل إنساني ، ويكون كل عرض بشري أمانة في عنق الإنساني ، ويكون كل دم بشري أمانة في ضمير الإنساني ، وتكون حياة كل إنسان هي جزء من حياته ، ولكي يكون الكوكب البشري كلّه وطن الإنساني الذي يتشكل من جميع الأوطان والمجتمعات ، ولكي يكون كل من على الكوكب من شعوب ومجموعات بشرية ، هو شعب الإنسان الإنساني و أسرته الإنسانية الكوكبية .ـ وإن الإنتماء الإنساني ، يصل بالإنسان إلى قمة اكتمال إنتمائه العالمي والكوني ، الذي ينسجم مع عقيدة كل دين ، ومع تفكير كل عقل ، ومع مصلحة أي إنسان فوق هذا الكوكب الذي هو وطن الجميع في أوطانهم. فأن تكون إنسانيّاً ، هو أن تكون إنساناً كونياًّ ، كوكبيّاً عالميّاً ، وذلك بإتّباع الحق الإلهي الكوني في قوانين الله السارية في الوجود والتي يكتشفها ويثبتها العلماء في تجاربهم، وأن تتبع حكمة الله التي أوحى بها إلى الأنبياء في رسالاتهم ، وأن تكون مساهماً بفكرك وقولك وعملك ، في الخير العام ، بحسب إمكانياتك وظروفك من خلال تضامنك الفكري والعملي مع شركائك في الحياة والهموم والحقوق .وخلافاً لما يعتقده الناس من خلال تفكيرهم العفوي ، فليست كل معاملة لطيفة بين أخ وأخيه أو بين صديق وصديقه أو بين مواطن وشريكه في الوطن ، تكون بالضرورة معاملة إنسانية . فينبغي أن نميّز بين الأخلاق العائلية والطائفية والوطنية ، وبين الأخلاق الإنسانية .ـ
فإن الأخلاق الإنسانية تقوم على منطق العقل الإنساني للإنسان الإنساني. ذلك المنطق الإنساني الذي لا يميز بين إنسان وآخر ، لا في جنسه ولا في لونه ولا في ثقافته ولا في هويته ولا في معتقداته .ـوهي أخلاق تتأسس على رؤية فلسفية إنسانية تجد مصادرها في المعطيات العلمية والمعرفية والثقافية المختلفة ، والتي تجمع معارف العلوم وحكمة الأخلاق لمختلف الأديان ومعطيات التراث الإيجابية لمختلف الحضارات والشعوب. وهي في الإلتزام الصادق وفي التمسّك الشديد بحقوق الإنسان ، في مراعاة واحترام الحريات والحقوق الإنسانية لأي إنسان، وفي الحرص الدائم على الكرامة الشخصيّة التي تمتد جذورها إلى كل كرامة لأي أنا آخر من بني البشر…ـمن جميع هذه المنطلقات المعرفية والإلتزامات الأخلاقية ، تتشكل قوة العقل والإرادة الثابتة في التوجه إلى الخير العام وعلى أسس الحق الذي تلتقي حوله مختلف العقول البشرية حول الكوكب البشري بكامله .ـ
فأن تكون إنسانيّاً ، هو أن تكون مع الحق والخير لجميع البشر ، فتكون أخاً لكل أخ و أخت ، وأن تكون أباً لكل إبن وبنت ، وأن تكون إبناً لكل أب وأم ، وأن تتعامل مع جميع هؤلاء على أنهم احتمالات الأنا الذي لديك. وليس أن تحبهم وتحرص على قيم الحق معهم كما تحرص على نفسك فقط ، وإنما أن تحبّهم على أن كل واحد منهم هو نفسك في مكان آخر وظروف أخرى .ـ
وأن تكون إنسانيّاً هو أن تتبع طريق الحق وأهداف الخير . فتكون عوناً لكل ضعيف ، ومعلّماً لكل جاهل ، ومتعلّماً من كل ذي علم، وباحثاً عن كل حكمة ، ومساهماً في كل خير ، ومحذّراً من كل شر ، ورافضاً لكل ظلم ومعارضاً لكل باطل ، ومؤيّداً لكل حق ، ومشاركاً في كل سعي فيه خير وفيه سعادة للإنسان .ـ وأن تكون إنسانيّاً ، هو أن تكون فرداً صالحاً في كل أسرة وفي كل بيت و في كل جماعة وفي كل مجتمع . وأن تكون مواطناً صالحاً في كل وطن ، وأن تكون إنساناً خيّراً لكل إنسان فوق هذا الكوكب ، بكل ما فيه من احتمالات مختلفة ومتنوعة من احتمالات الإنسان . من شعوب وأمم وجماعات ومجتمعات .