في عام 2006 دشن الأميركيون سياسة جديدة في العراق أسماها الرئيس بوش بالاندفاع Surge وتقضي بإرسال عشرين ألفاً من المقاتلين كحد أدنى إلى المناطق الساخنة. واستبدال القائد العسكري الأميركي الجنرال بترايوس بالجنرال كيسي، والعمل على كسب ود أبناء المناطق الغربية، ولا سيما الأنبار، للاصطفاف إلى جانب الشرعية.
واشترط الرئيس بوش لإنفاذ هذه السياسة الإتيان بحكومة قوية في العراق، واستبدال رئيس الوزراء ابراهيم الجعفري بشخص آخر. وقد اختير لهذه المهمة بعد جدل طويل، نوري المالكي، الذي سارع بإطلاق مشروعه الأمني الكبير، فرض القانون.
ولم تمض سنة على بدء هذه الترتيبات هذه حتى باتت معظم مناطق العراق تنعم بالأمن. وأعلنت منظمات عديدة إلقاءها السلاح. في ما راحت بقايا القاعدة تناور هنا وهناك بالمفخخات والألغام والقنابل البشرية. أما الحرب الطائفية التي أشعلتها فقد سكنت تماماً. وعادت العاصمة المترامية الأطراف لممارسة حياتها العادية.
بعد سنوات نسي الناس في الأنبار والفلوجة والموصل العذاب الذي ساقتهم إليه القاعدة، وبدأوا يتبرمون بالحكومة المركزية. فهم يعلمون أن وجود حكومة قوية في بغداد لا يلائم مزاجهم، على عكس وجود أخرى ضعيفة فيها. فلجئوا إلى إطلاق جملة من المطالب، تتلخص بإرخاء قبضة الحكومة، عبر إخلاء سبيل المتهمين بالإرهاب وسحب الجيش وتحقيق التوازن وإقصاء شخصيات حكومية نافذة، وغير ذلك.
ما الذي دفع برجال دين وشيوخ عشائر وضباط سابقين، بل ومسؤولين كبار إلى الانكفاء بهذه الصورة؟ كيف يمكن لوزراء وبرلمانيين ومحافظين أن يكونوا أطرافاً في ساحات احتجاج تشارك فيها منظمة القاعدة علانية ودون أي رادع؟
ثمة سايكولوجية خاصة حكمت الزعماء السنة في حقبة ما بعد صدام، وجعلتهم خائري القوى أمام القاعدة وداعش. فالنظام التمثيلي لا يعطي أي مجموعة سكانية فوق ما تستحقه من دور. لكنه يمنحها القدرة على التحالف مع الغير. وهناك دائماً سياسيون معروضون للبيع، داخل المجموعات المختلفة.
في ظل نظام كهذا لن يهدأ السنة أبداً، وسينتقلون من ولاء لآخر. عندما تنتهي داعش سيمر الوقت وينسى الكثيرون ما حل بهم في شتاءات 2015 و2016 و2017. ويعاودون الكرة. فهم ليسوا أقل من الكرد جنياً لمكاسب لا يستحقونها. وسيكون هناك على الطرف الآخر من يغتنم الفرصة، ويقدم التنازلات من أجل الفوز بالسلطة.
هذه المعادلة التي حكمت العراق منذ عام 2004 ستستمر حتى يتبلور تيار شعبي غير معروض للبيع، يعطي لكل ذي حق حقه، ولا يسمح بتجاوز أحد على الآخر، ولا يقبل باستئثار أحد بسلطة ليست له. وعند ذاك لن يكون هناك من يلوح بالانفصال، أو يهدد بالتقسيم، أو يتحالف مع الشيطان. فمخالب الحكم ستكون قادرة على الإمساك به، وزجه في السجن.
ربما سيكون من حسن حظ بلادنا أن أجيالاً جديدة، ستستوعب الدرس، وتعي خطر اللعب بالنار. وتدرك أن حقبة البناء هي وحدها التي ستنقذ البلاد من كوارث حقيقية. وأن من غير المنطقي أن يدفع ملايين الرجال النساء والأطفال ثمن مغامرات فاشلة، لسياسيين غير ناجحين، يحكمون باسمهم من دون وجه حق.