23 ديسمبر، 2024 2:34 م

الانحراف العلمي في العقل السياسي الامريكي

الانحراف العلمي في العقل السياسي الامريكي

ربما كان شارلز ساندرز بيرس (1839- 1941) الفيلسوف والفيزيائي وعالم المنطق ومؤسس الفلسفة الذرائعية او البراغماتية من اكبر الذين لهم اثار في العقل السياسي الامريكي في القرن الماضي وان اخطر ما ورثه السياسيون من علمه هو القدرة على التبرير او التسويغ الى الدرجة التي يمكن لاحدهم ان يتحول من موقف الى موقف ينحرف عنه بزاوية (180) درجة وبقدرة اقناع جيدة، وهي صورة من صور مهمة المحاماة وقدراتها الفائقة في المحاكم الامريكية نفسها، كل ذلك داخل المجتمع الامريكي الذي تأسس على هذا النهج من التربية.
ولقد كان العلم من مهمة العلماء وتخصصهم ومن واجب الجامعات واهدافها لان شارلز ساندرز بيرس هذا استطاع ان يدير رأس السياسي الامريكي صوب العلم ليجعل منه وسيلة فضلا على صيرورته غاية، ثم جعل للوسيلة غايات متعددة للسلم والحرب وعلى نحو غير منفصل، اي ما يمكن استثماره في السلم يجب ان يصلح لخدمة ادارة الحرب، وما يخترع في الحرب يتعين ان يستمر مفعوله الحياتي في زمن السلم، وفي تطور مفهوم مصطلح الخيال العلمي واستقراره على اساس نظري مستقبلي قابل للتطبيق بعد تحقق عدد من المستلزمات العلمية المضافة الى ما هو متاح للعلماء وعرض هذا الانجاز للاستثمار في القرن الواحد والعشرين.
في الوقت الحاضر.. (والوقت الحاضر هنا هو كل وقت لا يتحقق فيه مشروع مستقبلي علمي جديد) فان العقل السياسي الامريكي وجد في العلم مرتكزا حاسما لتحقيق مأربه المحلية والاقليمية والدولية مما نراه في الانجاز الصناعي والتقني المتقدم باطار الانشطة الاقتصادية العالمية وموقع القدم الامريكية فيها، ليس في هذا السياق ما يدفع الى الدهشة او الاستغراب، بل هو اقرب الى واقع الحياة، الا ان المستجدات التي تدفع بالعقل الامريكي المعاصر الى توظيف العلم وظائف خيالية تفوق حيثيات العلم والخيال العلمي المستساغ والمألوف تدفع المفكرين الاخرين الى دق ناقوس خطر جديد وكبير. فعندما دفع العقل العلمي المعاصر بمصطلح الهندسة البشرية Human Engineering ومصطلحه العلمي Ergonomics فانه كان انجازا لصالح الانسان لانه جمع الهندسة الى الفيزياء وعلم النفس والادارة وعلم الاجتماع في توفير فرص العمل الطبيعي لتحقيق افضل انتاج واعلى كمية منه واحسن نوعية فانه بدأ يتراجع امام التقنية الحديثة التي تعتمد الروبوت، وهذه ايضا مسألة تكاد تكون طبيعية في سياق التطور، ولكن عندما ظهرت الهندسة الوراثية او الهندسة الجينية Genetic Engineering بالتعامل مع البنية الوراثية للانسان والحيوان والنبات بدأ السياسي الامريكي ينتبه الى قناة جديدة ومهمة يفرض من خلالها نفوذه وسلطانه العالمي، وتحققت فروع جديدة ونشأت علوم جديدة، البيو تكنولوجي BIO Technology ضمن اعمال البيولوجية المجهرية Micro Biology، فاتحة العلم الى مفهوم استنساخ الكائن الحيواني – النعجة دولي- واحتمال تكرار ذلك مع الانسان، اشارة خفيفة علمية، يلتقطها البيت الابيض الامريكي فيتابع من خلال لجنة خاصة منجزات العلم في السيطرة على صفات الجين الوراثي في الانسان، بل محاولة تصميم جين وراثي يحمل الصفات المطلوبة سلفا.
ان قرننا هذا شهد سيادة التقنية البيولوجية او التقنية الحياتية وتراجع التقنية الصناعة التقليدية الى الخلف، اي ان العلم سيصنع الانسان ويستثمر هذه الصناعة تجاريا، وتقوم قيامة المعارضين من المتدينيين والمفكرين وانصارهم من حيث وحدة المنطلق (الاخلاق)، ويحولون الموضوع من حيثياته العلمية الى افاقه السياسية، اي ان مثل هذا الانجاز لا يجب ان يتحقق لانه يتدخل في عملية الخلق الالهي مباشرة وعلى السياسيين ملاحظة ذلك لا ان يخضعوا له، ومن الواضح ان السياسي الامريكي لاتهزه الاخلاق المعيارية العالمية والتاريخية او الوطنية، بل المنفعة والبرمجة بالدولار وتلك هي المشكلة.
وتستمر الابحاث في رسم الخريطة الجينية كاملة، وهي غير متحققة حتى الآن، الا انها جزء من الخيال العلمي قريب الحدوث تماما، واذا ما حصل، تعددت فرص الاستثمار من الخير والشر وتقلص الدور الطبيعي في الانسان بوصفه كائنا اسريا او مجتمعيا، لان (التكثير) و (الولادات) ستكون صناعة وتقنية متقدمة، والمولود يجهل والديه او احدهما في الغالب الاعم. اما القرار السياسي الامريكي بالسماح لمثل هذا النشاط فلن يكون امريكيا داخليا حسب، بل يصير امريكياً عالميا ايضا. وهذا هو مكمن الخطر الجديد القاتل، ربع سكان الكرة الارضية يتضورون جوعا، واذا بالسياسة تدفع بالعلم الى انتاج انسان حسب الرغبة وخارج التشريع السماوي وكتبه المنزلة ترف في احضان الشرك وفقر في نهاية الاعجاز الحضاري.
ان الاموال التي تنفق على مثل هذه الابحاث تبلغ المليارات (تجاوزت العشرين ملياراً) ألا انها ليست محسومة بزمن محدود، بل هي مفتوحة النهاية تماما، السياسة الامريكية لم تعد تعمل ليوم وليلة، بل لجيل في الاقل ولقرن في المعدل مما يدفعنا الى التفكير على اكثر من مرحلة او مستوى، التفكير بمشاكلها المعلقة مع السياسة الامريكية الآن فالقضايا المنتظرة لاحقا ومن قريب او في المستقبل المنظور ثم القضايا المتوقعة مستقبلا وبعد جيل او قرن، الامر الذي يعني، مع الاسف، ان ليس ثمة فرصة ايجابية يمكن ان نقتنصها او نستنبطها من سير الزمن على سطح كوكبنا الارضي والعقل السياسي الامريكي انحرف بخياله العلمي الى الدرجة التي بات يهدد الجنس البشري في انسانيته فيحوله الى سلعة تباع وتشترى حسب الطلب وحسب الرغبة وبالسعر الذي تحدده الشركات.
هنا نعود الى بيرس ونسأله في قبره: هل كان يتمنى هذا المصير او مثله؟! اعتقد انه لو بعث الآن لما استغرب ما يجري، الا انه قد يبدي ملاحظة عن سرعة الوصول اليه، ثم يجري مع رفاقه المعاصرين مع تيار المادية العلمية تحت ظل السياسة الامريكية الحديثة ليضمن الجميع قيادة امريكا للعالم… ولكن الى اين؟ ذلك ما يجب ان يجيب عليه المفكرون في كل مكان، ولكن اذا احتكمنا الى ماذهب اليه الروائي العلمي البريطاني الكبير اج جي ويلز في صدد توقعات المستقبل وقسمتها على الاستقراء المستند الى الاتجاهات الاجتماعية والتقنية المعاصرة وعلى الخيال العلمي الافتراضي الصرف، فاننا نجد وبكل سهوله ان العقل السياسي الامريكي بدأ يرجح الثاني عمليا ويخصص له مراكز البحوث وينصاع بالمقابل لتأثير المؤسسات البحثية العملاقة التي تجعل التجارة هدفها الستراتيجي في كل بحث من هذا الطراز وعلى حساب انسانية الانسان، وبذلك ازاحة السياسة الامريكية العقول الامريكية المؤسسة في هذا المجال التي شارك فيها روبرت ماينلاين في الخيال العلمي: (تأمل واقعي لحوادث المستقبل الممكنة تستند استنادا راسخا الى معرفة دقيقة بالعالم الواقعي، في الماضي والحاضر، والى فهم شامل لطبيعة الطريقة العلمية واهميتها). اما الانحراف عن العالم الواقعي الى العالم الافتراضي فانه ليس من العلم في شيء بل هو سياسة وفي صميم السياسة المنحرفة عن اصولها وافاقها معا.
[email protected]